الإثنين , ديسمبر 23 2024
غلاف الرواية

الأهرام تنفرد بنشر : الفصل الأول من رواية “أسياد حارتنا “

غلاف الرواية
غلاف الرواية

المؤلف … إيليا عدلى
(1) حارة الطيبين
هنا حارة الطيبين..حيث تدور ساقية الحياة..كما تدور في كل حارات مصر..هنا عاش دوماً وسيظـل الطيبون، سيناريوهـات حياتهم مكررة في معظمها، وقد تكون رتيبة غير متطورة، وأحياناً سريعة فائرة، ثائرة..ساقية الحياة تجد الطيبين الذين يسّيرونها ويدفعونها للأمام، وتجـد من يأخذ دور الفرعون، يضرب من يدفعونها بالسياط ليتحركوا، وتجـد من يركب فوقها ليلهو ويزيد ثقل الدفع، وأيضاً تجد من يزرع الشـوك تحت هذه الأرجل الفقيرة العارية، وأثناء كل ذلك..الكل يغني أغنيته في سعادة..نعم الكل.. حتى من يدفع الساقية يغني..”هيلا هيلا..يا رب سهلها”..ووسط كل هذه الأغاني المختلفة المختلطة، ووسط كل هذا الصخب، تدور السواقي.
جلس الحاج عبد العاطي في أحد المقاهي الشعبية بحارة الطيبين يتصفح الجريدة، منتظراً مجيء صديقه الحاج حسن، لإحتساء قهوة العصاري سوياً، وبعد برهة من الوقت ترك الجريدة على المنضدة الصغيرة أمامه، ملتفتاً الى حديث عليوة صبي المقهى الذي سأله إحضار قهوته السادة المعتادة، فيطلب منه عبد العاطي الإنتظار حتى حضور صديقه الحاج حسن..عليوة لا يهدأ عن الحركة حتى حينما يتحدث مع الزبائن، فهو ديناميكي، ينظر يميناً ويساراً، يأخذ طلبات رواد المقهى، كلما رفع أحدهم يده لطلب مشروب أو شيشه تجده يهتف بتكرار الطلب ليسمعه زميله الذي يعد المشاريب..لمح الحاج حسن قادماً نحو المقهى فقال:
– أهو جاي هناك..ابتسم عبدالعاطي وطلب منه أن يحضر القهوة السادة، فصاح عليوة في حيوية تملأ المكان:
– وعندك إتنين قهوة سادة لعمك عبده وعمك حسن.
وصل الحاج حسن المقهى، جلس وإلتقط انفاسه بصعوبة وحيىّ الحـاج عبدالعاطي، الذى أخـبره مازحاً بأنه بلـغ من العـمر أرزله، ثم هنأه بالوصول لسن المعاش في ذلك اليوم..تنهد حسن مستنكراً التهنئة، قطار العمر لم يتوقف إلا في محطة الستين، جرى دون أن يتمهل عليه ليتذوق الحياة بعيدأ عن ساقية العمل التي كان مربوطاً بها، يدفعها دون أن ينظر بعيداً عن دائرتها، يعمل أسبوعاً وينتظر يوم الراحة ليسلّمه للعمل مجدداً، يحن إلى إجازة العيد أو إجازة إعتيادية طويلة،يستمتع فيها بزيادة ساعات النوم والتواجد مع أسرته بلا دفتر حضور وإنصراف،بلا غوص في بحر من أكوام الأوراق ومسئوليات يصطحبها من وإلى مجمع التحرير.
أطرق حسن يذكر صديقه بما مروا به من ذكريات منذ جاءا سوياً من الصعيد، ليعملا موظفين في مجمـع التحرير، سكنا سويـاً في نفس العمارة بحارة الطيبين، ظلت صداقتهما تنمو بمرور السنين حتى ورثها إبنيهما نصار ورفيق..ثم قال له:
سمعت ان ابنك نصار شغال في مكتب الأستاذ محمود المحامي, و الأستاذ محمود بيقول عليه أحلى كلام وبيعتبره دراعه اليمين.
الحمد لله رب العالمين..أهو بَقَالُه سبع سنين من يوم ما إتخرج في كلية الحقوق وهو شغال بايديه وسنانه في مكتب الاستاذ محمود وكسب ثقة الاستاذ..عقبال ما ربنا يكرم إبنك رفيق يا حسن.
نظر حسن للارض حزينا على إبنه رفيق الذي إلتحق بالكلية في نفس السنة مع نصار إبن عبدالعاطي، ولا يزال في السنة الرابعة ينجح عاماً ويرسب إثنين..لاحظ عبدالعاطي كمد صديقه، فربت على كتفه معزياً بكلمات لطيفة محاولاً إحياء الأمل لديه والتهوين عليه ليخرج من حزنه.
