بقلم .. نانا جاورجيوس
إن كانت المساواة في الظلم عدل بمنطق الجبابرة والطغاة و من يستغلون مناصبهم في البطش بالضعفاء، ممن لا حول لهم ولا قوة، فالعدالة البطيئة المتعسفة هي قمة الظلم المقنن حين يكون الطغيان مع سبق الإصرار والتربص بالضعفاء. فيموت المنطق وينعدم الضمير ومعهما تندفن إنسانيتنا حسرة عليها وعليكي يابلدي، يلي الفقير فيكِ عدمان والغلبان فيكِ مُهان وملهوش فيكِ مكان، كُحِّيتي ياكبد أمه ومش لاقي اللَّضة و ملهوش دِيِّة، و زي الجاموسة لما تقع تكتر سكاكينها، و اللصوص فيكِ بينهبوكِ عيني عينك في وضح النهار!
ليه ياعبدو ياحبيبي سرقت الرغيف أبو شلن، ده حتى قرَّب يختفي ومحتاجين لعدسة مكبرة نلاحقه تحتها، وأحياناً بنعلقه في ميدالية الموبايل لما بنكون متشعلقين في الأتوبيس ساعة الذروة، أو لما بنخاف عليه من عين الحسود بنداريه في جيب الساعة الصغير. ده حتى المثل بيقول إن سرقت،فاسرق جمل! ويا حظك و ياسعدك وهناك لو صادفت زيارة سيادة وزير التموين وإستنيت «الرغيف الجامبو أبو حديد بتاع سيادته» إللي بيِفضل ماسكه في إيديه و يمطْ فيه قدام العدسات و يشحتف روحنا ويجرِّي ريقنا عليه وسيادته بيوعدنا أنه حـيكافح به الأنيميا وفقر الدم من جسد الغلابة. يمكن كان ينوبك رغيف سُخن ومنفوخ وبيتمطْ لنصف متر قدام. يحطه سيادته في إيديك لما يخلص الشو الإعلامي «برغيفه الإفتراضي» ليتم طرحه على جمهوره الإفتراضيين لمواطني مملكة العم زوكربيرج بالفايسبوك وبدل ما نتباهى بصور سيادته، نتباهى بصور رغيفنا الجامبو قدام العالم!
بطل قصتنا مش «جان فالجان» الرجل الفرنسي صاحب رواية البؤساء لفيكتور هوجو في بلاد الكفار. بطلنا هو طفل «المعذبون في الأرض» الذي لم يتخطى عمره الثامنة وقت ما قرصه الجوع ومد إيده ليأخذ الأرغفة فعوقب على ذنب لم يرتكبه، ذنب رآه الناس والقانون أنه جريمة شنعاء و ربما فكروا في قطع يده لتطبيق حد السرقة لأنه في بلاد المؤمنين! والتهمة سرقة خمسة أرغفة برُبع جنيه من المخبز إللي بيشتغل فيه، ليحاكم على مدار 19 شهراً ويصدر عليه حكماً غيابياً لا يعلم أهله به فيدفعون من عوزتهم وفقرهم 1500جنيه للمحامي لإستئناف حكم العدالة العمياء! ولم يحكم قاضينا وحامل ميزان عدالتنا ببراءة الطفل إلا عندما حضر صاحب الفرن و تنازل عن القضية وهو يقول«تنازلت عن القضية رحمة بوالدي الطفل!» فلم يتنازل الرجل لأجل الطفولة البريئة بل لأجل شراء الخواطر! ليعيش المظلوم بقانون الإستثنائية! يا الله متى نرحم أطفالنا فلم نولد كباراً؟ و متى نلِمْ لحم الطفولة الجائعة من الشوارع ونرمم لحم بطونهم بالقليل من فُتات موائدنا؟!
أحداث قصتنا لم تَدُرْ ببلاد أسبرطة في القرون الوسطى بل في بني سويف بمصر وبعد ثورتين لأجل تحقيق العدالة! أنه الطفل عبدالمسيح عزت عزيز 9 سنوات، عامل الفرن الذي جاع و أصحابه فأكلوا خمسة أرغفة من الفرن إللي بيشتغل فيه، قبل سنة وسبع أشهر، يعني كان عمره وقتها لا يتعدي السابعة أو الثامنة، فماذا تساوي كلماته وهو يقول«جوعت فأخذت 5 أرغفة من الفرن اللى كنت بشتغل فيه زى أى حد من عمال الفرن بياخد عيش ولقيتهم حطوا طاولة الخبز كلها على تروسيكل المخبز وحطونى معاها وخدونى على المركز وقالوا لى هتدخل الإصلاحية…» فتم عمل محضر له بسرقة 170 رغيفا بما يعادل 8 جنيهات! ليحكم عليه بالحبس والإيداع في دار رعاية الأحداث لأن القانون الأعور لم يفرق بين سارق الرغيف و سارق أموال الشعب وماصص دماء الغلابة. فيا إما ميزان عدالتنا أصبح مختل ومحتاج مصحة للأمراض النفسية والعصبية، يا إما القاضي أْحْوَلَ و محتاج يراجع ضميره المهني ليفرِّق بين الأنا والواجب، يمكن يؤنبه ضميره الإنساني فيتذكر كيف حكم على براءة الطفولة بالتشرد و الضياع!
