المؤلف.. إيليا عدلى
(5) المشروع و الدرويش
ذات صباح – كان نصار سائراً الى مكتبه، وتلمع في أصبع يده اليمنى دبلة الخطوبة بعد أن وافقت فريدة واسرتها على خطوبتها من نصار بعد اسبوعين من لقاءات نصار وفريدة، وكان يلقي السلام على اهل الحارة، وعندما وصل أمام محل المعلم الجندي الترزي استوقفه المعلم:
– أستاذ نصار..لحظة لو سمحت.
وخرج المعلم الجندي من محله وذهب نحو نصار ليبلغه بميعاد الاجتماع بأهل الحارة قائلاً:
– أهل الحارة عايزين يجتمعوا بيك يا أستاذ .. أنت والشيخ بركة في الديوان بتاعه زي كل مرة.
– ماشي يا معلم الجندي..يوم أيه والساعة كام؟
– يوم الجمعة بعد الصلاة.
– حااااضر..عينيا الأتنين يا معلم.
– تسلم عينيك وعقلك الكبير يا أستاذ.
وفي الموعد المحدد يوم الجمعة، وبعد أن فرغ نصار ورفيق من صلاة الجمعة خرجا من المسجد سوياً وقال رفيق:
– المفروض دلوقتي معانا اجتماع في ديوان بيت الشيخ بركة بخصوص أبو سنجة البلطجي واللي بيعمله في الحارة.
– لا يا رفيق..دا بالنسبالهم هما..مش بالنسبالنا.
– إزاي.
– بالنسبالنا إحنا في موضوع أهم هنتكلم فيه.
– موضوع أهم؟!
– أيوة .. انا بقالي فترة بفكَّر في حل جذري هيخلي الحارة من أفضل الحارات في المنطقة وهيزيح أبوسنجة من الحارة.
– حل ايه ؟
– مفيش وقت اشرحلك دلوقتي..زمان كل الناس وصلوا ديوان الشيخ بركة..هناك هتعرف كل حاجة.
وسار الاثنان نحو ديوان الشيخ بركة الذي يعتبر بمثابة (مجلس الشعب) للحارة والذي اقترح فكرته نصار منذ خمس سنوات لمناقشة مشاكل الحارة بعد أن أثبتت التجربة تجاهل عضو البرلمان لمشاكلهم وتفرغه لخدمة أعماله الخاصة ومصالح صديقه (صفوت) بيه الذي أرهق الحارة بإحتكاره معظم المشروعات، مما يقتل المشروعات الصغيرة وأحلام الشباب.
وأما الشيخ بركة فهو عالم أزهري مسن تخطى السبعين، وورث عن والده الكثير من الأموال، يصنع الخير خفية بغية الأجر والثواب من عند الله عز وجل، ولكن جميع الأسر التي يعولها تشهد وتدعو له..رجل وطني منذ أن كان طفلاً..خرج في ثورة 1919، هتف فيها ضد الأنجليز، وأثناء العدوان الثلاثي ترك الحارة وسافر بورسعيد يقاتل دفاعاً عنها، وقضيته الأساسية هي الوحدة الوطنية وصداقته الكبيرة بالقمص مرقس قسيس كنيسة العذراء مريم بالحارة، ولذلك لم يحدث بالحارة أي فتنة طائفية من قبل، حتى أثناء فتنة الزاوية الحمرا منذ عدة شهور..لم تتأثر بها حارة الطيبين، إلا حزناً على الضحايا.
وصل نصار ورفيق الى الديوان وكان الجميع حاضرون والبعض القليل يتوافد، جلس نصار ورفيق بجوار الشيخ بركة والقمص مرقس على كنبة فسيحة تتسع لخمس أو ست اشخاص في مواجهة كل الحضور في الديوان وكأنها منصة البرلمان..كان نصار العقل المفكر للمجلس وله كاريزما قوية عند كل أعضاءه، بداية من الشيخ بركة، وحتى أصغر شاب فيه..وبعد دقائق استقر الجميع وتوقف توافد الحضور، فطلب الشيخ بركة إغلاق الباب الخارجي وبدأ حديثه في هدوء وحكمة: – أعوذ بالله من الشيطان الرجيم..بسم الله الرحمن الرحيم.. أخواني وابنائي..أهلاً بكم في داركم..حدثني بالأمس المعلم عبدالودود والمعلم سمعان والمقاول محمد والمعلم الجندي، وكتير من أهل الحارة اللي بيشتكو مر الشكوى من بلطجة أبو سنجة..وأنا بأعرض عليكم الأمر علشان نتشاور، لعل الله يجد لنا مخرجاً وحلاً على لسان أحدكم.
