الإثنين , ديسمبر 23 2024
نوري إيشوع

رحلتي مع الألم…!

بقلم المحامي نوري إيشوع

أنا طفلٌ من وطنِ الإباءِ و الكرامةِ، وطن المقاومة و الشرف و العزة، إستيقظتُ في الصباحِ الباكر، تناولتُ فطوري بعد إلحاح والدتي، قبلتُ أيادي والديّ كالعادة و قبلتُ جبين شقيقتي، حملتُ حقيبتي المدرسية

وذهبتُ على عجلةٍ من أمري الى مدرستي التي تبعد ما يقارب الميلين عن منزلي

شعرتُ و انا أجتاز الطرقُ المتعرجة، بانني على موعدٍ مع القدر، وصلتُ المدرسة، استقبلني رفاق الدراسة

ببسمتهم المعهودة التي تعكس براءة طفولة و نقاء ملاك و قلوب غضة مفعمة بالمحبة.مع بداية الحصة الأولى، سمعنا إنفجاراً مدوياً هز أركان المدرسة وغطى الدخان المنطقة بأكملها

أطلقتْ سيارات الأسعاف و النجدة صفاراتها وسارعتْ الى نجدة الجرحى

وحمل جثث الشهداء القتلى من الكبار و الصغار، فأصبحنا نسبحُ في بحرٍ من الدماء.

نحن في تلك الحالة الرهيبة و الصعبة بدأنا نسمع عواء الذئاب وهي تقترب منا و تكّبر

بصوتٍ عالٍ (الله أكبر! الله أكبر!).

ترتفع أصواتهم كلما أقتربوا منا، قررنا دون تفكير أن نترك المكان بسرعة البرق بعد أن أدركنا ان الوحش

قد اقترب و يتقدم نحونا.

ذهب كل منا في إتجاه، فتهنا جميعاً بين أزقة المدينة المنكوبة.

قررتُ أن أذهب الى بيتي لأطمئن على أمي و أبي و شقيقتي ذات الثلاثة ربيعاً، تنقلتُ بحذرٍ شديدٍ بين الأزقة

و البيوت المتهدمة الى أن وصلتُ الى بيتنا، لكني لما أرى لا بيتنا و لا بيوت الجيران

وكأن زلزالاً ابتلعهم وبدا لي كأن هذا المكان كان مهجوراً منذُ عشراتِ السنين، فتشتُ عن اهلي في الجوار

لكن دون جدوى، لم أجدهم و كأنهم تركوا المكان منذُ زمانٍ بعيدٍ.

ذرفتُ دموعي بصمتٍ خوفاً من أن يسمعني الوحش أو أحد أعوانه فيصبح مصيري كمصير أهلي و رفاقي

وجيراني!

تركتُ المكان وأنا أجرُ أذيالي، والألم يعصرُ قلبي والدموع تسيل كشلالٍ فوق خدودي, همتُ على وجهي

لا أدري إلى إين تأخذني قدمايّ بعد أن سلمتها دفة قيادتي، خلال رحلتي الحزينة و المليئة بالمخاطر والآلام

إلتقيتُ بطفلٍ يصرخ من شدة الإلم بعد أن بُترت إحدى ساقيه نتيجة الإنفجار

رإيتُ عذارء تهرول و تحاول الأختباء مني بعد أن رأتني كي لا أراها وهي شبه عارية بعد أن رماها أولاد الشر

على قارعة الطريق و هي ليستْ بحيةٍ أو ميتة! رإيتُ امرأة طاعنة في السجن

تردد أسماء أولادها و أحفادها و هي تبكي. شاهدتُ رجلا طاعناً مستلقياً على أحد الأرصفة يمسحُ دموعهِ

بكفيهِ المرتجفين و يرفعُ رأسهُ للسماء طالباً رحمة الله ليخلصه من عذاب وهول ما رآه بعد أن دخلوا بيته

وهتكوا عرض بناته بحضوره بعد أن ربطوه وأهانوه و ضربوه حتى أغميّ عليه!

رإيتُ أمراة ثكلى تحضنُ جثامين أطفالها الثلاث وهي تقبلهم و تحدثهم كأنهم أحياء, بعد أن قتلهم المجرمون

وفصلوا رأس أبوهم عن جسده وهو حي وعلقوه فوق سور دارهم.

رإيتُ طفلاً رضيعا يصرخ من شدة الجوعِ و البرد بعد أن قتلوا والديه و رموه على على قارعة الطريق ليلقى حتفه

المحتوم، رأيتُ عشرات من رفاقي يفتشون بين حاويات القمامة محاولين العثور على ما يقتاتون لسد رمق جوعهم و ليوقفوا به ضربات أسواط معدهم الخاوية.

في نهاية رحلتي إلتقيتُ في الألمِ، فهربَ مني مرتعباً و بدأ يختفي بعيداً وهو يكرر و يقول : أرجوكَ إيها الطفلُ العجوز، اتركني وحيداً و لا تحملني معك، لانني لا أستطيع حمل آلامك.

فتحتُ عيني بعد أن أرهقتني رحلتي الأليمة، فشممتُ رائحةُ تراب بيت أهلي، قررتُ العودةُ رغم مخاطر الطريق

ولو كان يكلفني ذلك عمري لان الشر إيامه معدودة مهما صال و جال وله جولة واحدة و للحق جولات!

مسحتُ دموعي من جديد ورسمتُ بسمة على شفاهي الذابلة ونظرتُ الى السماء

فرأيتُ حمائم بلادي البيضاء تتجهي نحوي و هي تحمل معها أغصان الغار

وتغرسها في التراب من جديد، معلنة قيامة وطن!

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …