السبت , نوفمبر 2 2024
مدحت موريس
مدحت موريس

ما بعد العودة .

بقلم مدحت موريس
سنوات امضاها بعيداً عن الوطن، كم داعبه الخيال بصور قديمة لذكريات الطفولة والصبا ثم الشباب، كم زارت احلامه صور متفرقة لوطنه ومدينته والحى الذى عاش فيه والشارع الذى شهد العاب طفولته.

سنوات امضاها بعيداً لم تبارحه تلك الصور الجميلة صور قديمة ابيض واسود تصورذكريات عمره التى امضاها، واخرى ذات الوان زاهية تترجم الصور التى تخيل وتوقع وتمنى ان تكون عليها صورة وطنه الحالية. لكن عينيه ابصرتا اشياء اخرى لم تتواجد لا فى الصور الواقعية التى عاشها قديماً ولا فى الصور الحديثة التى تخيلها وتمناها. فالشوارع – كل الشوارع – تبدو متشابهة فى بؤسها بقمامتها التى صارت كديكورات قبيحة تزين ارصفتها…

كنت ترى الناس فى الشوارع وكأنهم فى كرنفال بازيائهم المتعددة والمتنوعة لكنك الآن تراهم وكأنهم اتفقوا على زى موحد يبتعد تماماً عن اى مظهر للاناقة. شعر انه هبط على وطن آخر ومدينة اخرى بل بالتأكيد لقد اخطأ ورحل الى كوكب آخر.

اهذا هو الحى الذى نشأ فيه؟ اين الشوارع النظيفة؟ اين الحوارى والازقة المبهجة والاهم ….اين الوجوه الباسمة المتفائلة؟ تجول على قدميه فى شوارع الحى المتشابهة وشعور الغربة لا يبارحه حتى خشى ان يتكلم مع احدهم ويكتشف ان لغتهم قد اختلفت عن لغتهم فى الماضى. والحقيقة انه لم يكن مخطئاً فان كانت لغة اللسان لم تتبدل فلغة العقل بالتأكيد اختلفت وتبدلت ومحت لغة العقل التى عاشها فى الماضى.

لفت نظره كثرة دور العبادة فى الحى الصغير، فى كل شارع وحارة وزقاق بل وفى بعض الازقة هناك اكثر من دور عبادة. لم يشعر بلذة اجترار الذكريات وهو يتجول فى شوارع الحى القديم، تلاشت رائحة الذكريات الجميلة ولم يعد لها وجود فاستدار عائداً الى منزله وغصة فى حلقه تؤلمه. استرخى على احد المقاعد وقد وضع امامه بعض الالبومات القديمة والتى حوت صوراً قديمة له ولعائلته وايضاً للجيران والاصدقاء فى مناسبات متعددة..

تأمل الصور لساعات طويلة واكتشف ان تلك الساعات التى امضاها مع الصور القديمة قد رسمت ابتسامة عريضة على وجهه استمرت لساعات ولم لا يبتسم والوجوه التى رآها فى تلك الصور دائماً مبتهجة باسمة. قارن بين الوجوه فى الصور القديمة وتلك الوجوه التى رآها فى الشوارع، ربما نفس الوجوه لكن مع اختفاء الابتسامة!!!.

مجموعة اخرى من الصور القديمة احتفالاً بخطبة جاره وجارته والاثنان زاملاه بالجامعة وكان شاهداً على قصة حبهما الجميلة وصراعهما وحربهما مع الاهل لاتمام الخطبة السعيدة بل انه كان احد اسباب اتمام الخطبة بالدور الذى لعبه مع الاسرتين. تذكر حفل الخطبة الجميل وكيف غنوا ورقصوا حتى الفجر وكم اسف انه لم يحضر حفل الزواج الذى تم بعد سفره لكنه كان يراسل صديقه ايام كانت الخطابات هى وسيلة الاتصال المثالية فى ذلك الزمان. الغريب ان الزوجين – اصدقاء الماضى- سكنا فى شقة الاسرة المقابلة لشقته واندهش كيف يعلمان بقدومه ولا يفكر كلاهما او احدهما فى ان يطرقا بابه او يرحبا بعودته ام انهما لا يعلمان بقدومه؟. فكر قليلاً وهو فى نشوة مشاهدة صور الماضى، فتح الباب و تركه موارباً واتجه نحو الشقة المقابلة،دق جرس الباب ولم يسمع صوتاً للجرس…

