بقلم ..إيليا عدلى
(8) الثورة البيضاء
في صاله الإستقبال لمكتب الأستاذ محمود المحامي إنتظر المعلم الجندي والمعلم سمعان والمعلم عبدالودود ومينا، حتى خرجت السكرتيرة تقول لهم:
– اتفضلوا..الأستاذ نصار مكتبه على اليمين.
دخلوا جميعاً مكتب الأستاذ نصار الذي رحب بهم مبتسماً، وطلب منهم الجلوس، ولكن راوده القلق عندما نظر للمعلم الجندي الذي يكاد يبكي وكل جسده يرتعش..وأخبروه بكل ما حدث في تلك الظهيرة..تحول القلق والتحفز الى وجه نصار..وهمَّ واقفاً بسرعة يلملم أوراقه على المكتب ويضعها في الحقيبة سائلاً المعلم الجندي عن ميعاد تسليم إبنه كما قال له البلطجي، فأخبره بأنه اليوم التالي في الساعة الرابعة فجراً..تحرك نصار خارجاً بسرعة ووراءه الجميع عازماً التوجه إلى ديوان الشيخ بركة..أمر مينا أن يسبقهم بسرعة إلى منزل الحاج حسن ويقول للأستاذ رفيق أن يلحق بهم على الديوان وأن يذهب إلى الكنيسة ويقول نفس الكلام لأبونا مرقس..أومأ مينا برأسه سريعاً بتوتر قائلاً:
– حاضر يا أستاذ نصار.
وجري في خفة لتنفيذ ما أُمر به..هرول الجميع خارج المكتب..وأثناء مرورهم في الحارة تحدث نصار الى بعض ممن قد يحتاجهم لهذا الأمر في الديوان..حتى أصبح عددهم اكثر من ستة عشر رجلاً يهرولون نحو الديوان، وبمجرد ان دخلوا الديوان، وصل القمص مرقس ورفيق..شرح نصار لهم ما حدث وطلب اقتراحاتهم، فرد أحدهم: – إحنا نبلغ الشرطة علشان معاها سلاح..إحنا معندناش.
رد المعلم الجندي بسرعة في رعب مرتعشاً:
– لا..أبوس ايديكم..أنا عايز إبني حي..دا وحيد على أربع بنات ،وسندي في الدنيا..أنا عندي استعداد استلف الخمس الآف واسددها..ومستعد أكتب بيها شيكات..ايصالات امانة..أي حاجة..اي حاجة..
قاطعه نصار غاضباً:
– لو كل مرة خطفوا حد وادينالهم فلوس، هيكرروا الخطف كل ما يحتاجو اموال للسلاح او حتى كيفهم وشربهم.
سأل احد الحاضرين:
– يعني ايه؟
– يعني “ما أُخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة”.
رد المعلم الجندي مزعوراً:
– يا أستاذ نصار..أبوس إيدك..مش عايز أخسر ابني.
طمأنه نصار ووعده بأنه سيرجع له إبنه دون أن يمسسه سوء، ودون أن يدفع مليماً، وجز على أسنانه واعداً بحلول وقت الجلاء..جلاء البلطجية الكامل عن الحارة..مال رفيق برأسه وهمس في أذن نصار لعدة دقائق قائلاً:
– إسمع يا نصار أنا عندي فكرة هاتساعدك..اديني فرصة أروح أقابل النقيب (صلاح المر) ظابط المباحث بتاع القسم..فاكر صلاح المر؟
همس له نصار سائلاً عن صلاح المر، فأخبره رفيق بأنه كان زميلهم بالمرحلة الثانوية ونقل إلى مباحث القسم بالحارة، أخبره نصار بعدم رغبته في تدخل الشرطة وتعريض حياة الفتى للخطر، فأخبره رفيق بأنه يفكر في طريقة فاعلة سيضرب بها عصفورين بحجر واحد، سينقذ خالد وسيتخلص من البلطجي ابو سنجة..إقتنع نصار إعتماداً على ثقته برفيق وقال:
– طب روح بسرعة من غير ما تقول لحد، وارجع بسرعة علشان محدش يا خد باله..استنى..انت مالي ايدك من النقيب صلاح؟
– طبعاً يا نصار..دا صاحبي..وبعدين دا عارفك كويس..لو شفته هتفتكره على طول.
– طيب..ربنا يوفقك.
خرج رفيق بسرعة من الديوان بعد ان بدأ نصار بالعودة للحوار مع الحضور..واستمر الاجتماع لساعة كاملة..ظل نصار يستهلك فيها الوقت في تلقي اقتراحات والرد عليها، حتى رجع اليهم رفيق الذي دخل خلسة في هدوء كما خرج، وهمس في اذن نصار بكل ما اتفق عليه رفيق مع النقيب صلاح المر، ولما فرغ رفيق ظهر ارتياح كبير على وجه نصار الذي التقط طرف الحديث من آخر متحدث ليشرح لهم ما سيتم فعله:
– شوف يا معلم الجندي..انت دورك أهم دور فينا كلنا.
اعتدل المعلم الجندي واظهر انتباهاً وطاعة وأومأ برأسه:
– أيوة يا استاذ نصار..انا جاهز..ان شاالله أضحي بروحي.
– فيه واحد هايجيلك البيت الساعة تلاتة بعد نص الليل..هايديلك شنطة فيها خمس آلاف جنيه..تاخدها وتروح بيها أول الطريق الصحراوي زي ما قالك البلطجي.
واستمر نصار في شرح ما سيقوم به كل فرد من الاشخاص المطلوب منهم مساعدة، حتى فرغ من كل الأدوار، وعاد فسمع من كل واحد دوره كتلاميذ المدارس، ثم طلب من الجميع الانصراف للراحة في بيوتهم حتى الثالثة فجراً ليكون الأداء جيداً..وانصرف الجميع.
في الثالثة فجرأ بالضبط طرق شخص ما باب المعلم الجندي الذي كان منتظراً في صالة بيته وبجواره زوجته التي لم تكف عن النواح واللطم، وبناته الصغار الذين بكوا ليلاً حتى تعبوا وناموا..فتح الجندي الباب..أعطاه الرجل حقيبة ورحل دون أن بنطق ببنت شفا..دخل الجندي الشقة واغلق بابه وفتح الحقيبة فوجد بها رزم نقود جديدة تلمع فئة العشرة جنيهات..وعدها ليجدها خمسة آلاف جنيه..نزل الجندي من شقته وزوجته تمطره بسيل من الدعوات وهي باكية ومرعوبة:
– ربنا يرجعك بالسلامة وينقذ ابني يا قادر يا كريم..ربنا يحميك يا كبدي..يا ولدي..يا رب.
خرج المعلم الجندي مهرولاً ليصل في موعده، وفعلاً وصل الى أول الطريق الصحراوي في الرابعة إلا عشر دقائق، ووقف منتظراً..بعد دقائق وصلت سيارة نقل تحمل عمالاً في الخلف يرتدون جلاليب وعمم بيضاء صعيدية، وعلى وجوههم كوفيات بنيه تخبئها، ودخلت السيارة النقل الى محطة البنزين على بعد حوالي مائة متر من المنطقة التي يقف فيها الجندي..وبعد ربع ساعة جاءت سيارة ليموزين سوداء وقفت أمام الجندي، وفتح نفس البلطجي -الذي جاءه الحارة- بابها الخلفي وسمع صوته الحاد الخشن يأمره:
– إركب..إركب بسرعة.
ركب المعلم الجندي السيارة بسرعة، وجلس بجوار البلطجي بالكنبة الخلفية..وسأله البلطجي بحدة:
– جبت الفلوس؟
مد الجندي الحقيبة له وفتحها..عد البلطجي النقود، وقال له:
– مظبوط..جدع يابو الدكر..انا معجب بالواد إبنك ده..طلع واد جدع..لا بكى زي العيال ولا خاف مننا..الواد ده مستقبله معانا لما يكبر..(ضحك البلطجي).
المعلم الجندي تمتليء عينيه بالدموع خوفاً على ابنه ويحاول أن يبتسم للبلطجي على كلامه ولكن الرعب شوه ابتسامته لتخرج ملطخة بالرعب..تحركت السيارة التي يركب فيها العمال خلف الليموزين السوداء وحافظت على مسافة كافية لا تسمح للبلطجية الشك فيها..شقت السيارتان سكون الفجر لمسافة مائة كيلو متر حتى انحرفت الليموزين يميناً في الرمال عند مخزن كبير للبضائع. ونزل البلطجي وزميله السائق وأدخلا الجندي الى داخل المخزن..ظهرأبو سنجة حاملاً سلاح آلي ووقف امام الجندي الذي لا يتبقى فيه أي طاقة او قوة من كثرة الحزن والسهر والتعب في المحل، ووقف ذليلاً منتظراً إنقاذ ابنه..أبو سنجة ضرب على كتف المعلم الجندي بماسورة البندقية بخفه ساخراً:
– خلاص يا معلم بقيت مطيع ولا لسة؟
رد الجندي بمذلة وانكسار:
– اللي تأمر بيه يا معلم ابو سنجة على رقبتي..وأنا جبت الفلوس اللي انت طلبتها..ممكن اشوف ابني؟ ابوس ايدك يا معلم..
وينحني الجندي تحت أبو سنجة ويقبل يده عدة مرات..فيأمر أبو سنجة:
– هاتوله ابنه.
فيدخل في الحال خالد ويجري على والده الساجد تحت قدمي أبو سنجة ويحضنه وينوح قائلاً لوالده:
– متعملش كدة تاني..قوم يابويا..قوم..متوطيش لحد تاني.
يأخذ ابو سنجة حقيبة النقود ويصرف خالد ووالده خارج المخزن:
– خد إبنك وامشي من هنا قبل ما أغير رأيي وأخلص عليكم انتو الأتنين.
أخذ خالد والده المنهك ويخرج بسرعة خارج المخزن، إستمرا في السير على الطريق الاسفلتي، حتى تقدمت نحوهم السيارة النقل وتوقفت بجوارهما، دخل المعلم الجندي وخالد داخل السيارة، وينزل منها النقيب صلاح المر ورجال الشرطة السبعة الذين معه..خلعوا عنهم الجلاليب والقوها، وأخرجوا من تحتها الاسلحة ومعهم رفيق ونصار وخمسة من أهل الحارة..أمر النقيب صلاح السائق بسرعة إخلاء خالد ووالده:
– بسرعة يا عسكري..أخلي خالد وأبوه من هنا.
رفع اللاسلكي وتحدث للقوة المتتبعة لهم:
– بدأنا الهجوم..القوة تتحرك.
وركض الجميع نحو المخزن، وأمر النقيب صلاح المر بضرب النار في الهواء اثناء الأقتحام لإرهاب البلطجية..وبعد دخول المخزن ورجال الشرطة يشهرون سلاحهم، وأهل الحارة خلفهم، تسمر أبو سنجة في مكانه برؤية النقيب شاهراً سلاحه، وسماع صوته المهدد بأن يرفعوا أيديهم في الهواء وإلقاء أسلحتهم أرضاً، وضع أبو سنجة سلاحه على الأرض، وأمر الجميع العمل بالمثل..يتقدم رفيق ليأخذ سلاح أبو سنجة، يتظاهر أنه تعثر، وسند على جسد أبو سنجة، الذي وقف رافعاً يديه، ودس رفيق شيء ما في جيبه، ثم تحدث أبو سنجة بثقة وهدوء:
– يا صلاح باشا كدة غلط..الأسلحة دي مرخصة باسم صاحب المخازن لحمايتها..وسيادتك عارف مين صاحب المخازن دي وممكن يعمل ايه..ولو حد كذب عليك وقالك ان احنا بنخطف عيال يبقى كداب..خش يا باشا فتش براحتك مش هتلاقي حد.
– ومين قالك ان إحنا بنتهمك في عيال ولا مؤاخذة..انت مش بتاع عيال يا ابو سنجة..ولا بنتهمك في سلاح..السلاح ده إحنا اللي ماضيين للي مشغلك على ترخيصه.
– فيه ايه بس يا باشا؟!
– إنت واللي مشغلك فاتحين المخزن لتزوير العملة..ولو اللي مشغلك أنكر هاتشيلها لواحدك يا حلو.
– يا باشا خش فتش المخزن..إحنا منعملش كدة..ربنا تاب علينا بعد السابقة اللي اتشطبت يا باشا.
– والشنطة دي يا أبو سنجة مش بتاعتك؟!
– أيوة يا باشا بتاعتي..ودي مالها بالموضوع؟!
– ما هي دي الفلوس المزورة اللي بتزوروها يا ولاد الكلب.
استشاط ابو سنجة غضباً وبدأ في فهم المصيدة التي صنع هو طعمها بنفسه وأوقع نفسه فيها، ولم يجد رداً ليقوله.
أمر النقيب صلاح أحد الجنود:
– فتشه يا بني.
فتش العسكري جيوب ابو سنجة وأخرج من أحدها لفة بنية اللون، ويتقدم ليعطيها للنقيب صلاح الذي يفتحها بدوره ويشمها قائلاً:
– وكمان أفيون يا أبو سنجة..أهي قضية تانيه أهي..خدوه على البوكس.
ينظر نصار الى اللفة البنية وحين تذكر اين رآها من قبل ابتسم ونظر لرفيق الذي غمز له بعينه باسماً..خرج الجميع ليجدوا قوة الشرطة بالكامل وصلت، وتحاصر المخزن من الخارج، فدخل الجميع الى سيارات الشرطة التي نقلتهم الى القسم.
نجحت الثورة البيضاء للحارة بعد ان وقف اهل الحارة في مساندة جنودها ، ونالت الحارة حريتها.. وينتظر البلطجية سنوات من السجن يدفعون فيها من عمرهم وشبابهم وحريتهم قصاصاً لما فعلوه من اجرام في الحارة..استمتع الجميع بنوماً هنيئاً في الصباح حتى وقت متأخر من الظهيرة ليتقابل الجميع في الديوان في المساء احتفالاً بعودة (خالد)، وعودة الهدوء الى الحارة.
الوسومأسياد حارتنا
شاهد أيضاً
“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “
بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …