بقلم .. نانا جاورجيوس
عيد الغِطاس هي التسمية الأرثوذكسية التي حرص عليها الآباء منذ الكنيسة الأولى لتدل على أن المعمودية كانت تتم بالتغطيس وليست بالرشّ، كما إعتمد بالتغطيس السيد المسيح في نهر الأردن الذي كان يسمى « نهر الشريعة» لإلتقاء العهدين فيه. عهد أبدي قطعه الله مع إبراهيم ونسله بعلامة الخِتان، وأكمله الإبن الكلمة بعهد النعمة لمعمودية العهد الجديد. « عيد الظهور الإلهي» هو عيد سيدي كبير، ومن أسمائه أيضاً « عيد الدنِّح وعيد الثلاثة أقانيم وعيد التنوير أو عيد الأنوار» أي الإستنارة بالروح القدس. وعند الغرب و روسيا يُسمى بعيد« الإبيفانيا – إبيفاني Epiphany » أي«الظهور» من المفردة اليونانية« الثيئوفانيا» وتعني« الظهور الإلهي» فهو ظهور إلهي لأن فيه إستعلن النور الحقيقي الذي جاء لينير لكل إنسان يقبل النور ويؤمن به:{ أَنَا هُوَ نُورُ الْعَالم مَنْ يَتْبَعْنِي فَلاَ يَمْشِي فِي الظُّلْمَةِ بَلْ يَكُونُ لَهُ نُورُ الْحَيَاةِ } « يو8: 12»
لهذا وصفه الآباء الأولين بأنه« يوم الأنوار» و وصفه «العلامة ترتليان- و. 160م» بأنه« عيد ظهور نور الجوهر الإلهي ».وقال عنه« إكليمندس الأسكندري-و.150م»:« هذا الأمر يحصل لنا نحن الذين قد صار يسوع المسيح مثالاً في المعمودية، فإذ نعتمد نستنير، وإذ نستنير نُتبنى، وإذ نُتبنى نكمل، وإذ نكمل نُبذل غير مائتين كما يقول: أنا قلت إنكم آلهة وبني العلي جميعكم »، وقال عنه القديس أوغسطينوس:« بجوار نهر الأردن ننظر ونتأمل المنظر الإلهي الموضوع أمامنا.. فلقد أعلن لنا إلهنا نفسه عن نفسه بكونه ثالوث في واحد، أي ثلاثة أقانيم في طبيعة إلهية واحدة ».
– وعيد الغِطاس ليس فقط إحتفالاً دينياً بل هو عيداً تاريخياً،ظل لمئات السنين عيداً قومياً شعبياً يحتفل فيه المسيحيين والمسلمين على شواطئ نهر النيل ليلاً، وكانت هناك إحتفالات كنسية تُقام على النهر ليتبارك به الشعب وتتبارك مياه النيل والزروع والبيوت، كان عيداً للفرح شاركت فيه الكنيسة طوائف المجتمع بأسره، بل و بعض الحكام والخلفاء شاركوا في إحتفالاته في العهد الإخشيدي و الفاطمي. وليلة العيد يخرج فيها البطريرك والكهنة والأساقفة في موكب عظيم حاملين المجامر والشموع والقناديل والفوانيس وكتب الصلوات و تُزين المراكب النيلية بالقناديل والفوانيس وتظل مراسم التغطيس من الغروب حتى الفجر ثم يختم الموكب الكنسي مراسمه بإقامة القداس الإلهي داخل الكنيسة.
وليلة الغطاس وصفها مؤرخين مصريين وعرب كثيرين مثل المؤرخ أبو الحسن المسعوديّ في مروجه فقال: { ولليلة الغطاس بمصر شأن عظيم عند أهلها لا ينام الناس فيها… وهي أحسن ليلة تكون بمصر، وأشملها سرورا، ولا تغلق فيها الدروب، ويغطس أكثرهم في النيل، ويزعمون أنّ ذلك أمان من المرض و نشزة للداء.}، و وصفها المقريزي في مواعظه؛ بأن{ عيد الغطاس كان له بمصر موسم عظيم إلى الغاية} وكان الخلفاء والحكام يوزعون الهدايا على الشعب كله، من أطنان القصب والسمك بوري والليمون. فذكر إبن المأمون جمال الدين أبو على موسى في نصوصه:{ وكان ليلة الغطاس شان عظيم عند أهل مصر.. يفرِّق أهل الدولة ما جرت به العادة لأهل الرسوم من الأترُجّ والنارنج والليمون في المراكب وأطنان القصب والبوري بحسب الرسوم المقررة بالديوان لكل واحد}.
وبعد أن إقتصر الإحتفال بالغطاس على الأقباط فقط بأمر الخلفاء، إستبدل الأقباط تبريك مياه النيل بصلوات التسابيح بطقس« ليتورجية اللَّقان» وهي صلوات تبريك المياه التي يبارك بها الشعب والحقول والأنهار والبيوت.
– أما البُعد الروحي واللاهوتي لهذا العيد عند المسيحيين، فيؤمنون بإن السيد المسيح لم يكن بحاجة لمعمودية يوحنا التي من الماء لأنه الإبن الكلمة « وحيد الجنس » الذي من طبيعة الآب، خصوصاً أنها كانت معمودية رمزية من الماء ترمز للإغتسال من الخطية تبعاً لشريعة التوراة، والسيد المسيح هو الإنسان الوحيد الذي بلا خطية، والمنزَّه عن فعل الخطية«مَنْ مِنْكُمْ يُبَكِّتُنِي عَلَى خَطِيَّةٍ »- يو8
ولكنه طلب المعمودية ليس ليحل عليه الروح القدس وهو من أعطنا معمودية روحه القدوس« هُوَ سَيُعَمِّدُكُمْ بِالرُّوحِ الْقُدُسِ وَنَارٍ»- مت 3، بل لأنه رأى أنه ينبغي أن يكمل كل بر أعمال الناموس« مت3: 15»
-أما مسحة الروح القدس والتى يرمز لها بالحمامة النازلة عليه وقت معموديته فهى مسحة «الإفرازوالتعيين » المقدسة، مسحة من أجل إعلان خدمته، فإسمه الشخصي للولادة «عمانوئيل- يســـوع »وبعد معموديته مُنح اللقب الإلهي «المســـيح». هذا اللقب الإلهي نطق بالروح به القديس بطرس قائلا للرب رداً على سؤاله« ماذا يقول الناس إني أنا إبن الإنسان» فقال بطرس«أنت هو المســـــيح إبن الله الحي»-مت16 فطوبه رب المجد. إذن جائت معمودية السيد المسيح كإعلان إلهي من السماء رُمزت له بحمامة الروح القدس وليست كمعمودية حلول الروح القدس فينا والذي نناله الآن في سِرِّ المعمودية. وكانت هذه المسحة المقدسة إيذاناً ببدء خدمته التبشيرية والخلاصية فلم يكن المسيح محتاجاً لإتمام تبرير الناموس، ولكنه كيهودي كان يجب ألا يشذ عن جماعة المؤمنين لأنه تجسد من هذا الشعب و وُلد تحت شريعة توراتهم.
– و كانت هناك أسباب جوهرية ضرورىة لمعمودية السيد المسيح أهمها :
أن يوحنا المعمدان وهو آخر نبى من أنبياء العهد القديم، لم يكن يعلم أن يسوع سيكون هو” المسيح- المسيا المنتظر” الذى تنبأ عنه أنبياء التوراة، إلا بعدما نزل الروح القدس على هيئة حمامة وإستقر فوق المسيح، فعلم يوحنا بالروح فقال:{ وأنا لم أكن أعرفه، لكن ليظهر لإسرائيل لذلك جئت لأعمّد بالماء، وأنا لم أكن أعرفه لكن الذي أرسلني لأعمد بالماء ذاك قال لي: الذي ترى الروح نازلاً ومستقراً عليه فهذا هو الذي يعمد بالروح القدس. وأنا قد رأيت وشهدت أن هذا هو ابن الله}« يو31:1-34».فجائت حمامة الروح القدس العلامة القوية لتعريف يوحنا واليهود بأن هذا هو المسيا المُعيَّن والمسيح المخلِّص و قدوس الله الظاهر فى الجسد.
– والمسيح هو الوحيد الذى أتى لمعمودية يوحنا ولم يعترف بخطايا فهو القدوس البار الذى بلا خطية فمعموديته ونزول الروح القدس على هيئة حمامة لم تكن لغفران الخطية
– جميع من أعتمدوا على يد يوحنا لم ينزل عليهم حمامة الروح القدس، لأن معموديته من الماء فقط للتوبة ومغفرة الخطايا ولم تكن من الروح القدس للخلاص الأبدي،لأن المسيح لم يكن قد تمجد بعد بصعوده للسماء ليرسل روحه القدوس وتصير معموديتنا من الروح القدس والنار« متى3: 11».
– فى معمودية المسيح إستعلان سماوي من الآب في السماء :{ هذا هو أبنى الحبيب الذى به سُررتُ }
– سر الثالوث الإلهى أُعلن بأقانيمه كاملة دفعة واحدة وظهرت وحدانية الله المثلثة الأقانيم، لهذا يسمى بـ«عيد الظهور الإلهي»، لأن طبيعة الله ظهرت بكامل هيئته معلناً ذاته{ صوت الآب، والإبن المتجسد و حمامة الروح القدس} ، فأعلن لليهود أن هذا هو « مسيح الرب والمعيَّن من الآب» وإيذاناً للعِيان ببدأ خدمته للبشارة والخلاص وكما نصت الشريعة أن يكون فى سن الرجولة، وهو سن الثلاثين .
– وفى مسحة المسيح بالروح القدس تحققت نبوآت التوراة بأنه المُعين والممسوح بروح الرب. فيقول الرب يهوه « المسيح بعد التجسد»على لسان أشعياء النبى :{ رُوحُ السَّيِّدِ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّ الرَّبَّ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَعْصِبَ مُنْكَسِرِي الْقَلْبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَسْبِيِّينَ بِالْعِتْقِ، وَلِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ.لأُنَادِيَ بِسَنَةٍ مَقْبُولَةٍ لِلرَّبِّ}«إش 1:61 ». والذي سُر الله به {مُخْتَارِي الَّذِي سُرَّتْ بِهِ نَفْسِي. وَضَعْتُ رُوحِي عَلَيْهِ}« إش41: 1». لهذا نجد أنه الوحيد الذي خاطبه الآب من السماء في أثناء معموديته ليقدمه للمسكونة ذبيحة خلاص أبدية.
لهذا عند بدء خدمته بالهيكل دُفع إليه بسفر إشعياء، فبدأ توقيت خدمته من نفس النبوأة لإشعياء. فمسحة الروح القدس كانت كإعلان لليهود ليدركوا بأن نبوآت توراتهم قد تحققت اليوم فيه بتجسد« مُشْــــــــتَهَى كُــــــلِّ الأُمــــــــــَمِ»- حجي2، فأعلن لهم الرب يسوع عن ذاته بعد أن قرأ النبوأة:{رُوحُ الرَّبِّ عَلَيَّ، لأَنَّهُ مَسَحَنِي لأُبَشِّرَ الْمَسَاكِينَ، أَرْسَلَنِي لأَشْفِيَ الْمُنْكَسِرِي الْقُلُوبِ، لأُنَادِيَ لِلْمَأْسُورِينَ بِالإِطْلاَقِ ولِلْعُمْيِ بِالْبَصَرِ… ثُمَّ طَوَى السِّفْرَ وَسَلَّمَهُ إِلَى الْخَادِمِ، فَابْتَدَأَ يَقُولُ لَهُمْ: «إِنَّهُ الْيَوْمَ قَدْ تَمَّ هذَا الْمَكْتُوبُ فِي مَسَامِعِكُمْ»}«لو4: 18».
– أما لماذا كانت معمودية السيد المسيح في نهر الأردن تحديداً ؟ لأنه نهر الشريعة الذي إلتقت فيه وعد الله بعهدي التوراة والإنجيل، فيشير نهر الأردن لعبور بني إسرائيل وشعب موسى لأرض الميعاد الجديدة« أورشـــــــليم » مدينة الملك العظيم داود و رمز للملك الحقيقي المسيا المنتظر والآتي ليتمم خلاصه. ننال خلاصه بأن ندفن معه لنقوم أيضاً في قيامتنا به وبروحه القدوس{ أَمْ تَجْهَلُونَ أَنَّنَا كُلَّ مَنِ اعْتَمَدَ لِيَسُوعَ الْمَسِيحِ اعْتَمَدْنَا لِمَوْتِهِ، فَدُفِنَّا مَعَهُ بِالْمَعْمُودِيَّةِ لِلْمَوْتِ، حَتَّى كَمَا أُقِيمَ الْمَسِيحُ مِنَ الأَمْوَاتِ، بِمَجْدِ الآبِ، هكَذَا نَسْلُكُ نَحْنُ أَيْضًا فِي جِدَّةِ الْحَيَاةِ؟ لأَنَّهُ إِنْ كُنَّا قَدْ صِرْنَا مُتَّحِدِينَ مَعَهُ بِشِبْهِ مَوْتِهِ، نَصِيرُ أَيْضًا بِقِيَامَتِهِ}«رومية6: 4».
لكي نعبر نحن من خلال معموديته الخلاصية لأورشليم السمائية وأرض الميعاد الجديدة{ ثُمَّ رَأَيْتُ سَمَاءً جَدِيدَةً وَأَرْضًا جَدِيدَةً، لأَنَّ السَّمَاءَ الأُولَى وَالأَرْضَ الأُولَى مَضَتَا}«رؤيا21: 1».
لهذا معمودية الماء والروح للعهد الجديد هي الباب الوحيد لميلادٍ جديد مملوء بجِدّة الحياة ويدخل من خلاله المؤمنين لملكوت الله كما قال يسوع:{ إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر ان يدخل ملكوت الله المولود من الجسد جسد هو والمولود من الروح هو روح}«يو3: 5» لنتبرر بمقتضى رحمته للحياة الأبدية:{ بَلْ بِمُقْتَضَى رَحْمَتِهِ ¬ خَلَّصَنَا بِغُسْلِ الْمِيلاَدِ الثَّانِي وَتَجْدِيدِ الرُّوحِ الْقُدُسِ،الَّذِي سَكَبَهُ بِغِنًى عَلَيْنَا بِيَسُوعَ الْمَسِيحِ مُخَلِّصِنَا حَتَّى إِذَا تَبَرَّرْنَا بِنِعْمَتِهِ، نَصِيرُ وَرَثَةً حَسَبَ رَجَاءِ الْحَيَاةِ الأَبَدِيَّةِ}«تيطس3: 5».
عِماد السيد المسيح إستعلن فيه «نور الجوهر الإلهي» بكامل هيئته، ليعلن فيه الله أنه ختَّن أرواح المؤمنين له وختم قلوبهم بمعمودية عهده الجديد«عهد النعمة » باذلاَ ذاته ليقتنينا بدمه. وقبول معموديته نعلن فيه قبولنا لخلاصه الأبدي وندخل معه في عهد نصير فيه ورثة لهذا الملكوت الروحي{ وَمَنْ يَزْرَعُ لِلرُّوحِ فَمِنَ الرُّوحِ يَحْصُدُ حَيَاةً أَبَدِيَّةً}” غل6، فلا يقدر الجسداني أن يرث السماوي{ إن لحما ودما لا يقدران أن يرثا ملكوت الله، ولا يرث الفساد عدم الفساد} «1كو15: 50 ».
لهذا يقول الإنجيل أن نوال المعمودية هي ختان إلهي غير مصنوع بيدٍ لعهد جديد ندفن فيه بمعمودية المسيح «لنلبس المسيح»-غل3: 27 ، فنقام أيضاً معه في المجد العتيد:{ وَبِهِ أَيْضًا خُتِنْتُمْ خِتَانًا غَيْرَ مَصْنُوعٍ بِيَدٍ، بِخَلْعِ جِسْمِ خَطَايَا الْبَشَرِيَّةِ، بِخِتَانِ الْمَسِيحِ. مَدْفُونِينَ مَعَهُ فِي الْمَعْمُودِيَّةِ، الَّتِي فِيهَا أُقِمْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ بِإِيمَانِ عَمَلِ اللهِ}« كولوسي2: 11