تردد قبل ان يطرق باصابعه على زجاج “شراعة” الباب طرقات خفيفة ثم عاد الى الخلف عدة خطوات ووقف منتظراً. سمع خطوات تقترب ثم تبتعد فادرك ان هناك من نظر من خلال العين السحرية لينظر الطارق، طال انتظاره قبل ان يسمع الخطوات تقترب مرة اخرى ثم ينفتح الباب عن وجه عرفه على الفور “نادية” جارته وزميلة الجامعة عرفها رغم غطاء الرأس الذى ارتدته لتدارى شعرها. ابتسمت له ابتسامة خافتة وهى واقفة فى مكانها دون ان تبدو عليها مفاجأة رؤياه، بادرته “حمدالله ع السلامة.. هشام مش موجود، لما ييجى ح ابلغه انك وصلت بالسلامة” ثم هزت رأسها بالسلام آخذة خطوة الى الخلف واغلقت الباب، اما رد فعله فكان بأن هز رأسه هو الآخر بنفس الكيفية وهو مازال يبتسم ابتسامته العريضة التى اشعرته بالبلاهة. دخل الى شقته والدهشة تسبقه محللاً المشهد الذى عاشه لاقل من دقيقة. لم تهينه،لم تجرحه لكنه شعر بالجرح والاهانة.

امضى وقتاً فى مشاهدة التليفزيون وكانت اغلب البرامج على القنوات المختلفة برامج دينية وتربوية. غفا قليلاً وهو جالس يستمع لاحدهم فى البرنامج التليفزيونى وهو يعظ وينصح ويحذر المشاهدين من امور متعددة تمتد لكل اوجه الحياة حتى شعر انه من الافضل للانسان الا يتحرك من مقعده لئلا يفعل شيئاً من شأنه ان يغضب الله ويكون مصيره عذاب جهنم وبئس المصير.

ايقظه جرس الباب من غفوته فهب بسرعة ليفتح الباب وكما توقع كان هشام….احتضنا بعضهما البعض فى شوق وتأثر بالغين ثم دعا هشام للدخول وجلس فى مقابلته وهما يتحدثان عن الماضى والحاضر فى حديث روتينى خلا من اى حرارة واختصر هشام الحوار فى دقائق حتى انه اعتذر عن تناول كوباً من الشاى اراد ان يعده صديقه القديم، اختتم هشام الحوار بأن سأله عن المدة التى سيقضيها ثم صافحه متمنياً له اجازة سعيدة واتجه خارجاً لكنه التفت اليه فى مودة وطلب منه بكل ادب وذوق الا يطرق على بابه مرة اخرى الا بعد ان يتأكد من وجوده ثم اعطاه رقم هاتفه ليحدثه متى اراد. اما هو فارتبك واحمر وجهه ولم تسعفه الكلمات لكنه اعتذر عن مالا يعتقد انه اخطأ فيه ثم اوضح لهشام ان زوجته بمثابة اخته…..اجابه هشام…اعرف اعرف هى بمثابة اختك لكنها ليست اختك…قالها وضحك واتجه خارجاً. اغلق الباب خلف صديقه القديم وهو يراجع كلمات هشام الموجعة والتى اتت مع اول ضحكة يراها ويسمعها منذ عودته.

عاد للجلوس امام التليفزيون ليستمع لنفس الكلمات التى سمعها من قبل، نهض فجأة وافكار بعينها فى رأسه، اغلق التليفزيون ثم اتجه الى حجرة نومه وامسك بحقيبة سفره ووضع بها حاجياته القليلة التى اخرجها من الحقيبة….متمتماً شعب كلما اقترب من الله عبس وجهه واختفت ابتسامته، شعب يقترب من الله فيتحدث عن غضب الله وعقاب الله ولا يذكر مراحم الله…ادار قرص تليفونه الاسود القديم…واستطرد شعب يقترب من الله فينظر الى الآخرين منتقداً لاعناً تصرفاتهم واعمالهم…ثم جاءه صوت على الهاتف تاكسى مصر آلو..استطرد هو شعب يقترب من الله فلا يحدثك الا عن الشيطان ومكر الشيطان ومكيدة الشيطان ثم ينصحك قائلاً “اذكرالله” جاء الصوت الآخر على الهاتف…افندم؟ اما هو فرد بسخرية مُرة اريد تاكسياً لتوصيلى الى المطار.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

علام تتنازعون

علام تتنازعون.. تجتمعون كل نهار متفقين على تمزيق الجسد الحي وبالكبرياء تقترعون على هدر الدم …