بدأ معظم زبائن على المقهى فى مغادرة المكان..لاحظهم حسن فسال عبد العاطي عن الوقت، فرفع عبدالعاطي يده اليسرى وقرب الساعة الى عينيه ليرى جيداً ووجد أنها الخامسة والنصف، فطلب من صديقه الرحيل قبل أن يحل الليل وتبدأ ساعات حظر التجول..استدعي عبد العاطى صبي المقهي وسأله عن حساب المشروبات، فرد عليوة:
– عشر قروش، وكمان خمستاشر قرش من إمبارح … يبقى الحساب كله خمسة وعشرين قرش يا عم عبده.
أخذ عليوة النقود من يد عبد العاطي، وقبّلَها شكراً لله على الرزق ووضعها على جبينه، حتى يديمها ربنا نعمة ثم رفع يديه وأخذ يدعو على من قتل الرئيس وتسبب في ضيق رزقهم..نهض الصديقان وسارا نحو المنزل في نهاية الحارة، وبعد لحظات صمت في بداية سيرهما سأل حسن صديقه عن خبر حظر التجول في أسيوط وما يحدث بها من توتر، فأخبره عبدالعاطي بما قرأه في صحف اليوم عن محاولات الجماعات الإسلامية في أسيوط بالإستقلال بالمحافظة وعمل إمارة إسلامية بها..فرد عليه حسن قائلاً:
– البلد كلها بتنام بعد العِشا..محدش عارف ممكن يحصل ايه في الشوارع.
– والله يا حسن قلبي واكلني علي نصار ورفيق مـن موضوع السياسـة
ده .. دانا ما صدقت نصار خلص الكلية ومشاكل اتحاد الطلاب وطول لسانه مع المسئولين, مع إنه زي البلسم مع كل خلق الله.
سيطرت الإبتسامة على طرف شفاه حسن وهو يتذكر المصاعب التي واجهونها سوياً مع أبناءهم وقال:
– فاكر يا عبده كان حالنا ازاي يوم ما اعتقلوا نصار ورفيق في مظاهرات 18 يناير؟
سرح عبد العاطي بخياله متنهداً، وتذكر ذلك اليوم الذي لم يذوقا فيه طعم النوم, بحثا عن نصار ورفيق في كل المستشفيات وأقسام الشرطة ووجدوهما أخيراً محتجزان في قسم شرطة الأزبكية، ولم يستطيعا إقناع الضابط بالإفراج عنهما بضمان والديهما، حتى جاءت التعليمات بالإفراج عن كل المعتقلين عشية تراجع الرئيس السادات عن قرار إلغاء الدعم..ظل الصديقان يتحاكيا ضاحكان حتى وصلا إلى مدخل العمارة..توقف عبدالعاطي وأخرج المفتاح من جيبه لفتح الباب وعرض على حسن الدخول عنده ليستريح من مشوار الطريق، أعتذر حسن لأنه يرغب بالنوم والاستيقاظ مبكراً لإنهاء إجراءات المعاش في اليوم التالي..صعد حسن السلم متثاقلاً، وكأنه فى التسعين من عمره..وصل إلى باب شقته بالدور الثاني وفتح الباب ودخل.
وفي شقته بالدور الأرضي، يدخل الحاج عبد العاطي..تستقبله زوجته الحاجة نفيسة، وهي سيدة في بداية الخمسينات من العمر، تبدو أصغر من سنها، مكتنزة الجسم، فارعة، لازالت محتفظة بعلامات الحسن والدلال..بالرغم من أنها بسيطة غير متعلمة ومن أرياف الصعيد، فهي خبيرة في تجميل وجهها ومظهرها، وكلما يرجع زوجها الحاج عبدالعاطي يوماً الى المنزل في مواعيده الثابتة يجدها تلبس له ما يبرز جمالها وأنوثتها. تقدمت لتساعده في خلع جاكت البدلة ويدخلان الى غرفة نومهما..وضعت الحاجة نفيسة الجاكت في الدولاب، وأكمل الحاج عبدالعاطي خلع ملابسه حتى أصبح بملابسه الداخلية، والقى جسده المرهق من كثرة المشي على السرير، ليستريح دقائق قبل الحمام الدافيء..أخذ نفساً عميقاً ثم سأل نفيسة عن نصار الذي لم يره منذ يومين، فأخبرته نفيسة بأن إبنها يستيقظ مبكراً يجهز أوراقه ويراجعه ثم يتوجه لمكتبه أو المحكمة ويعود بعد موعد نوم والده..سألها عبدالعاطي:
– طب وانهاردة؟
– انهارده صحيت الساعة ستة الصبح وخرجت للصالة لقيته يا عيني شغال في كوم ورق على الترابيزة..عملتلوا كوباية قهوة ونمت ولما صحيت كان خرج على شغله.
رفع عبدالعاطي يديه داعياً لإبنه بسعة الرزق وحب خلق الله وتوفيقه في عمله، كما هو رافع رأسهم أمام الناس بنجاحه وحسن سمعته ومحبته للناس..ابتسمت الحاجة نفيسة بفخر ودعت لزوجها بدوام الصحة والسلامة كما يهتم بها وبنصار، ثم تتسع ابتسامتها وتلمع عيناها وتجلس بجواره على السرير ممددة ساقيها المصقولتين في استرخاء، وينخفض صوتها وتضع يدها بحنان على صدره قائلة:
..وكمان فيه موضوع عايزه أكلمك فيه..
حرك عبد العاطي حاجبيه مغازلاً نفيسة، مرر أنامله على كتفيها نازلاً على زراعيها الممتلئين، ونظر في عينيها بعمق ورومانسية، وأكد لها بأنها ستظل جميلة وحنونة في نظره وكأنها لازالت إبنة عشرين ربيعاً..ضربت نفيسة صدر عبده بحنان ودلع وهي تتمايل، وكأنها تثبت له بأنها صبية صغيرة قائلة:
– يوه جاتك ايه يا سي عبده..أنا عايزاك في موضوع تاني يا راجل..موضوع كلمني فيه نصار علشان أقوله لك.
يعتدل عبد العاطي على ظهر السرير في جدية وقلق ويسألها عما حل بنصار، فتخبره نفيسة بألا يقلق، وتعلمه برغبة نصار في الزواج..يزداد قلقه وترقبه، سألها عن الفتاة، ابتهجت نفيسة وأشرقت السعادة في عينيها مما يمنح عبده بعض الإطمئنان، وأخبرته بأن الفتاة هي بنت الأستاذ محمود..فسألها عبدالعاطي عن أي محمود تتحدث محاولاً التأكد من المعلومة، فأخبرته نفيسة بأنه الأستاذ محمود المحامي..صاحب المكتب الذي يعمل به نصار، فتنفرج أسارير عبدالعاطي، وترتسم ابتسامة الطمأنينة على وجهه وسأل زوجته عما قاله لها نصار عن الفتاة، فأجابته:
– البنت اسمها فريدة..السنادي في آخر سنة في كلية الحقوق.
– ابن الوز عوام..والبنت مؤدبة وحلوة؟
هو نصار بيقول كدة..
ثم تتحول نبرتها للجدية مؤكدة أنها ان لم تر بعينيها وتسمع بأذنها لا تصدق، فإن مرآة الحب خادعة لا تعكس الحقيقة ولكنها تعكس ما يخبئه القلب، ثم أخبرت عبده بأن نصار سيعود مبكراً اليوم قبل أن ينام عبده ليتحدث إليه بعد أن سألها أن تتوسط له عند والده في ذلك الموضوع لأنه يشعر بالخجل والاحترام الشديد لوالده، مال عبد العاطي برأسه ببطء نحو أذن نفيسة وهمس فيها بحنان وخبث: هو أنا مش قولتلك بلاش تخلي الواد يقولك يا (نوسة)..لو حد سمعه أول امبارح وهو بيقولهالك، يقول علينا ايه؟!..احنا صعايدة يا نفيسة.
وضعت نفيسة يدها على فمها لتمنع ضحكة قد تنفجر وتضيع وقارها ونجحت في خفضها وقالت:
– انت بتغير من إبنك يا عبده علشان بيدلعني؟!
نهض عبدالعاطي من السرير بسرعة موجهاً وجهه الناحية الأخرى، ويخفي ابتسامة تنم على احراج وانهزام في الحوار، وتحرك نحو باب الغرفة وهمَّ خارجاً:
– غيرة إيه يا ولية اختشي وبلاش الاسم ده عيب عليكي.
تنزلق نفيسة بظهرها عن ظهر السرير وتمط جسدها المكتنز ليملاً سريرها، وتضع يديها خلف ظهرها، وتتأوه في دلع ونشوة إحساسها بغيرة زوجها وتؤكد له ثانيةً بأنه يغير عليها..يعود عبده من الصالة ويفتح الباب قليلاً ويطل برأسه عليها مداعباً:
– قالْ “نوسة” قالْ..طاب أنا رايح آخد حَمّام وجاي يا..يا نوسة.

 

إيليا عدلى
إيليا عدلى

 

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …