الإثنين , ديسمبر 23 2024
نوري إيشوع

من وحي الإبادة السريانية…؟

بقلم المحامي نوري إيشوع

منذ سنواتٍ طويلة تعدت المائة وفي قرى بعيدة قابعة في ظلال طور عبدين و دياربكر و الرها و ماردين…كانت الناس تعيش في فرح و مرح، مطمئنين آمنين، حرثوا الأرض وفتحوا الأقنية، زرعوا الكروم وجميع انواع الفواكه

وحتى العنب والتين، يخرجون منذ الفجر كل يوم و كل حين ليعملوا بالأرض، فيحرثوا و يزرعوا

ويجمعوا محاصيلهم بالأغاني و الهتافات و الضحكات و يشكرون ربهم بالدعوات

ويختمونها بكلمة آمين، حياتهم سعادة ومحبة وعيش مشترك دون آهات و لا حتى آلام وأنين

عاشوا بسطاء، أحرار دون ان يحسبوا يوماً حساباً لغدر الذئب ووحشية التنين!!

اما الأطفال فكانوا يلهون كفراشات ملونة، بريئة تتنقل من زهرة الى أخرى، حياتهم مليئة باللهو

والفرح و السعادة الروحية الرقيقة، يحملون قلوباً يافعة وعيوناً حنونة بريقة، لا يعرفون الخوف والفزع

ولا يخافون من الأزقة المعتمة ولا من الحارات المظلمة العتيقة، مرفوعي الرؤوس فخورين

لظنهم بانهم يعيشون بامنٍ وسلامٍ لقربهم من والديهم و أخوتهم ومن كل أهل القرية العامرة

المحصنة البديعة، يلعبون وهم يملؤون الأزقة حركة و ضجيج و أريج وابتسامات صادقة صادرة

عن قلوب طاهرة ونقية بريئة.

الذي لم يكن في الحسبان، في ليلة حالكة السواد والناس نيام، جمع القاتل كل أعوانه ومريديه

و كل جنود ابليس وعّباديه و نقل لهم رسالته الأبليسية وقرر ان يحاسب هؤلاء الكفرة ساكني القرية

الطورعبدينية، فنزلوا الى القرية كغمامةٍ سوداء قاتمة، سواد وقتامةَ افكارهم الشريرة

فاباحوا كل شيء، قتلوا، أغتصبوا، سلبوا، سرقوا، هدموا، سبوا، بقروا، حرقوا و مارسوا

ابشع الجرائم وافظعها.

في خضم نزيف الدماء والصرخات والأستغاثات والعويل والبكاء والحريق والدخان والتكبير

والتهليل والنعيق والنباح والمواء، استطاع أحد الأطفال الضحايا ان يختبىء بين الأحراش

والكروم بعيداً عن أعين الذئب والوحش الملعون.

بداْ هذا الطفل البرعمة الذي لا يتجاوز 6 سنوات من العمر، يسير هائماً على وجهه في

تلك الليلة الدموية المظلمة، (ظلمة افكار القتلة وقساواة قلوبهم الحجرية التي لم تعرف الرحمة

والشفقة والقديمة قٍدم تعاليمهم الفاسدة)، تائه، جائع، عطشان، خائف من الليل ووحوشه

أستمر هذا الطفل البرعمة العدوَ و الركض دون ان ينظر الى الوراء

يختبئ في النهار بين الحقول والأحراش ويقتات منها و يتابع سيره في الليل تحت غطاء العتمة

الى أن ساقته الأقدارالى عائلة سورية كريمة، إحتضنته و اعتنت به عناية الوالدين للأبن، وشملته

برعاية فائقة، لكن هذا الطفل اليتيم، يذهب الى فراشه كل ليلة ويبكي بحرقة و عويل، على عائلته

المفجوعة مع مئات لا بل آلاف العائلات

الضحايا، ينوح على أمه االسبية مع عشرات السبايا، اما في النهار فكان يراقب وينظرالى الأفق البعيد

ينتظر والدته لعل وعسى يحمل له قادماً من بعيد أي خبرعنها بعد ان رآها آخر مرة وهي تُجر من شعرها

وراء الأغا الذي أركبها خلفه على الفرس عنوةً بعد أن قتلوا والده و كل أفراد عائلته.

أما القاتل، عاد الى مملكته بعد ان نفذ رسالته وأكمل نذره أمام الهه الدموي، تلك الرسالة

التي اثقلت كاهله منذ إن كان طفلاً، فوسع أملاكه وزاد عدد جواريه وملكات يمينه!

كَبر الطفل وتزوج وأصبح ربّ أسرة ولكن لم تغيب صورة والدته عن مخيلته، ظل يبكي عليها بحرقة

كلما ذهب الى فراشه وينتظرها في النهار! لانه بقيّ ذك الطفل البريء المتعطش لحنان الأم وحبها و عطفها وحضنها الدافئ .
أما القاتل، عاش في حبور وفرح وسعادة لا متناهية لانه طبق تعاليم وأوامر ربه و تبع رسالته الشيطانية

وفاز بدون شك بجناتٍ و بحورِ عين، أغا في هذه الأرض و حور عين و أولاد مخلدون و أنهار من الخمر و العسل في جنات عدن؟

مرت الأيام والسنين أصبح ذاك الطفل عجوزاً طاعناً في السن، بعد أن هدته آلام و اوجاع السنين و الذكريات القادمة من الماضي، الحاضر الأليم، فجاءت اللحظة التي أنتظرها منذ زمنٍ بعيد بعد سنوات الألم والغربة سنوات

فقدان حب وحنان الأم. في لحظةٍ صمتٍ رهيبة نزل ملاك السلام بثياب ناصعة البياض وبوجهٍ طفولي من الأعالي

ليأخذ الأمانة وعند أقتراب الملاك منه، تمتم الطفل االبريء (العجوز) ببعض الكلمات وهو يبتسم ابتسامة لقاء

الحبيب، قائلاً وهامساً : أهلي، عائلتي، أمي، رفاق الطفولة، أنتظرتُ كثيراً هذه الساعة وها أنذا قادماً للقياكم، فأسلم

الروح وعانقت روحه روح والدته التي كانت قريبة منه وترفرف فوقه لانها كانت تنتظر هي بدورها هذه اللحظة

الحبيبة، فأتحدت روحيهما اتحاداً ابدياً لا يستطيع فصلهما اي قاتل محترف و لا حتى إله هذا الدهر، ليعيشا الى الأبد

كملائكة في ملكوت السموات وفي حضرة الرب الإله.

أما القاتل، الذي كان ينتظر على أحرٍ من الجمر الحور العين والولدان المخلدون وأنهار الخمر والعسل

بعد أن قتل أطفال أبرياء، أغتصب، سلب و سبا وأرتكب كل أنواع الجرائم. أقتربت ساعة الصفر وجاء عزرائيل

(ملاك الموت) وبيده مطرقةٍ من نارٍ و حديد لينزع عن هذا القاتل روحه الشريرة بعد أن لوثها

و دنسها باعماله المناقضة لتعاليم الإله الحقيقي الذي يدعو للمحبة و المسامحة والعدل. و قال له عزرائيل :

ايها القاتل : لقد نفذتَ تعاليم ربك إله هذا الدهر و كنتَ العبد الأمين له، فاذهب اليه وانزل الى الأرض السابعة وانعم معه ببركٍ من نارٍ و كبريت، إلى جهنم و بئس المصير!
((لأنهُمْ فِي الْقِيَامَةِ لاَ يُزَوِّجُونَ وَلاَ يَتَزَوَّجُونَ، بَلْ يَكُونُونَ كَمَلاَئِكَةِ اللهِ فِي السَّمَاءِ. مت30:22))

 

 

 

 

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …