بقلم : الأديبة السورية نادية خلوف
في سورية الشّمال، حيث السّهول الواسعة، والزراعة التي يمكن أن تسدّ مجاعة العالم بمنتجاتها من القمح الذي هجّنه السّوريون القدماء مع القمح البري قبل أكثر من ثمانية آلاف سنة. هذه المنطقة من سورية والتي تعني حالياً محافظة الحسكة بكل مدنها وأريافها كانت جزءاً من حضارة ما بين النهرين” دجلة، والفرات”
لن نعود إلى تاريخ ألواح ملحمة” جلجامش” التي هي جزء من حضارة ما بين النهرين، والتي تحدّثت عن الطّوفان الكبير.
عندما طغى جلجامش أرسلت الآلهة له أنكيدو الذي صرعه، ومن ثمّ أصبحا أصدقاء.عندما بحث جلجامش عن الخلود ومعنى الحياة بعد أن مات أنكيدو, لم يجد الجواب إلا عند صاحبة الحانة:
إلي أين تسعي ياجلجامش؟
إن الحياة التي تبغي لن تجد.
حينما خلقت الآلهة العظام البشر.
قدرت الموت علي البشرية.
استأثر تهيب الحياة.
أما أنت ياجلجامش فليكن كرشك ممتلئاًعلي الدوام
كن فرحا مبتهجا مساء، وأقم الأفراح في كل يوم من أيامك.
وأرقص وألعب مساء نهار.
وأجعل ثيابك نظيفة زاهية
وأغسل رأسك واستحمّ في الماء
ودلّل الصغير الذي يمسك بيدك
وأفرح الزّوجة التي بين أحضانك.
كانت هذه الألواح قبل أكثر من أربعة آلاف عام.
هذه الألواح التي دعت إلى الاستمتاع بالحياة لأنّها قصيرة تمثّل تلك الحضارة التي بادت. ولم تعد إلى الانبعاث من جديد. كل شيء في الوطن العربي يتراجع.
بقي من تاريخ المكان الذي هو الجزيرة السورية العليا ذلك المزيج من الأقوام الذين تعايشوا مع بعضهم البعض على مرّ التاريخ، قبل عشرين عاماً كانت الجزيرة خليطاً من العرب، الكرد، السريان، الأشوريين، اليزيديين، الصّابئة، وأقوام أخرى محدودة، وعندما نتحدث عن سرياني، وآشوري، نتحدّث عن قوميّة أخرى تعتنق حالياً الديانة المسيحيّة، وكانت سابقاً تؤمن بتعدد الآلهة.
ماذا بقي من حضارة ما بين النّهرين؟
هل يتحمّل داعش وحده المسئولية؟
داعش لم يأت من المرّيخ، وهو منظمة إرهابية بكل تأكيد، لكنّ الهجرة من الجزيرة بدأت من قبل داعش، وكانت البداية مع اليهود السّوريين الذين كان لهم كنيس في مدينة القامشلي يمارسون فيه عباداتهم ، ثم ضاق عليهم المكان وخافوا على أنفسهم لأنّ الثقافة الشّعبية كانت تقول بأنّ كل يهودي هو خائن.تركوا المكان، وبقي الكنيس دون رواد، اليهود الأغنياء لم يذهبوا إلى إسرائيل، وحتى في إسرائيل لهم تجمّعاتهم ، يغنون باللهجة السورية الجزراوية.
استولى الأمن العسكري على أملاك اليهود، وأقام عليها أبنية لصالح أفراد يؤجرونها لمدة تسعة وتسعين عاماً.
تلت هجرة اليهود. هجرة السريان والأشوريين الذين كانوا مرتبطين بقراهم أكثرهم يعيش في قرى متجانسة ، لكن ذاكرتهم تحتفظ بمجازر سيفو في الدّولة العثمانية التي جعلت بعضاً منهم يلجأ إلى الجزيرة السورية، ويصبح جزءاً من المكان الذي بالأساس يتواجد فيه أهلهم. ومن بعض الأسباب أيضاً اتهام بعض أبنائهم بالخيانة والولاء لأمريكا، وأسباب أخرى أتت من أجلها الوزيرة السويدية المسئولة عن ملف الهجرة في السّويد إلى سورية، والتقت ضابط أمن في القامشلي استفسرت عن أوضاع السّريان الذين هاجروا وقت أحداث لبنان في الثمانينيات من القرن الماضي.
الإيزيديون مكوّن أساسي من مكوّنات الجزيرة السّورية العليا أيضاً، وهم يسجّلون في الدوائر الحكومية كمسلمين مع أنّ ديانتهم لا تمتّ إلى الإسلام بصلة، هم ديانة قديمة، أينما حلوا في الغرب يمنحون اللجوء الديني كونهم لا ينتمون للديانات السماوية، وهذا الانتماء يهدّدهم بالقتل ضمناً.
على أطراف نهر الخابور ازدهرت القرى الآشوريّة، وكان سكانها متمسّكين بالمكان ، أما الآن فقد أصبح المكان أثراً بعد عين. وبعد أن انسحب داعش من القرى الآشورية التي احتلّها لم يعد هناك بشر، ولا كنائس فقط أكوام من حجارة. فجرتها الدّولة الاسلامية. ولا زال الرجال أسرى لديها.
أعتقد أنّ الكثير منا داعشيون بطريقة ما. نحن نرفض الآخر إلا إذا أصبح نسخة طبق الأصل عنّا. هذه الثّقافة العربية التي تعتمد على مفهوم العبوديّة. ثقافة لا يمكن لها أن تستمرّ، وأصوات الأحرار ستكون لها بالمرصاد.
لا ندري ماهي التّطورات المقبلة في منطقتنا، لكن لا بد أن تدور الدوائر على البغاة أينما كانوا، ونأمل أن تحلّ الرّحمة في قلوب البشر. . .