الإثنين , ديسمبر 23 2024
الرواية

الفصل السابع من رواية أسياد حارتنا .

الرواية
الرواية

المؤلف إيليا عدلى
(7) يختطفون زهورنا
عاد كل الاطفال من المدرسة عند الظهيرة كالعادة يملأون الميدان الواسع أمام المسجد ومنزل الشيخ بركة بالصغب واللهو والمزاح، وينهض درويش ليشاركهم اللهو، ولكن الاطفال يبتعدون عنه أحياناً ويزفونه بالاهانة احياناً قائلين:
– “العبيط اهه..العبيط اهه”.
لا يأبه درويش بكلمات الاطفال، ولكنه يكون سعيداً عندما يصنع الأطفال حوله دائرة ويزفونه بالاهانات وهم يصفقون ويضحكون..ويحزن ويتراجع وينكمش تحت حائط منزل الشيخ بركة، أو حائط المسجد بجواره عندما يتجاهله الأطفال ويبتعدون..كالعادة يدخل (مينا) وحقيبة المدرسة معلقة في كتفه الى ورشة والده ليحكي له يومه قبل ان يعود الى منزله، ولكن هذه المره ليس معه صديقه (خالد) كالعادة، وعندما رآه المعلم الجندي خرج من محله وإتجه نحو ورشة المعلم سمعان وتحدث معه:
– ازيك يا مينا.
– الحمد لله يا عم الجندي.
– أمال فين خالد؟ أول مرة يعني تيجي من المدرسة لوحدك!
– دا الفصل بتاعه خرج بدري عننا إنهاردة، أنا افتكرته وصل قبلي بكتير!
ظهر القلق على وجه المعلم الجندي وتحرك لا ارادياً ذهاباً واياباً أمام المحل ممسكاً ذقنه مطأطأ الرأس لأسفل يفكر..خرج المعلم سمعان من تحت السيارة التي يصلحها ووجهه ويديه مغطى بالشحم وينظر للمعلم الجندي:
– خير يا أبو خالد..مالك؟!
ضرب الجندي كفاً على كفٍ وإرتعش قلقاً:
– مش عارف!..العيال خرجت من المدرسة بقالها ساعتين دلوقتي والواد ما ظهرش..استرها يا رب..
– ان شاء الله خير يا راجل..متقلقش.
نظر المعلم سمعان الى الصبي الذي يعمل لديه بالورشة وأمره:
– خد بالك من الورشة ياض يا كيمو لغاية ما أرجع.. وإلتفت للمعلم الجندي: – اقفل محلك وتعالى بينا يا ابو خالد نروح نشوفه في المدرسة وان شاء الله خير.
– يارب..استرها.
لم يكد ينتهي الجندي من إغلاق محله بمساعدة سمعان حتى نظرا خلفهما ، ليجدا واحداً من بلطجية أبو سنجة يتجه نحوهما ثم تحدث الى المعلم الجندي:
– افتح تاني..عايزك في كلمتين على انفراد يا معلم الجندي..جوة محلك.
يرد عليه سمعان مستشيطاً غضباً:
– مش وقته يا أخينا..إرحمونا شويه..
يقاطعه الجندي لاهثاً من كثرة القلق وفي انكسار تام:
– أبوس إيدك استنى يا سمعان..
وفتح الجندي باب محله مرة أخرى ودخل ووراءه البلطجي..تبعهم سمعان فمنعه البلطجي قائلاً:
– أنا قلت المعلم الجندي لوحده.
نظر سمعان قلقاً الى الجندي الذي يفرك كفيه في قلق بالغ، وقال له الجندي: معلش يا سمعان..معلش..متقلقش..استنى خمس دقايق.
تراجع سمعان وخرج في الشارع يراقب البلطجي من بعيد يتحدث الى المعلم الجندي..ومينا ابنه يمتليء من الغيظ وبسبب قله الحيلة لأنه طفل، عاش أحلام اليقظة وحلم بأنه مفتول العضلات، قوياً، يكيل اللكمات للبلطجي في فكه وبطنه انتقاماً لكرامة والده ووالد صديقه، ولم تمر لحظات حتى رأي سمعان المعلم الجندي يهب واقفاً فجأة ويقبض على ملابس البلطجى فوق صدره الذي يكاد ينفجر من كثافة عضلاته..وصرخ المعلم الجندي: إبني..إبني..
فدفعه البلطجي بقوة أردته على ظهره كالدمية الصغيرة عندما تُلقى على الأرض، وخرج من المحل هادءاً واثقاً وانصرف..عندما رأى سمعان هذا المشهد، اندفع الى المحل ورفع الجندي من الأرض وأجلسه على الكرسي وهدأه، وخرج المعلم عبدالودود بسرعة عندما لمح سمعان يجري هكذا، ودخل محل المعلم الجندي ليراه جالساً واضعاً رأسه بين كفيه ويبكي كالنساء:
– إبني ضاع..أنا السبب..
عبدالودود يسأله قلقاً:
– هو فيه إيه يا أبو خالد..حصل ايه؟!
ويلاحقه سمعان بالسؤال:
– الواد البلطجي ده قالك ايه؟!!
يرد المعلم الجندي منهاراً:
– من يوم ما خرج أبو سنجة من السجن وأنا رافض أديهم الأتاوة..أديهم منين يا ناس؟! مصنع الملابس بتاع الحاج صفوت ومحلات الملابس بتاعته خربت بيتنا..الناس بطلت تفصل هدوم وبتشتري جاهز.
– طب وخالد؟!
– خطفوا خالد من قدام المدرسة وطالبين خمس آلاف جنيه عقاباً لي، والبلطجي قاللي “لو الشرطة شمت خبر، إبنك هايندبح”..يا ناس حرام كدة..والله حرام.
– إهدأ يا معلم..ان شاء الله خير وكلنا معاك لغاية ما خالد يرجع بالسلامة.
واقترح عليهم المعلم عبدالودود الذهاب فوراً الى مكتب الأستاذ نصار وعرض المشكلة عليه ليساعدهم بالرأي السديد..واستفسر المعلم سمعان عن مشغولية الاستاذ نصار بشهر العسل، فأخبرهما عبد الودود بأنه رآه خارجاً للعمل منذ يومين بعد إنتهاء شهر العسل..هرول الثلاثة، يتبعهم مينا الى مكتب الأستاذ نصار..يمرون بجوار درويش الذي انهكه اللعب مع الأطفال، فمدد جسده على الارض بجوار الجامع يتمتم بكلمات غير مفهومة، وسمع خطواتهم يهرولون وصوت المعلم الجندي يقول قلقاً:
– يارب .. استرها.
فردد درويش الكلام كالببغاء دون ان يلتفت لمصدره:
– “يا رب..سيدك..استرها..سيدك”
في تلك اللحظة..نزل صفوت بيه من مكتبه الذي يطل على الميدان..ورأى درويش على الأرض بجوار الجامع فقال لحارسه:
– روح يابني هاتلي الواد درويش..لا حول ولا قوة الا بالله.
فركض الحارس ووصل فوق جثة درويش ولكزه بقدمه قائلاً:
– قوم ياض يا درويش كلم صفوت بيه..وعندما تباطأ درويش كعادته في الحركة اضطر الحارس ان يشده من يده بقرف، وتركه يتحرك حتى أصبح امام صفوت بيه الذي اخرج محفظته المكتنزة من جيب جلبابه الأبيض، وأخرج منها جنيهاً ثم ثان وثالث، وكأنه يستعرض العطاء أمام أهل الحارة الذين يراقبون المشهد في الميدان، ووضعهم في يد درويش التي لا يمسك بها العصا، فلم يقبض عليهم درويش بقبضته جيداً، لأنه لا يتعامل بالنقود ولا يستخدمها، ولكن وَضْع النقود في يده أفاقه وكأنه في غفوة فصرخ في وجه صفوت بيه:
– خاف سيدك يا سيدنا..طير..فووووق..مش هتوصل لهم”
وكرر هذا الكلام مشيراً بعصاه نحو صدر صفوت بيه الذي غضب بشدة، وانكمشت كل تجاعيد وجهه المكفهر، وقبل أن ينطق بكلمة هرول الحارس ودفع درويش بعيداً عنه، وفتح باب السيارة وانطلق في طريقه تاركاً درويش يتمتم بصوت خافت:
– “فوووووق..النجوم..بعييييدة”
وجرجر درويش ساقيه مستنداً على عصاه، حتى وصل الى حائط المسجد وجلس..ثنى ركبته ليجلس، سانداً يده التي بها الجنيهات عليها، وفتح يده ليفرك عينيه باصبعه، فطارت الجنيهات في الهواء..لم يرمقها بعينيه ولم يكترث..بعد دقائق خرج الشيخ بركة بنفسه حاملاً طبق به بعض الطعام وبيده بعض الخبز وضعهم على الأرض أمام درويش، وانتصب محني الظهر بفعل الزمن وربت على كتف درويش بحنان أبوي جم، ثم دخل منزله بجوار المسجد.

 

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …