لدى أرض الكنانة – مصر أسماءٌ لامعة يعتز بها المصريون على مرّ العصور، وإنني اليوم أدون بأمانة بعض ذكريات العمر الذي مضى لرجل يُعد أحد عمالقة مصر. عرفته وهو في منتصف السبعين من العمر، فأصبحت كمن يلحق بالقطار السريع قبل الوصول إلى المحطات الأخيرة. إنه الإنسان المهموم بشأن بلاده التي عرفت في التاريخ بأمّ الدنيا . هو ذلك المصري الوطني الغيور على بلده الذي يتمتع بالخلق الرفيع والضمير المُستقيم، والسلوك النظيف واللسان العفيف، إلى جانب صفاتٍ أُخرى بتُ اراها غير شائعة في حياتنا اليوم. إنه الأديب المصري المرموق أنطوني ولسن أو ” العم ولسن” كما يحلو لي أن أناديه.
تعود معرفتي به إلى شهر أكتوبر من عام 2011. واذكر للرجل من المواقف الجميلة التي لا أنساها، يوم أقيم حفل كبيرٌ لتكريم ذلك الشيخ الجليل بتاريخ 29/1/2012 بمناسبة إطلاق كتابيه:” الحُبّ هو الدواء” و” ذكريات العمر اللي فات”، شرفني الرجل لكي أكونَ مُتحدثًا فيه وسط حشدٍ رفيع من المثقفين والأدباء المصريين والعرب، فوجدتها مناسبة مؤاتية لكي أتحدث عن الرجل ودوره البارز في الثقافة المصرية والمشهد الصحافي العربي في سيدني بدقائق معدودة لاقت استحسان الحضور، ولا زلت اذكر كيف نهض العملاق الكبير بطرس عنداري رحمه الله، من مقعده حيث كان يُجالسني رفقة الدكتور موفق ساوا، ليهنئني على كلمتي وسلاسة المفردات وسلامة اللغة، فشكرته، وابلغته بأن الفضل يعود إلى استاذي الجليل شربل بعيني الذي يُصحح اخطائي اللغوية. ولعلّي لا أكون واهمًا إنْ قلت: يُخالجني شعور بأنّ ذلك التشريف الذي مَنّ به عليّ الأستاذ أنطوني جاء بالتشاور مع صديق غربته شربل بعيني. وفي تضاعيف الذاكرة لا زلت اتذكر أنَّ في ذلك الحفل الجميل عرضت على الأستاذ موفق ساوا رئيس تحرير صحيفة العراقيّة الأسترالية، فكرة استقطاب العم انطوني ليكون أحد كتّاب العراقيّة، فوافق الأستاذ ساوا بلا تردد ودون تحفظ، لأنه يدرك جيدًا قيمة الرجل ومكانته الأدبية والإنسانية، وطالبني بمفاتحته فورًا وعرض الفكرة عليه، وقد لقي الطلب ترحيبًا من العم أنطوني، وباشر فعلاً بنشر مقالاته في العراقيّة في مطلع شهر شباط من السنة ذاتها.
وكانت المرة الثالثة التي ألتقي فيها هذا الرجل المتواضع الذي لم يسعَ إلى الأضواء ولم يلاحق الجوائز، عندما جمعتنا مائدة التكريم في نادي بابل الكلداني بسيدني في امسية أقامتها مؤسسة العراقية للثقافة والإعلام في عيد المرأة بتاريخ 8/3/2012 لتكريم المبدعين الاحياء، لأننا أَلفنا عادة تكريم المبدعين يوم يحتضنهم القبر! وهذه التفاتة تُحسب لمؤسسة العراقية وللقائمين عليها… وبعد تلك المناسبة التقيت الرجل لقاءات قليلة للغاية.
وِلِدَ ولسن اسحق ابراهيم وهو اسمه في شهادة الميلاد بتاريخ 28 يناير 1936 في حي شبرا بمحافظة القاهرة. ذلك الحي الذي حفظت اسمه على ظهر القلب بسبب ذلك الحبّ الكبير الذي أكنه للفنان المصري سعد الصغير الذي تستهويني بساطة شخصيته وعفويته أكثر من فنه، وأيضًا اعتزازًا بالأستاذ أنطوني ولسن، الذي تربطني به صلة إنسانية قائمة على المحبة الأبوية البنوية، تغذيها الكثير من المشتركات رغم فارق السنّ الكبير بيننا.
في 15 يناير من عام 1961 تزوج الشاب ولسن من الشابة نعمه رياض حبيب، التي كان لها الدور الإيجابي والبارز في نجاحات ذلك الشيخ الوقور على مدار سنوات العمر، فهي رفيقة العمر وأمّ العيال وشريكة النجاح.
في مصر كتبَ الرجل لنفسه وللأصدقاء فقط، ولم يكن يحبذ مبدأ النشر في الصحف. وقد روى لي استاذنا الوقور ذات مساء وهو يسترجع ما تبقى من ذكريات الزمن الجميل والعصيب كيف كانت جارتهم المرأة المصرية المسلمة التي كان يعدها واحدة من أخواته تلتهم بنهمٍ وشغفٍ كلّ ما كان يكتبه، فعرضت عليه ذات صباح تقديمه إلى الأديب العربي أنيس منصور الذي يعرفه القاصي والداني، لكي يأخذ بيده إلى طريق النشر والإنتشار. لكن العم أنطوني المعروف بعناده رفض الفكرة بحزم، لأنه لم يحبذ الوساطة، إذ أراد أن يصنع نفسه بنفسه، ولم يرد التعكز على المشاهير.
غادر مصر رفقة عائلته الفاضلة بتاريخ 18/8/1971 متوجهًا إلى لبنان، ومكث هناك بضعة ايام ليشد حقائب الهجرة إلى سيدني؛ حيث وصلها في 25/8/1971.
بعد ساعات من وصوله إلى استراليا تلك القارة المتوغلة في البعد عن محبوبته مصر، وجد أن كفيله الذي كان في استقباله يعرض عليه مباشرة فرصة العمل في معمل للزجاج، فقبل الرجل العرض بسرور كبير، وباشر فيه في اليوم ذاته!
عمل أبن ولسن فيما بعد في البرنامج العربي لإذاعة SBS الأسترالية عام 1977 ، لكنه لم يستمر طويلاً. ثم أتجه إلى النشر، فنشر أول مقال له في سيدني عام 1978، أيّ في ذات العام الذي ابصرتُ فيه نور الحياة، وكان فحوى المقال يدور عن الوضع الإجتماعي في استراليا، نُشر المقال في صحيفة المحرر. ونشر مقاله الثاني ومقالات مُتتالية في صحيفة الشعلة.
ولقد وصلت محبة هذا الرجل الوقور لدرجة أنه حكى لي تفاصيل مهمة عن حياته؛ إذ في السنة التي عيّن فيها الرئيس المصري الراحل أنور السادات الذي كان يتمتع بدهاء سياسي غريب وعجيب، 10 اعضاء من الأقباط المسيحيين في البرلمان المصري، كتب على اثرها أنطوني مقالاً ناريًا ونشره في إحدى الصحف، إذ جاء فيه: “من يعينه الرئيس سيكون خادمًا للرئيس وليس خادمًا لشعبه ووطنه، فإذا لم ينتخب الشعب أحد المسيحيين ، فهذا يعني وجود خلل في المجتمع المصري، فعالجوه”. ولقد اثار المقال خضة ورنة وهاجت الدنيا وماجت في مصر وخارج مصر، وتحديدًا بين ابناء جلدته في سيدني؛ فطالبه رئيس التحرير بالإعتذار، لكن الأستاذ أنطوني أمتنع ولم يرضخ للأمر… وبعد مضايقات مبطنة ادار الرجل ظهره للجميع وترك العمل في الصحيفة.
