“هرانت دينك” الصحفي المقاتل الذى أفنى حياته دفاعا عن الأرمن .. فتم إغتياله في محاولة من تركيا لطمس عار “مذابح الأرمن”
الاهرام الجديد الكندى
في التاسع عشر من شهر يناير قبل ثمانية أعوام، وأمام مقر صحيفة “آغوس” التي أسسها للدفاع عن القضية الأرمينية، اُغتِيل هرانت دينك تركي، التركي ذو الأصول الأرمنية، الذي أفنى حياته دفاعًا عن قضية الأرمن، التي تشهد هذا العام مرور قرن على المذبحة، التي لم تستطع السلطات في أنقرة حتى الآن التخلص منها، وذلك بعد اعتقال الشرطة التركية 20 متظاهرًا خرجوا في ذكرى وفاته، اليوم.
100 عام مرت على مذابح سجلها التاريخ، وسعى خلالها الأرمن في أنحاء البلاد إلى العودة إلى أراضيهم الموجودة حاليًا في تركيا، بحسب الأرمن، ومن هذه الأراضي جبل “أرارات” الذي يعد مكانًا دينيًا مميزًا حيث يعتقد أن سفينة سيدنا نوح رست عليه، والواقع على الحدود الأرمنية داخل الحدود التركية، وبسبب هذه الأزمة وقع الشعب الأرمني والتركي في عداوة واضحة، والذي كانت أحد نتائجها “دينك” الصحفي المقاتل.
ولد دينك حاملا الجنسية التركية من أصل أرميني في 19 سبتمبر عام 1954 بمدينة “ملاطية” جنوب شرق تركيا، وعاش طفولته في ميتم تابع للطائفة الأرمنية الإنجيلية في أسطنبول، وحصل على بكالوريوس من جامعة أسطنبول في قسم علم الحيوان، وقام بتأسيس معسكر “تزولا” للشباب الأرمني هو ووزوجته رايتشل، لكن في عام 1979 استولت السلطات التركية على المعسكر الذي كان يأوي 1500 يتيم أرميني.
وفي عام 1996، أسس صحيفة آغوس التي تصدر باللغتين الأرمنية والتركية، وشغل منصب رئيس التحرير فيها، لتكون صوت المعارضة الديموقراطية التركية، لإظهار حقيقة النظام وغياب العدالة بحقّ المجتمع الأرمني، ولتكون نقطة لقاء بين الأرمن والأتراك وأن تنمّي الحوار بينهما، واستمر في رئاسة التحرير حتى تاريخ اغتياله.
واشتهر دينك بميله نحو المناقشة الصريحة والانتقادية للقضايا المتعلقة بالهوية الأرمنية، وبالروايات التاريخية الرسمية في تركيا لمذابح الأرمن في 1915، وشارك المدافع المتحمس عن حقوق الإنسان في عدة منابر مع ناشطين وصحفيين ومفكرين من مختلف ألوان الطيف السياسي، وقبل وفاته، حوكم على نحو متكرر لتعبيره عن آرائه السلمية.
وتعرض الصحفي الأرميني الأصل لتهديدات كثيرة من القوميين الأتراك بسبب دعمه للقضايا الأرمنية وحثه الحكومة على الاعتراف بالإبادة الجماعية بحقهم؛ وكانت هذه التهديدات بمباركة من النظام التركي، وعلى الرغم من ذلك رفض هرانت مشروع القانون الفرنسي بفرض عقوبات على إنكار مجازر في حق الأرمن في مقال له عام 2006، مؤكدًا أن ذلك يتناقض مع حرية التعبير، ويضئل من حجم القضية الأرمنية، ويجعلها مجرد ورقة ضغط سياسية بحق تركيا لمنعها من الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي.
وفي 19 يناير عام 2007 توجه شاب يدعى “ساماست” إلى “آغوس” طالبا لقاء دينك، معرفاً نفسه بأنه طالب في جامعة إسطنبول، وبعد أن رفض تحديد موعد له، غادر المبنى، لينتظر هرانت ساعات أمام المبنى حتى تمكن من قتل هرانت بإطلاق عدة أعيرة ناريه أمام مقر الجريدة، وقال شهود عيان إن ساماست صرخ مرات عديدة “قتلت الخائن”.
ألقت قوات الشرطة القبض على القاتل بعد حوالى 32 ساعة من عملية الاغتيال، وبعد اعتقاله، قال إنه غير نادم على فعلته، معلنا استعداده لتنفيذ عمليات أخرى للدفاع عن الوطن وتم استقباله في السجن كبطل قومي، وقامت قيادات من قوات الأمن التركية بالتقاط الصور التذكارية فرحين بجريمته.
وقد نوه الصحفي ذو الأصول الأرمينية في مقاله الأخير عن بعض التهديدات والتي خاف أن تستهدف المقربين منه، كما وصف نفسه بالحمامة، قائلا “أنظر يمنة ويسرة، أمامي وورائي، خجلا مثل الحمامة، لكن أعرف أن شعب هذا البلد لا يمكن أن يؤذي حمامة”، مبديا تعلق قلبة بتركيا فكتب “البقاء في تركيا هو رغبتي الحقيقية وواجب على احترام كل الأصدقاء” خاتما مقالته “إذا اضطررت يوماً إلى الرحيل فسأنطلق على الطرق تماما كما حصل عام 1915”.
كما كتب في أحد مقالاته عن المجازر الأرمنية، مستعينا بالمثل الأناضولي القائل “الدم النقي الذي سيحل مكان الدم المسموم للأتراك يسري في العروق النبيلة التي ينبغي على الأرمن أن يمدّوها بينهم وبين أرمينيا”.
وقال الدكتور محمد رفعت الإمام، أستاذ التاريخ بكلية الآداب جامعة دمنهور، إن دينك حالة فريدة في علاقة السلطة بالمفكر في تركيا، ووفقًا للمادة 301 من قانون العقوبات التركي يتعرض كل من يسئ إلى القومية التركية للعقاب، ومن هذا المنطلق حكمت السلطات التركية أكثر من مرة على دينك لأنه طالب أنقرة بضرورة الاعتراف بالإبادة الأرمنية التي ارتكبتها تركيا العثمانية ضد الأرمن عام 1915.
وأضاف رفعت، في تصريحات لـ”الوطن”، أنه عندما كانت الإبادة الأرمينية من المحرمات في تركيا، اعتبرت السلطة التركية دينك أساء للقومية التركية، وبمرور الوقت لم يسكت دينك وأخذ مع غيره من الليبراليين الأتراك يطالب تركيا حكومة وشعبًا بعدم إنكار الإبادة وضرورة الاعتراف بها، ولهذا قام القوميون الأتراك بتصفية دينك جسديًا وبذلك تكون تركيا أضافت شخصًا جديدًا للمليون ونصف المليون ضحايا الإبادة الأرمنيين.
وأشار إلى أن هذا الاغتيال يعد دليلًا على وحشية السلوك التركي ضد المطالبين أنقرة بالاعتراف بالإبادة الأرمنية ويعد جريمة ضد الإنسانية تتناسى مع المواثيق والأعراف الإنسانية والدولية كما يعكس توتر تركيا إزاء ملف الإبادة الأرمنية.
“هرانت دينك هو صحفي أرمني معارض، وكان رئيس تحرير صحيفة “آغوس” تم اغتياله بتاريخ 19 كانون الثاني 2007 بعد تلقيه تهديدات كثيرة بالقتل بسبب انتقاده للسياسات الرسمية اتجاه الأقليات في بلده. ويبدو أنه تنبأ بمصيره فكان عنوان افتتاحيته يوم مقتله: “أحس في نفسي قلق الحمامة” كما سبق أن قال في حوار أجري معه: “نعم نحن الأرمن ندعي لأنفسنا حقاً في هذه الأرض، فجذورنا هنا. ولكننا لا ندعي هذا الحق كي نأخذ الأرض ونذهب بها، بل كي نموت في داخلها”.