هبَّ المعلم سمعان والمعلم الجندي ووقفا معاً واستمرا في الشكوى من ضيق الحال وعدم توافر الكهرباء في معظم مناطق الحارة، وقطع الكهرباء في مناطق الورش بالساعات الطويلة، وفوق ذلك مذلة الأتاوات التي يفرضها عليهم أبو سنجة..وتداخلت الأصوات التي انفجرت في الديوان تشكو وتنفض هموم وآهات محبوسة داخل صدورهم..فنظر القمص مرقس إلى نصار وكأنه ينتظر منه التدخل أو التعقيب..لم يتدخل نصار أو يطلب منهم الهدوء، بل بذكاء تركهم يفرغون كل الغضب الى خارج أجسادهم التي اضناها مشقة العمل والفقر..ولما فرغوا وأفرغوا، ولما خفت أحمال نفسيتهم المتعبة..وضع كوعا ذراعيه على المنضدة وضغط أنامل اصابعه الخمسة لليد اليمنى مقابل أنامل الاصابع الخمسة لليسرى، للفت الانتباه انه سيتحدث ولأعطاء الثقة له في مواجهة الجمع، استأذن كبار الحضور والشيخ بركة والقمص مرقس ، ثم استطرد قائلاً بأنهم في حال تركيزهم الإهتمام في مجرد التخلص من بلطجي، سيصبحون كمن يعزق البحر، وإذا ظلت الحارة كما هي بنفس ظروفها ونفس المنظومة التي يعيشونها، سيأتي بلطجي آخر غيره، وهكذا دائرة مفرغة بدون تقدم..تعلقت عيون كل الحاضرين بنصار بداية من اعضاء المنصة الي الصبيين الصغيرين (مينا) ابن المعلم سمعان، و (خالد) ابن المعلم الجندي..الكل منتظر كلام غير تقليدي سيقال..وأكمل نصار حديثه قائلاً:
– إحنا محتاجين أولاً تحديد أهدافنا..إحنا عايزين ايه؟ .. كلنا عارفين ان فيه ناس واقفة ورا أبو سنجة وبيحموه لأنهم بيستخدموه في الأنتخابات، وفي أعمال غير قانونية تانية..يعني أول هدف لنا .. (القضاء على الفساد في الحارة).
ويستمر نصار بعد أن يشرب ماء من الكوب الذي أمامه:
– اللي واقف حال البقالين والترزية في الحارة..السوبر ماركت الكبير ومصنع الملابس اللي عملهم صفوت بيه والمشكلة انه محتكر منتجات معينة محدش بيقدر يجيبها غيره..يعني تاني هدف لنا..(القضاء على احتكار رأس المال في الحارة).
ويستطرد قائلاً: – واللي واقف حال الخراطين والنجارين والميكانيكية عدم توافر الكهربا اللي تشغل ماكيناتهم اكبر وقت ممكن..يعني هدفنا التالت وهو الأكبر..(مشروع كبير للتنمية الإقتصادية للحارة).
تجول نصار ببصره نحو أعضاء المنصة تارة، ونحو الجمع أمامه تارة ولسان حاله يقول “انتهيت وانتظر ردكم” ثم يرجع بناظريه للمنصة ويقول:
– انا بطرح الموضوع عليكم وأتمنى انه يلاقي اهتمامكم.
سرح جميع الحضور من البسطاء والصنايعية بأحلامهم وكأن على رؤوسهم الطير، ولكن ليس لديهم أليات أو افكار في كيفية تحقيق ذلك..أخذ القمص مرقس المبادرة في طرح أفكار وآليات لتنفيذ ذلك المشروع المتكامل بعد إبداءه إعجابه الشديد بكلام نصار، وامتد الحوار ليضم رفيق ثم الشيخ بركة، والتقط جميع الحضور طرف الخيط لسيل الأفكار مما حرك ذهنهم وشحذ همتهم للعصف الذهني ووضع حلول واقتراحات..وأخيراً وبعد ساعتين من المناقشة أعلن الشيخ بركة بتكليف الأستاذ نصار بوضع تصور كامل وخطة مدروسة للفكرة خاصته، ثم قال الشيخ بركة:
– هل يكفيك شهراً للإنتهاء من ذلك يا أستاذ نصار.
نظر إليه نصار طالباً السماح له بثلاثة شهور، لأن الشهر التالي وتحديداً عشرين ديسمبر سيكون زفافه، ثم تبسم وطلب من الجميع تشريفه بالحضور متمنياً الفرح للجميع، ضج الديوان بالاصوات المتداخلة المهنئة لنصار..والتقط الشيخ بركة طرف الحديث بصوت مرتفع مطالباً الجميع عدم المغادرة لأنهم جميعاً مدعوين على الغداء، ثم صاح في أبناءه طالباً الغداء، جلس الجميع على عدد من الطاولات المستديرة استعداداً للغداء..يجلس سمعان ومينا ابنه، وصديقيه عبدالودود، والجندي وخالد ابنه، أفسحوا مكاناً لنصار ورفيق وصاح سمعان عليهما ليتفضلا بالجلوس معهما، نزل إليهم رفيق ونصار باسمين، شكرهم نصار ووضع يديه على رأس مينا مداعباً وسأله عن اسمه، فرد مينا:
– اسمي مينا سمعان.
– في سنة كام السنادي؟
– في سنة تانية اعدادي.
ويضع يده بالمثل على رأس خالد ويسأله نفس السؤال، فيرد خالد:
– اسمي خالد الجندي.
– وانت بقى في سنة كام يا خالد؟
– في سنة أولى اعدادي.
– ما شاء الله عليكم..وانتو بقى ايه اللي جابركم تيجو انهاردة وتصدعوا دماغكم بالكلام بتاعنا ده؟
يرد مينا بجدية:
– علشان دا مستقبلنا وعايزين حق اهالينا الشقيانين من البلطجي أبو سنجة.
ويلاحقه خالد:
– وعلشان كدة احنا هنا علشان لو احتاجتونا احنا ممكن نساعدكم.
ابتسم رفيق معقباً:
– فعلاً..جيل ثوري واعد في حارة الطيبين.
رد نصار مركزاً بصره على خالد ومينا مؤكداً أن ما يفعله أيضاً ثورة..اسمها “ثورة بيضاء”..بدون عنف أو دم..ابتسم المعلم الجندي والمعلم سمعان فخراً بأولادهما الواعدين الأذكياء..ثم دخل أبناء الشيخ بركة بالطعام يساعدهم بعض من الشباب المتواجد ووزعوا الطعام على الترابيزات..تناول الجميع الغداء في جو من المودة والمشاركة، ثم انصرف الجميع بعد المصافحات الحارة والشكر العميق للشيخ بركة وأبوته الدافئة وكرمه الجم..خرج نصار ورفيق الى الشارع، وفجأة ربت رفيق على كتف نصار عدة مرات بسرعة، طالباً منه رؤية القادم من الشارع الفرعي ، فقال نصار مندهشاً:
– ياااه .. دا الواد (درويش) العبيط..دا بقاله اكتر من شهر مش باين!
– هو كدة..يقعد تحت حيطة بيت الشيخ بركة..ياكل ويشرب وينام..ويقوم يهاتي بالكلام الغريب بتاعه.
– دا مبيقعدش هنا في الحارة يومين تلاتة ويغيب عن الحارة بالاسابيع..محدش يعرف بيروح فين!
واستمرا في السير، وفي الاتجاه المقابل قادم (درويش) العبيط..لا تستطيع ان تجزم بمعرفة عمره تحديداً..ولكن تستطيع ان تخمن انه لا يقل عن العقد الرابع ولا يزيد عن العقد الخامس من العمر..يرتدي جلباب شديد الأتساخ لا يُغسل أبداً، لدرجة ان انسجته جفت، واذا طويته يتكسر كالفطير الجاف..شعره طويل ينسدل حتى كتفيه..شديد الاتساخ وملبد، لا تجرؤ أن تقترب منه..عيناه لا تظهر من تحت شعر حواجبه الكثيف حتى تخاله بلا عيون، خصوصاً وأنه لا يرفع رأسه ابداً لأعلى، يسير ببطء شديد ينظر للأرض وكأنه يبحث عن شيء ضائع منه..دائماً يحمل بيده عصا من فرع شجرة غير مستقيم يدب بها الارض او يستند اليها..كانت المسافة بينهم وبين درويش حوالي مائة متر حين بدأ يهتف درويش بعبارات غير مفهومة كالعادة أو جمل غير مكتملة:
– “خاف سيدك يا سيدنا..خاف سيدك يا سيدنا..”
وظل درويش يكرر هذه الجملة عدة مرات، واحياناً يصيح بصوت مزعج..وعندما مر رفيق ونصار بجواره، رفع درويش عصاه في وجه نصار ورفيق وكأنه يشير اليهما:
– “خاف سيدك يا سيدنا..خاف سيدك يا سيدنا”
واستمر نصار ورفيق في السير باسمين، واستمر درويش في السير وتكرار نفس الجملة حتى وصل لمستقره تحت حائط منزل الشيخ بركة حيث اخرج له محمد ابن الشيخ بركة بعض الطعام والماء ووضعهم أمامه..أكل درويش وشرب ومدد جثته تحت الحائط محاولاً النوم وهو يتمتم ويهمس: – “طير..فوق..فوق..طير..برده مش هتوصل لهم .. بعيييييد”.
ثم ينام بعمق.