كتبَ في الصحف المصرية الصادرة في سيدني (المحرر، المصري، الوطن) ثم اتجه إلى النشر في صحيفة البيرق والتي تغير أسمها فيما بعد إلى المستقبل وهي تعود إلى الزميل الإعلامي القدير جوزيف خوري الذي أكن له معزة كبيرة.
كما عمل رئيسًا لتحرير صحيفة صوت المغترب لمدة 8 شهور فقط، ثم أشتغل بمجال الصحافة مع الراحل الكبير بطرس عنداري في صحيفة النهار لمدة 4 سنوات.
وكتبّ ذلك الأديب المصري في صحيفة التلغراف عندما كان رئيس تحريرها الأستاذ أنور حرب واستمر فيها ثلاث سنوات ثم تركها، وكتب في جريدة “الهيرالد” اللبنانية وكان رئيس تحريرها يومذاك الدكتور بيار رافول لمدة 4 سنوات أيضًا. كما وحكى لي العم أنطوني عن يوم وصول الجنرال ميشال عون إلى سيدني في زيارة له، إذ بعد الإنتهاء من اللقاء به والإجابة على أسئلة الصحافة والإعلاميين، توجه الحضور لمصافحته، وعندما مدّ العم انطوني يده لمصافحة الجنرال عون، بادر الدكتور بيار بالتعريف به، لكن العماد ميشال عون إستوقفه قائلاً: “شو حا تعرفني على أنطوني” ثم أمسك بيد الرجل وأشار بيده الأخرى واضعًا إياها فوق صدره مكملاً كلامه: “أنطوني في قلوبنا”. كما وحضر حفلة التكريم التي أقامها على شرفه الدكتور بيار في بيته، ففي ذلك الحفل تقدم السيّد أنطوني من الأستاذ والشاعر الكبير فؤاد نعمان الخوري ليعلمه برغبته في إلقاء كلمة ترحيب بالجنرال ميشال عون. فكان له ما اراد وجاءت كلمته قبل كلمة عون. وقد اهتم الجنرال عون بكلمة العم ولسن إلى حدٍ إنه بنى كلمته عليها.
عاد أبن ولسن مرة أخرى إلى صحيفة البيرق- المستقبل، والتي استمر فيها اطول حقبة زمنية من تاريخه الصحافي المهجري. نشر خلالها مقالات لا تحصى. ولا يسقط من ذاكرتي اليوم الذي كرمته فيه صحيفة المستقبل بمناسبة إطلاق كتابيه المار ذكرهما قبل قليل، إذ منحه الأستاذ جوزيف الخوري درع التكريم، تقديرًا لجهوده وكتاباته الممتعة في صحيفة المستقبل، وكان قبل سنوات خلت قد نال جائزة شربل بعيني مرتين تثمينًا لابداعه الثقافي والقصصي.
كما وكتبَ في صحيفة العراقية منذ شباط 2012 وتوقف عن النشر فيها مطلع عام 2014 بسبب تدهور حالته الصحية وعدم قدرته على الكتابة كما في السابق. ويومها شعرتُ بفداحة الخسارة وأدركت أننا ككتّاب العراقية وقرّائها قد خسرنا كوكبًا يشع بالمعرفة وأفتقدنا مستودعًا للذكريات عن زمن جميل لكاتب أجمل متألق المكانة[1].
ومن النوادر التي لا أنساها، يوم باح لي الرجل ببحة صوت يخنقه حزن دفين:” اتعلم يا أبونا أنني عبرَ سنوات العمل الطويلة في الصحافة المهجرية لم أتقاضَ يومًا دولارًا واحدًا من كتاباتي وإشتغالي في الصحافة والإعلام”! وقد احزنني ذلك الأمر كثيرًا، لأن الكاتب الشرقي لا يعتاش في العادة من كتاباته، على خلاف الكاتب الغربي!.
نشر أولى مؤلفاته عام 1993، بتشجيع من والدة صديق غربته الطويلة الأديب الكبير شربل بعيني، فتلك المرأة التي توفاها الله برائحة القداسة على ما يبدو لم يكن لها اليد الطولى في نجاحات ولدها التي تصلي له اليوم من السماء، ولكن كان للكاتب المصري أنطوني ولسن من فضائلها نصيب، اذ أصرت يومذاك وألحت على السيّد أنطوني وشجعته على النشر، ونزولا لطلبها نشر العم ولسن مع مرور الشهور “ميثاق الشيطان” وهو كتاب قصصي صدر عن دار عصام حدّاد في بيروت والذي يعتبر أول كتاب قصصي يصدر لمصري خارج مصر. الكتاب في الأصل نص مسرحي كُتب في مصر، في زمن تزامن مع اصدار الرئيس الأسبق لمصر جمال عبد الناصر ميثاق الجمهورية. كما وينسب الرجل الفضل الاخر إلى المهندس بدوي الحاج أبن شقيقة الأستاذ جوزيف خوري الذي كان حديث الأنضمام إلى أسرة تحرير صحيفة المستقبل وقتذاك، والذي ساهم أيضًا بتشجيع المؤلف على إصدار أول مؤلف له، فحمل الكتاب إسم ” المغترب ” في 6 أجزاء . وكان اخر كتاب صدر له بعنوان “في ليلة خنقوا فيها القمر”، سيدني 2014. وهو يعد الآن 4 كتب جديدة باللغتين العربية والإنكليزية .
كتب أديبنا المصري عدة مسرحيات، وقصص كثيرة، ومقالات عديدة، وانجز ما يربو إلى 17 مؤلفًا بين القصّة والرواية ومجموعة خواطر وافكار، نشر بعضها باللغتين العربية والإنكليزية. تميزت كتاباته بالقدرة على التحريض الفكري وإثارة درجة عالية من حرارة التحليل لدى القارئ، إذ تضمنت الإقناع والإمتاع، كما أنَّ الرجل صنع نفسه بنفسه وفرض اسمه على الساحة الادبية والثقافية في استراليا وأصبح واحدًا من أولئك الكتاب الذين يتمتعون بقاعدة عريضة من الُقرّاء من مختلف الأعمار، بعد أن أمسى من الأسماء الصحافية التي تحظى بقيمة كبيرة. وقد لاحظت أنني أين ما ذكرت أسم الرجل، أجده يحظى بدرجة عالية من الإحترام لا تقل عن تلك التي يتمتع بها كبار الكُتّاب.
وحينما طالعت كتابه “ذكريات العمر اللي فات”، أدركت للوهلة الأولى أنني أمام منجم من الأحداث ربّما لن أعثر على مثله في حياتي، بل تصورت لوهلة أنه خزنة متنقلة من المعلومات حول البشر والوقائع والأحداث والاماكن. ويبقى ابن ولسن الأكثر تميزًا في سرد أحداث التاريخ، ولا يمل القارئ من التكرار الوارد أحيانًا في بعض صفحات كتبه، فتكراره لذيذ وممتع.
هذا هو أنطوني ولسن كما رأيته في مسالك الحياة وقرأت له في صفحات الصحف والكتب، إنسانًا نبيلاً ، موضوعي الرؤية، نزيه الفكر، نظيف اليد، حرّ الرأي، صريح الكلمة، عفوي الكلام، شديد الدقة في اقواله وكتاباته وسلوكياته وفي ذكر الأحادث والمواقف، فهو يدون لنفسه قبل أن يؤرخ للقارئ، لا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا ويعطيها ذات الاهتمام.
كما عرفت الرجل رفيع الثقافة، شديد الاعتزاز بالنفس، عميق الإيمان، يقول ما في القلب، بسيط وفي ذات الوقت عميق، كرامته وحرية كلمته فوق كلّ أعتبار، يرفض أن يتحكم به احد، معتدل التوجه والمزاج، يتحلى بالموضوعية والرؤية الصائبة، يُفرّغ على الورق خلجات ذاته وهموم نفسه ومآسي بلده وربّما محنه الشخصية التي المت به، بل قُلّ كلّ ما يتصيده على أرض الواقع.
لقد عايش الهمّ المصري من تلك القارة البعيدة، فشغلت مصر حيزًا كبيرًا وواسعًا من كتاباته، وكيف لا! وهو صاحب عباراة “مصر أمي ومش مرات ابويا”، فقد رأيت فيه وتلمست عبرَ كتاباته الرصينة كم هو مهموم بشأن مصر بشكلٍ أثر على حالته النفسية وكان لها الاثر السلبي على صحته. فمن يتصفح كتابه ” الحُبّ هو الدواء” سيجد أنَّ ذلك الأديب الواسع الرؤية نشر إشارات ضوء تُبدد ظلمات التعصب وتفك قيود القهر وتفتح الأبواب أمام إنسان جديد في زمن ترهلت فيه قيمة الإنسان .
ورغم أنَّ المحادثات الهاتفية التي دارت و تدور بيننا أكثر من اللقاءات التي جمعتنا، فأنني أشهد للرجل سعة صدره وقدرته على الإصغاء رغم ثقل سمعه في الوقت الراهن. واثناء حديث هاتفي دار بيننا قلت لذلك الرجل الحكيم الذي أعز وأجّل: إنّ ما يميز كتاباتك إنها تتضمن صورة قاتمة لكنها واقعية. فوافقني الرجل الإنطباع، ثم تشاطرنا الرأي بأنَّ الشرق مريض ويعشق الطبيب الكاذب، وإنَّ بُلداننا حين تتاخر في حلّ مشاكلة ما سوف يكبر حجمها وتزداد الأمور سوءاً، وهذا سبب كلّ ما حصل ويحصل الآن في العراق ومصر. وادركت بعمق ودراية أنّ الرجل يؤمن بأنَّ كلّ اثراء بالحوار هو نتيجة تناقح الأفكار بين الرأي والرأي الاخر.
كما اذكر للرجل أنه كان معتزًا ببلادي وعاصمتي بغداد ولا يزال. كريمًا معي، ودودًا في كلّ لقاء ومحادثة. ولا تغيب عن ذهني مداعبتي المستمرة له ومفادها: إنَّ حضارة بلاد وادي الرافدين- بين النهرين هي أولى الحضارة وليست حضارة وادي النيل[2]. فأرى الرجل يخرج من صمته ويقول على مضمض بلهجته المصرية الجميلة التي أَلفناها منذ الصغر عبرَ التلفاز:” زي ما بتشوف يا قدس ابونا هو أنا فيي اقولك لا … ولكن مش هي دي الحقيقة”. واتذكر ممّا ذكره لي ذلك الأستاذ القدير الكثير من الذكريات لا يسعفني المجال هنا لذكرها باكملها، فاسجل هنا البعض منها مع قدّاسة البابا الراحل شنودة الثالث في زياراته لاستراليا، ذلك البابا الذي شكل علامة فارقة في تاريخ بابابوات الكنيسة القبطية الارثذوكسية بمصر. وبعضها الآخر مع زعيم الفن المصري الفنان عادل امام يوم قدم إلى سيدني لعرض مسرحية “الواد سيد الشغال”. ذكريات ومقابلات كثيرة لا حصر لها، يطول الحديث عنها إنْ بدأ؛ فالرجل لا يزال وفي تلك السنّ المتقدمة يحمل ذكريات عدة عن أجيال عاصرها وشخصيات حاورها ووجوه التقاها، وما أكثر الذكريات، ودروس الحياة في حياة هذا الكبير، ولكن النسيان هو آفة كلّ زمان وتصيب كلّ إنسان!