فهل يستحق الغلبان المطحون تحت أقدام الجبابرة أن يحاكم بقانون ساكسونيا؟! نعم يستحق قطع يده حين تمتد لفتات أسياده ليسد رمقه، فمازلنا نرى الفقر عيب نشمئز من رائحته، و عامة الشعب يعيشون عبيد الذُل والهوان، والفجوة أصبحت شاسعة جداً بين طبقة العظماء والوجهاء والنبلاء وبين طبقة المذلولين تحت خط فقرهم، فلولا الفقراء ما وجد أغنياء يسيطرون بنفوذهم ويملأون جيوبهم من عوزة المحتاجين. طالما نعيش بمجتمع إنعدم فيه الحِس الإنساني ويفتقر للضمير ليحكم بالمواقف الأخلاقية وقيم الرحمة. نعيش مجتمع يفلت فيه المجرم والإرهابي واللصوص الكبار من العقاب. مجتمع يبرئ أصحاب النفوذ ويدين المسكين والفقير، كما تم تبرأة مجرمي النظام المباركي البائد من جميع تهم الفساد وتبديد أموال الشعب و جرائم القتل التي مورست بحِرفية وتفنن ضده. مجتمع توغل في فساده حتى العظام حين تزاوجا فيه المال بالسلطة فإرتجفت أمامهم يد العدالة في تطبيقها وإستشعر القانون الساكسوني أمامهم بالحرج، فيحكم عليهم بجلد وقطع رقبة «ظلهم» بمحاكمة صورية وهزلية لأنهم من طبقة النبلاء المختلفة عن باقي الشعب، لتنزل الستار وتنتهي فصول المسرحية وهي تدين جمهور المتفرجين عليها والمصفقين لها، فنحن من نصنع الآلهة والفراعين بأيدينا لينكلون بنا، حتى أصبحنا «نشرعن الجريمة» فنقتل القتيل لنمشي في جنازته! فيفلت المجرمين لنعيد في كل مرة إنتاج نفس المنظومة الفاسدة وتزيد الفجوة إتساعاً بين العدالة المنشودة وتحقيقها. فيُكيل البطش للغلابة كؤوس طغيانه مضاعفة حتى تملأ الحسرة بطونهم وهم يرون لقمة عيشهم الحاف تقتطع من بطونهم و تسرق من إيديهم لتلتهمها أفواه اللصوص الكبار أو يتم التفريط فيها وتهريبها عبر الأنفاق لمن لا يستحقون، ممن يسرقون قوت الشعب يومياً ويشفطون دمه عبر أنفاقهم فيكون رد جميلهم مزيد من تفجيرات مجرميهم تخترق أجسادنا وتستبيح دمائنا وتدوس فوق أشلائنا!
الظلم لا يقيم العدل ولا يصنع دولة بل غابة من الفوضى والتوحش والتغول، والإنسان ليس لأجل القانون، بل وضعت القوانين لتحترم إنسانيته وتنصف الفقراء والضعفاء لا أن تزيد أحمالهم. عدالة تطبيق على الغني قبل الفقير وعلى المجرم لإنصاف المظلوم والضحايا الذين يتساقطون يومياً في مجتمع لم يرحمهم، إفترس فيه الوحوش لحمهم ويقهرهم أصحاب النفوذ بلا حساب ولا رقيب لنرى المنطق هكذا كما في قصتنا منكفئ على وجهه يزحف نحو حتفه وهو مقلوب على ظهره! فإن صار العدل ظالماً في دولة ساكسونيا، فمن يُشبِع الفقير وينصف المظلوم ولمن يذهبون يا دولة العدالة. فحين يقرصهم الجوع ويبطش بهم الظلم لا يسعهم إلا أن يصرخون من أوجاعهم وهم يسخطون عليكم «الَوَيْلٌ لَكُمْ أَيُّهَا الْقَادَةُ الْعُمْيَانُ! الَّذِينَ يُصَفُّونَ عَنِ الْبَعُوضَةِ وَيَبْلَعُونَ الْجَمَلَ».