بقلم/ احمد ياسر الكومى
شهدت العلاقة بين العملاقين بعد انهيار الاتحاد السوفييتي توترات وشدّ وجذب بين الولايات المتحدة والاتحاد الروسي، وإن كانت طبيعتها تختلف عن الصراع الآيديولوجي بين الرأسمالية والاشتراكيةإنّ العلاقات الأمريكية – الروسية يشوبها دائما عامل انعدام الثقة ، ومما زاد في توتر هذه العلاقات أنّ الإدارة الأمريكية السابقة لم تأخذ بعين الاعتبار “ الإطار الاستراتيجي “ الذي تضمنه الإعلان الروسي – الأمريكي في نهاية “ قمة سوتشي “ في أبريل 2008: إنّ الدولتين لم تعودا عدوتين ولا تشكلان تهديدا استراتيجيا الواحدة للأخرى، والدعوة إلى حوار يتناول الخلافات التي تفرق بينهما في شأن توسيع الحلف الأطلسي، والاهتمام المشترك بإنشاء نظام دفاعي مشترك مضاد للصواريخ مع أوروبا، تشارك فيه ثلاثة أطراف: روسيا والولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي. ودراسة التهديدات الصاروخية الجديدة، والعثور على وسائل لمواجهتها.
على أية حال، هناك أكثر من ورشة تفكير ودراسة دعت إدارة الرئيس أوباما إلى التفكير الجدي بأسس الشراكة الضرورية لإصلاح العلاقة الأمريكية – الروسية، وقد حملت إحدى الدراسات الأخيرة عنوان “ التوجه الصحيح للسياسة الأمريكية نحو روسيا “، في تقرير للجنة رفيعة المستوى ترأسها السيناتور والمرشح السابق للرئاسة غاري هارت، اقترحت ضبط السلاح وتخفيض الترسانة النووية، والعمل على مناطق المصالح المشتركة مثل: إيران، أفغانستان، كوريا الشمالية، الطاقة، السيطرة على الإرهاب.
على هذه الأرضية يمكن فهم العرض الأمريكي لروسيا، الذي مفاده أنّ الإدارة قد تكون مستعدة للبحث في مسألة شبكة الصواريخ الباليستية في بولونيا وتشيكيا، مقابل تخلّي روسيا عن دعم البرنامج النووي الإيراني، طبقا لاقتراح عالم السياسة الأمريكي الشهير والأستاذ في جامعة هارفارد جوزيف ناي صاحب نظرية ديبلوماسية “ القوة الناعمة “.
وفي المقابل، تواترت التصريحات الروسية التي تربط بين الملف الإيراني وملف الدرع الصاروخية، باعتبار أنّ الإدارة الأمريكية تتذرع لإنشاء منظومتها بما يوصف بـ “ خطر الصواريخ الإيرانية “. ولعل هذه الصفقة تؤدي الى قبول إيران بالمبادرة التي طرحها الرئيس بوتين في عام 2006، والتي تدعو إلى إنشاء شبكة مراكز دولية لتخصيب اليورانيوم وإنتاج الوقود النووي تعمل تحت إشراف مباشر من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية، أو إقامة مركز روسي – إيراني مشترك لتخصيب اليورانيوم على الأراضي الروسية بمشاركة خبراء إيرانيين.
ومنذ تولي الرئيس الروسي فلاديمير بوتن السلطة عام 1998م سعى بشكل برجماتي للنهوض بروسيا كقوة سياسية واقتصادية وعسكرية واستعادة نفوذها على الساحة الدولية.. ففي المجال الاقتصادي عاد الاقتصاد الروسي الى النمو وتحولت موسكو الى قوة اقتصادية ومالية رئيسية يحسب لها حساب على الصعيد الدولي بفضل التضخم الهائل في العائدات الناجمة من موارد النفط والغاز الطبيعي وبما يساهم في تعزيز الشعور الروسي بالثقة والقدرة على التحرك والتأثير واثبات الوجود من خلال السيطرة على احتياطيات وانتاج الطاقة الروسية والسيطرة على خطوط الانابيب الممتدة عبر اراضيها واراضي جيرانها ، فهناك شبكة واسعة من خطوط الانابيب (للغاز وللنفط) ممتدة من الاراضي الروسية الى دول اوروبا (اوكرانيا روسيا البيضاء، بولندا، المانيا، ليتوانيا، استونيا ، جمهورية التشيك، المجر، النمسا، اليونان، هنغاريا، بلغاريا).
ولمزيد من السيطرة على الاسواق الاوروبية تم انجاز عقود طويلة الأجل مع زبائن اوروبيين يصعب نكثها ، فقد أبرمت شركة الطاقة العملاقة الروسية «غاز بروم» عقوداً طويلة الأجل مع معظم الدول الاوروبية ، وبين حين وآخر تهدد روسيا بتحويل تدفق الغاز الى الصين واليابان شرقاً.. او بوقف تدفق الغاز عن اوروبا.. مما يعني نوعاً من ممارسة النفوذ وعرض العضلات السياسية والاقتصادية واظهار اهميتها العالمية كمزود للغاز مما سبب ذلك قلقاً لدى الدول الاوروبية التي طلبت من روسيا آليات تضمن امدادات الطاقة.. خاصة بعد تزايد الاعتماد على الغاز والنفط الروسيين.
ومن هذا المنطلق عملت روسيا على استغلال مواردها الطبيعية من الطاقة لاستعادة المكانة القوية التي فقدتها.. وتوظيفها في المجالات السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.. في مواجهة توسع الهيمنة الامريكية والغربية في اوروبا الشرقية وآسيا الوسطى اللذين يعتبران المجال الحيوي لروسيا – قديماً وحديثاً – وكذا مناطق نفوذ طبيعية لا يمكن التساهل تجاهها مثلما لا يمكن تجاهل ما يمثله المشروع الامريكي لنشر الدروع المضادة للصواريخ في اوروبا الشرقية (بولندا، جمهورية التشيك) من خطورة على الامن القومي الروسي حيث تعارض موسكو هذا المشروع معارضة شديدة.. متهمة واشنطن بأنها تهدد جدياً القوى الاستراتيجية النووية لموسكو وبأن المشروع سلسلة من التوسع والهيمنة الامريكية وهو ما ترفضه موسكو.
ويعتقد المحللون في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية ان الحرب الباردة التي تتجه إليها العلاقات الروسية – الامريكية ستكون هذه المرة سياسية مع وضع الشق العسكري في الاعتبار ، وان الامر لا يقف عند حد التلويح باستخدام كروت ضغط دبلوماسية بل انه قد يتعداه الى مجالات اخرى كالتجارة والاقتصاد خاصة (اقتصاد الطاقة) ،و هو الامر الذي يضعه الجانب الروسي والامريكي والاوروبي في الحسبان، وقد بدأت روسيا بإعادة بناء مواقع نفوذها وتكريس امتدادات تحالفاتها وتعزيز أوجه وجودها السياسي والامني والاقتصادي (الطاقة) ،وبالتالي نفوذها الاستراتيجي .. وبدأت هذه السياسة تأتي ثمارها.. ويقول د.الحسين شعبان إن موازين القوى الأمريكية- الروسية تتجه اليوم وبسبب الغاز إلى تفاهمات نوعية وعلاقات جيوسياسية استراتيجية متخطّية مرحلة الحرب الباردة والصراع الآيديولوجي السابقة، ومتوجهة لتجاوز فترة التوترات والاحتدامات ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، لا سيّما الصراع بين رأسمالية روسية صاعدة ومتطلعة لدور إقليمي ودولي تعويضي، وخصوصاً اقتصادي ومالي، وبين رأسمالية كبرى مهيمنة اقتصادياً وتكنولوجياً وعلمياً وعسكرياً وثقافياً، ولعلّ الغاز سيكون عنصر التقارب المهم، خصوصاً إذا ارتبط بحلول سياسية للأزمة السورية وترتيبات إقليمية تنعكس على العلاقات الثنائية بين العملاقين.
الوسوماحمد ياسر الكومى
شاهد أيضاً
جورج البهجوري بنكهة وطن !!
بقلم عبدالواحد محمد روائي عربي فنان تشكيلي كبير عاصر كل نجوم الثقافة العربية محيطا وخليجا …