بقلم الأب د. أثناسيوس حنين مطرانية بيرية اليونان
“أجمل ما تكون أن تخلخل المدى والأخرون –بعضهم يظنك النداء …وبعضهم يظنك الصدى” .. أدونيس
دموع أمى المريضة جسدا والمشتاقة حبا أجبرتنى على الذهاب الى مصر بعد غيبة طالت ’لم أصدق حينما قالوا لى أنها عشر سنوات !!!…مصر التى فى خاطرى وفى دمى .. ذهبت الى المحروسة لا أحمل بين ضلوعى الا قلمى وحبى لهذا البلد.
ذهبت فى زيارة عائلية عاجلة وخاصة وبدون أعلانات ، فأستقبلتنى العائلة المصرية كلها بكافة أطيافها . لم تكن أمى تعلم أنها قد حجزت لى يوم 25 يناير فى يوم ذكرى ثورة يناير مع أنها كانت قد أنتخبت السيسى وذهبت الى صندوق الانتخابات حاملة صورته بالالوان (هى تعدت الخامسة والثمانين). حللت أهلا فى مطار القاهرة الدولى ..
المطار هادئ والحركة شبه عادية،ابتسامة ضابط الجوازات الشاب بددت مخاوفى وزادت يقينى بأن حبى لهذا البلد وجهادى من أجله لم يضع سدى ولم يذهب أدراج الرياح. دخلنا مصر أنا وزوجتى فعلا بسلام آمنين.
أستقبلنى صديق قديم وصل الى منصب رفيع فى وزارة العدل.
خرجت قيادات المطار تستقبلنا.
ركبنا السيارة التى ستقلنا الى سمالوط (الاسم مصرى قديم)…الطريق هادئ ’ الا من مدرعات الجيش المصرى ..أعتاد الناس رؤية المدرعات ’ شعب طيب يرى فى اسلحة الحرب رسل سلام ! الدولة ارادت طمأنة المواطنين فكتبت على المدرعات (جهاز حماية المواطنين) ’ المصرى لا يحارب أحد ’ مسالم بطبعه..يحب الحياة ويضحك عليها ويسخر منها ويقبل ويدبر عليها ويجامل حتى الموت (تعدمنى لو ما كلنتش حتة اللحمة دى .. وتكون الحنة دى من ديك رومى وعاشر حتة !!!)’ يلفتك كثرة مواكب الافراح عند المسلمين والمسيحيين.
اذا لم نسمع فى الاخبار عن التفحيرات فى سيناء او غيرها لا يشعر المصريون بأن بلادهم فى حرب مع جنود الشيطان . طبيعة مصر الجغرافية وامتزاج ومزاج أهلها وعدم وجود (جيتوهات) دينية (قالوا لى أن اتباع الحكم السابق حاولوا صنعها )’ يجعل من المستحيل أن ينجح مخطط الفتن الداخلية .
لا يوجد عملاء مهنيين ومحترفين للفتنة فى الداخل.
لقد أحتضنتى أمهات المسلمين وقبل أيادى كبارهم بشكل يعبر عن أصالة هذا الشعب.
تمشيت فى الشوارع ’ قس بيزنطى يتمشى فى شوارع سمالوط ’ بحثت عن عم جاد الله بائع الصحف المسلم حبيب ابوى ’ وجدت ابنه شعبان ’ اشتريت الجرايد منه كما عودنى ابى ’ التقطت الفرح .
التقيت اسقف سمالوط القبطى وهو طبيب سابق وقدمت له هدية من مطران بيرية البيزنطى سيرافيم ’ ايقونة الشهيد اليونانى أفرايم الذى قتله العثمانيون ومثلوا بجتثه بضعة سنوات قبل ثورة اليونانيين الاستقلالية عام 1821 .
الشهداء الحقيقيون هم وقود الثورات والصحوات والاستنارات وجالبوا البركات.
فى لاهوتنا لا يموت أحد فى سبيل الله ’ بل يموت الانسان ليفدى الانسان برمته و أمته ويحفظ تراثه وهويته.
حكى لى سيدنا عن الانشاءات والمشاريع الصحية والتنموية فى البلدة ’ لما لاحظ عدم حماسى للمشاريع وقلقى على الدراسات اللاهوتية ’ طمأنى بأنه قد قام بدعوة الاخوة الدكاترة علماء اللاهوت فى مركز الدراسات الأبائية فى القاهرة (كلهم تخصصوا فى اليونان ببعثات سخية من وزارة الخارجية اليونانية والكنيسة اليونانية)
لعمل كورسات تنويرية للكهنة والشباب فى الايبارشية . مبادرة رأئعة وجديدة ’ تبشر بعهد جديد .
عدنا الى القاهرة لحضور عرس الثقافة (معرض الكتاب الدولى) ’ يذهلك الحضور الكثيف من الشباب والصبايا ’ المحجبات والسافرات ’ الشيوخ يتجولون فى ركن الكتب المسيحية مع القسوس يبحثون عن اسلام حضارى متجذر فى ثقافة مصر ’ المكتبات الاسلامية و المسيحية بكل أطيافها تذهب عنك خرافة أن هذا الشعب جاهل لا يقرأ .
الحاجز المتوسط بين الناس ’ يسقط فى محراب الكتب ومعابد الثقافة وهياكل الاستنارة. تشعر أن الخطاب الدينى فى مصر يتحسس قضايا الانسان وهمومه وحريته ’ الاسلام والمسيحية فى مصر ’ كل منهما على طريقته ’ يبحثان عن أنسنة الخطاب الدينى ’ لعلهم عادوا للايمان بأن الانسان هو الحل وأن للشعب دورا فى فحص النصوص المقدسة ,ان الوحى تاريخى النهج والمنحى ’ هذا فى التراث المسيحى له جذور لاهوتية بينما هو جديد فى الفقه الاسلامى ’ هل أن الأوان لتحدث معجزة التثاقف بين جناحى الثقافة المصرية ’ هل أتت الساعة لاعتبار التراث المسيحى جزءا أساسىا من التراث المصرى .
هذا يستدعى جهدا لاهوتيا ومبادرات مسيحية خلاقة وشجاعة فقهية وعلماء مسلمين مبدعين.
صديقى كاهن قبطى عالم يسعى لتوثيق التواصل بين حكمة المصريين القدماء والعبادة فى الكنيسة المصرية من خلال رسالة دكتوراة ’ سهرنا ليلة حتى مطلع الفجر ’ أترجم له مرجعا هاما من الفرنسية ونتحاور حوارا أكاديميا وما أرقى ’ هذا النوع من العلماء لابد من الذهاب الى مصر لتراه.
رأيت فى أحد القنوات الفضائية برنامجا يجرى استفتاء بين الشباب حول سؤال : هل صناعة المستقبل صدفة أم ترتيب الهى ؟ وما هو دورك ؟
الجدلية بين دور الله ودور الانسان بداية رائعة لكى يتخلص المصريون من القدرية الوسواسة التى توسوس فى صدورهم لكى ما يتلقوا الحياة قدرا بدلا من أن يصنعوها ابداعات .
يبدوا أن المصريين قد بدأوا يسألون العقل بالمعنى الديكارتى فى معتقداتهم وثوابتهم .
وراء ذلك كله قائد الاوركسترا التجديدية الذكى والواعى وفوق ذلك الانسان الرئيس عبد الفتاح السيسى . أمثالى من جيل وعود ثورة الباكباشى جمال عبد الناصر لم يتحمسوا لحكم العسكر فى البداية
ولا أومن شخصيا بأن هذا الشعب و أى شعب عربى (مالوش غير الجيش يحكمه!!!) ’ لكن أداء الرئيس يجعلك تشعر أن الجيش سيعود الى ثكناته بمجرد استتاب النظام البرلمانى واليات الدولة الحديثة والتى عايشت المخاض بها من خلال متابعتى لتحركات وتصريحات وأفعال الرئيس بل والأهم رأى الناس فيه والآمال المنعقدة عليه.
الرئيس الذى يطلب تجديد الخطاب الدينى الاسلامى وأنا أقول معه والمسيحى اللاهوتى أيضا ’ الرئيس الذى يزور كنيسة الاقباط فى ليلة عيد الميلاد بهذه العفوية غير المسيسة وغير المسبوقة (سوف نعود فى مقال خاص عن الرئيس بعنوان : يا سيسى….. يا سيسى).
أهلنا بخير فى المحروسة فى قلب الله كما قال بطريرك الاقباط ومن جيشها الباسل ومن إعلامها الحر الناقد وليس الناقم ومثقفيها وعلمائها وشعبها الواعى فى تواضعه.
كيف تغادر (الخورا دى نيلوا) بلد النيل دون أن ترى بطريرك الروم الذى يستقبلك بكل ما خلع عليه التاريخ من أمجاد مصر البيزنطية ’ مع بساطة الانجيل . لقد مضى تاريخ بيزنطة العسكرى وبقى بهائها الثقافى واللاهوتى .
لم يعد البيزنطيون فى مصر محتلون أو أستعماريون بل قلة تسعى مع من يريد لبنيان مصر ..يبحثون عن قنوات تواصل ..يرفضون العزلة وهم لا يستكبرون ..لا يمارسون الاقتناص او التبشير ’ يبشرون فى أفريقيا ويعمرون بالحب القارة السوداء ,,يشعرون أنهم فى مصر مع كنيسة شقيقة رسولية ويتألمون للشقاق ويسعون لرأب الصدع ولكن على أسس تاريخية وعقائدية ولاهوتية مستقيمة حتى لا تحدث شقاقات أخرى من جراء الاستعجال فى وحدة شكلية ومجاملاتية (الرهبان فى الجبل المقدس أثوس فى اليونان يطالبون ومعهم كبار بعض المطارنة اللاهوتيين والكنيسة الروسية والشعب الواعى بضرورة مراجعة ما تم من اتفاقيات لاهوتية فى صالونات جنيف وبعيدا عن الواقع الكنسى واللاهوتى والحس الشعبى للكنيستين البيزنطية والقبطية) .
الروم فى مصر يرفضون العزلة و يشاركون المسلمين ثقافتهم ونهضتهم وفرحتهم وأحزانهم (الأب بند ليمون فى دمياط خير مثال) ويشهدون لتراث لهم عريق .
مسك الختام كان فى وادى النطرون حيث أديرة ومناسك مصر العريقة وما تبقى من القرن الرابع’ ما يحزن الباحثون أن الحوائط الأثرية القديمة قد أختفت أمام غزو المبانى الحديثة ’ تعمير الأديرة يحتاج الى علماء أثار ولاهوتيين فقراء بالروح وليس فقط مقاولون أغنياء بالمال !!! ’ الرهبان القبط يصلون ويزرعون ويكتبون ويستقبلون جموع الجياع والعطاش الى الهدوء وسط زحمة المدينة (سكان القاهرة 35 مليون ومصر كلها 90 مليون).
ما لفتنى أن الأغلبية من الرهبان شباب جامعيون وأنهم يقبلون بشغف على اللغة اليونانية واللاهوت تالبزنطى بلا عقد ولا أحكام مسبقة. أستقبلونى بحب كبير ’ بعض الأباء القدامى تعرف على وفرح أننى فى مصر وبخير ’ لأن خير العلماء هو من خير مصر.
بارك الله فى شعب مصر وقياداتها