ملاك الرحمة وتقديم البسمة
تأليف الكاتب والسيناريست : جرجس ثروت
========================
1ـ (ملاك الرحمة وتقديم البسمة )
o التمريض منذ فجر التاريخ
o صلاح لم يكن اسم على مسمى
o صلاح الباش تمرجي الماهر
o ضرورة السكن بالحي الشعبي
o جثث تساوى وزنها استرلينى
التمريض ومن يقومون به يلقبونهم بملائكة الرحمة، وهم شركاء للأطباء في رسم البهجة والبسمة والراحة على الوجوه وبوجدان النفوس التي أذلها المرض وأحيانا وسط كل أموال العالم لم يتحقق لهم ذلك، وهى مهنة يحبها أصحابها ذوى القلوب الرحيمة ممن يكسبون دعوات المرضى وتزداد سعادتهم عندما يريحونهم من أتعابهم حتى لو كلفهم ذلك تعباً دون ملل أو اشمئزاز، تصل هذه الدعوات إلى كبد السماء لأنها صادقة وتخرج من شفاة وقلوب عرفت معنى الانكسار والضعف وهى في حالتها الأولى دون تعالى، ولكن كما يوجد في كل مجال ومكان الصالح والطالح يوجد هكذا بين هؤلاء زبانية جهنم ومندوبى إبليس الذي سكن بعض هذه العقول والأجساد فصار يتمتع بقوة الروح الشريرة مع الجسد اللابشرى فأصبح هؤلاء اشرمن الشياطين، ويتاجرون في آلام البسطاء وأجسادهم بآلامها ولم يرحموا ضعفهم ومذلتهم .
صلاح محسن بركات وشهرته صلاح سرنجة، رجل وسيم في الأربعينيات من العمر معتدل القامة، جذاب وحسن المظهر، ذكى ويظهر ذلك في لمعان عينيه العسليتين، لبق ورومانسي ولكنه يميل إلى العنف أحيانا منتقماً من خصومه بقسوة إذا لزم الأمر، يضحك حتى تدمع عيناه ويكتئب حتى البكاء، غامض الشخصية يخفى بالباطن عكس الظاهر شخصاً آخر، قليل الحظ من الخلق الكريم، خدع الجميع حتى انكشف في النهاية، جاء إلى القاهرة للعمل والعيش بها بعد أن تربى في الريف بقريته الفقيرة، ظروفه القاسية جعلت منه جلاداً عوض أن يكون ملاك رحمة كما يطلقون على من يعمل بهذه المهنة الحساسة والخطيرة جداً لأنها تقدم الخدمة للمرضى وهم في اضعف وأشقى لحظات حياتهم، ليقدم ذاته معيناً ناسياً همومه الشخصية راسماً البسمة والطمأنينة على الوجوه حتى في اخطر اللحظات وأكثرها حرجاً في حياة مرضاهم، عندما يدخل كل منا إلى المستشفيات سواء كانت عامة أم خاصة يتصور أن العالم كله مريض ولم يتبقى سلمياً ولا واحد، فهناك سيدة عجوز على كرسي متحرك وآخر شاب في طريقه لغرفة العمليات وعلى وجهه علامات ألم وخوف الأرض كلها، وعند باب الدخول أب يحمل طفله الصغير ويجرى به طالباً من يساعده وينقذ ابنه، هذه المشاهد يتحرك لها القلب الحجري، لكن قد يعتادها البعض مثل صلاح الذي قضى نصف حياته وسط المرضى واعتاد غرفة العمليات وسط دماء المرضى التي تسيل منهم أو تنقل إليهم، لم يكن صاحب قلب رقيق يتأثر كثيراً بهذه الأمور .
صلاح في شقته بأحد أحياء القاهرة الشعبية ومنها سكن وشبه عيادة لأنه كان يستقبل فيها المرضى الذين يقدم لهم بعض الخدمات الطبية مثل إعطاء الحقن وختان الأولاد وتنظيف الجروح والدمامل، والإسعافات السريعة من تخيط بعض الجروح، وكان يعمل ذلك بمهارة وله سمعة طيبة في عمله وسط جيرانه من غير القادرين على دفع تذكرة الكشف الغالية بالعيادات وغيرهم ممن يطلبون منه هذه الخدمات السريعة، هذا بخلاف الوصفات الطبية والبلدية لعلاج بعض الأمراض البسيطة لأنه كان يعرف الكثير من الدواء الذي يفيد في علاج حالات خفيفة متنوعة كبعض المسكنات والمضادات الحيوية، وكان يمتلك شقة فاخرة بأرقي الأحياء السكنية يقضى فيها بعض أوقاته حسب ما يتوفر في سهرات خاصة يغير بها جو العمل الشاق ويزيح بها الهموم عن قلبه المكسور لأن النفس تتثقل كالجسد تماماً بالألم والمعاناة وتنحني تحت وطأة الحزن، وهذا ما يجعل الإنسان أحيانا يكتئب فجأة وبدون سبب واضح أو قريب، وذلك يكون نتيجة تراكمات وضغوط نفسية تنفجر فجأة لتعطى هذا الشعور بالضيق، وأحيانا تنهر الدموع بلا سبب ويذهب الفرد منا في بكاء لا يستطع أن يتمالك نفسه أمامه أو يمنعه وبدون سبب قوى وقتها ولكنه الكبت والضغط النفسي، ولهذا كان صلاح مضطراً لقضاء أوقات عطلته أن وجدت بدون عمل بالحارة فيذهب إلى هناك لينال قسطاً من الراحة والسعادة بطريقته، وهنا يبدو السبب جلياً لأهمية حياة الحارة كعمل وحياة الرفاهية للاستراحة من العمل والعيش وسط الأغنياء كواحد منهم لديه سيارته الفاخرة وكل ما يلزم ليعيش حياته الموازية لحياته القاسية، وكان يملك شقة أخرى بالإسكندرية للمصيف والإقامة أحيانا عندما تكون فيه ضرورة لذلك .
ولكن كانت تبدأ معاناته عندما ينصرف عنه الجميع ويبقى وحيداً بشقته بعد كل يوم طويل وعمل شاق، وهو يقف بالصالة أمام صورة والدته ويستمع لكلماتها وهى تفارق الحياة وتودعه التي مازالت ترن في أذنيه :
– صلاح
– ارتاحي يا أمي وبلاش تتعبي نفسك أنت مش قادرة تاخدى النفس
– لازم أتكلم قبل ما روحي تطلع
– بعد الشر عليكى يا امى .. أنت هتخفى وتبقى كويسة
– وصيتك أخواتك البنات يا ولدى .. خلى بالك منهم وبالأكثر أختك الصغيرة
– ما تخافيش يا امى وبلاش تقولي كدا .. أنت اللي هتجوزيها وتفرح بعيالها كمان بطول العمر
– طول العمر ليك يا حبيبي .. آه ياما كان نفسي افرح بيها وبيك لكن خلاص أنا انتهيت
وبهذه الكلمات تنتهي حياة الأم عديلة المسكينة وسط دموع صلاح وأخواته البنات وصراخهم بحرقة لفراقها :
– أمي .. ما تسيبناش
كل مرة ينتبه صلاح وهو يقول بصوت مسموع نفس الكلمة التي ودع بها أمه، ويمسح عينيه التي تنهمر منهما الدموع على خده، ولكنها تنفس عما بداخله من آلام كحالة صحية يستريح بعدها من ضغوط الحياة والهم الذي يجثم على صدره فيتحدث إلى صورتها بصوت مسموع :
– وحشتينى يا غالية .. ما لحقتيش تفرحي يوم واحد .. كان نفسي تكوني معاى دلوقتى .. أنا بقى عندي فلوس زى ما أتمنيت أكون غنى .. بس يا خسارة بعد إيه .. كل فلوس الدنيا ولا تساوى لحظة معاك ولا حضنك الدافى وحنانك .. آه يا أمي
ثم يشعل صلاح سيجارته الأخيرة قبل النوم، ويذهب بعدها لينال قسطاً من الراحة قبل أن يبدأ يومه الجديد، وكان في ليالي كثيرة يحلم بوالدته لما يحمله العقل الباطن كل ليلة من التفكير في والدته، وذات ليلة حلم بها وهى ترتدي ملابس بيضاء وجاءت وهى تبتسم له وتقول :
– صلاح ما تبكيش على كل ليلة كدا وخلى بالك من صحتك لحسن تجرالك حاجة
– أمي وحشتينا قوى .. بالحضن
– وأنت كمان .. بس عشان اعرف إني غالية عندك .. تسمع الكلام
– هأسمع
– أوعى تنام وأنت شايل الهم يا ولدى .. الهم زى الجبل ويقصف العمر
– حاضر يا أمي
– يحضرلك الخير يا ضنايا .. مع السلامة
– امى استني شوية .. أنت رايحة فين .. هتسيبينى تانى
وكان في اغلب الأحيان يستيقظ وهو ينادى عليها باكياً، وينظر حوله ويحاول أن يهدأ ويتناول كوب الماء ثم يقوم ليشعل سيجارة، ومرات كثيرة يواصل مستيقظاً بعد حلمه المعتاد خاصة أن نومه قليل بحكم عمله ورديات بالمستشفى مما يجعل أوقات نومه مختلفة وغير منتظمة، وأحيانا كان يواصل ورديتين مباشرة دون راحة .