وأتذكر أنَّ اخر مرة تطلعت فيها إلى وجه قرينته الفاضلة السيدة نعمة رياض وجدت أنَّ الحزن الواضح يطلّ من عينيها على رفيق الحياة الذي غدا اليوم بطيء الحركة مستندًا على عصا خشبية، ثقيل السمع، إنها سُنة الحياة وقانون الوجود وفلسفة الزمان. كما إنني عندما أنظر إلى الرجل اليوم، اجده يلوك ذكريات الزمن الذي مضى من حياته، فما أجمل أن يُجالس الإنسان ذاته يتأمّل أيام عاشها بحلوها ومرّها وتفاعل معها في السراء والضراء، فأنني على يقين لا يتاخم الشك بأن أستاذنا الموهوب بالفطرة ينظر اليوم إلى الخلف ويجد وراءه تراكمًا هائلاً من النجاحات والاحباطات، من الإنجازات والإنتكاسات، ولا يوجد فيما مضى من حياته الثرية إلا تلك السبيكة التي يعتز بها من حسن النية مع الناس والصدق مع النفس والآخرين ورسالة التوعية التي حملها إلى القرّاء. وقد عاش حياته الماضية والمعاصرة مؤمنًا بأنَّ في الحياة متسعًا له وللآخر، ولم يتصور أبدًا أنّ الخير أو النجاح يأتيان على حساب الغير، ولم يكن مؤمنًا البتة بالبناء على إنقاض الأخرين، بل رأيته مدركًا أنَّ دورة الزمن كفيلة في النهاية بالحكم العادل على الجميع وأعطاء كلّ ذي حق حقه.
ولعلّي أفشي لكم سرًا، إنَّ ذلك الأديب الذي تجلت موهبته الإبداعية في صمت الليل، وسهره مع قلمه إلى ساعات متأخرة، غدا اليوم ينام باكرًا عند العاشرة مساءً، وينهض مبكرًا عند الخامسة والنصف صباحًا، يبدأ يومه بالصلاة والإتكال على الربّ، يأكل قليلاً، ويتحرك بصعوبة، يتصفح الأنترنيت، ويكتب على قدر ما تسمح له صحته لانجاز اربعة كتب بالعربية والإنكليزية، لينهي مشواره الصحفي والأدبي بالإعتزال، فالرجل كان قد قرر اعتزال النشر مرارًا وتكرارًا عبرَ رحلته الأدبية لكنه لم يقدم على ذلك القرار، واليوم ينتظر صدور الكتب الأربعة ليقيم أمسية اختار لها عنوانًا ” الوداع” مودعًا ذلك الوسط الصحفي الذي تمكن عبر رحلة الزمن من امتصاص كلّ المواقف العصيبة واستيعاب جميع الازمات التي واجهته ليقف في النهاية شامخًا متمسكًا بمبادئه، معتزًا برؤيته الوطنية وفكره المعتدل وكلمته البنّاءة وقلمه الصريح. كما ويقوم شيخ الكتّاب المهجرين بالوقت الراهن بمطالعة الصحف وبعض الكتب وقد كان اخر كتاب فرغ من مطالعته حسب ما أبلغني، هو لكاتب هذه السطور (احاديث قلمٍ) ولقد اوجز الرجل مطالعته للكتاب بمقالٍ شرفني به، وأعد تلك الكلمات التي سطرتها انامله الذهبية وسامًا أحمله على صدري ما حييت، وأحفظ للرجل جميلا أخر لن انساه أبدًا يوم سطر تعليقًا حول مقابلتي في تلفزيون الغربة الاسترالي؛ حيث كتب في 2 ابريل 2012 :
أبونا الأديب يوسف جزراوي السامي الإحترام .. تحية ومحبة المسيح لكم. كم سعدت بهذا اللقاء الروحي، الأدبي، والإنساني .
أبونا يوسف إنه لشرف عظيم لأبناء الجاليات العربية عامة والعراقية خاصة بوجودكم معنا في أستراليا .الرب يبارك أعمالكم. والكلمة هو الباقي” والكلمة صار جسدا وحل بيننا “. ونحن من يؤمن بخلود الكلمة في كتاب نتركه لمن يأتي بعدنا وليكون الكتاب كاتم سر تاريخ أحداث وأفكار الحقبة التي عاشها وتعايشها صاحب الكتاب ومؤلفه وكاتبه. يقولون لقد طغى الإنترنت على قراءة الكتب.. وأقول لا ما زال الكاتب والكتاب وسيظلان إلى الأبد الشعاع الذي ينير البشرية ويأخذها إلى الإرتقاء والتقدم . وما نقرأه على الإنترنت ما هو إلا نتاج كاتب ووضع في كتاب عيبه الوحيد أنه غير متكامل للكاتب الواحد. لكنه “الإنترنت” حافظ لما نكتب وينشر على صفحاته ويمكن للكاتب أن يعود إليه لجمع ما سبق ونشره ويصدر به كتابا .
أبونا يوسف جزراوي شكرا لكم على إصداركم الجديد ونحن في إنتظار توقيعه .شربل بعيني شكرا لكم على هذا اللقاء الأدبي المميز”.
ولا بُدّ أن اعترف بأنَّ قدرة الرجل على تسجيل التفاصيل والمواقف في حياته كانت قد ابهرتني؛ فقليلون هم من يفتحون أبواب الذاكرة ويقلّبون سجلات الزمن الذي مضى ويقولون الحقيقة للتاريخ! أقول ذلك لأنني أريد أنْ أضع القارئ أمام شخصية عظيمة حفرت تاريخها في الصخر ونقشت اسمها بجدارة في القلوب وفي تاريخ الصحافة العربية باستراليا، فذلك المصري الذي تحلى بمقدارٍ كبير من الطيبة والحنكة في أن واحد لا يزال يتمتع بقوة الشخصية، وسلامة القرار، ووضوح الهدف، والقدرة على اتخاذ الموقف الصحيح في الوقت المناسب. وكأني به يُردد القول الماثور: ما دمتُ أمشي مستقيمًا فلا أُبالي إنْ ظهرَ ظلي للناسِ أعوجًا، هذه وغيرها من الصفات النبيلة شكلت علامة مضيئة في مشواره الأدبي ورحلته الحياتية، وقد عهدته يُفضل رؤية النصف الممتلئ من الكأس، بدلاً من النظر بتشاؤم إلى النصف الفارغ.
تلك شهادة صادقة سجلتها للتاريخ عن بعض محاطات العمر في حياة رجل أنكوى بنار الإبداع، وكيف أنَّ سنة الحياة وعجلة العمر ابعداه عن التفاعل مع المشهد الثقافي والأدبي وسببا له عسرًا في النشر، ولكن هذا البعد جعلنا نلتمس بيقين قاطع أنَّ مكانته وقيمته تتزايدان كلّما افتقد الناس الفكر المعتدل والكلمة النزيهة والعبارة الصادقة. وستظلّ كتاباته وأفكاره المضيئة وعقليته المتوهجة وسلوكياته الراقية تقذف بومضات ضوء يبهر الأبصار ويخطف الألباب ويأسر العقول.
إنّه العم أنطوني ولسن، تلك القامة المصرية الذي لم يحمل يومًا على مدار حياته عصا ولا حجرًا أو سلاحا ناريا، لكنه حمل ما هو أقوى من السلاح ألا وهو الكلمة الحرّة الصادقة النبيلة، فضلاً عن ذلك إنه حمل عقلاً يفكّر ويحلل وقلبًا يحبُّ ويصدّق ونفسًا عزيزة لا تقبل الخضوع والخنوعَ والتحكم بها من قبل الغير ولسانًا صريحًا لا يقول ألا الحق وقلمًا لم ينشر سوى الافكار البيضاء، وروحًا نقية حرّة تأبى أن تكون جزءًا من نظرية القطيع.
والحال فإنّ اسم أنطوني ولسن، لا يزين فقط خزائن الكتب والمكتبات، بل طُبع في جبين مصر واستراليا وترك البصمات الخالدة على صفحات كتبه وفي نفوس القراء وجبين الحياة، إذ كتب أبن ولسن ما شعر به دون أن يكترث للنحو وابجدية اللغة، فأَلفَ القرّاء اسلوبه الشيق، حيث يمكن التعرف عليه حتّى لو حجب أسمه، وهو نموذج للكاتب الرصين، وستظلّ كتبه ومقالاته فصولاً يعود إليها القرّاء والمثقفون لا سيّما أبناء مصر في كلّ زمان ومكان.
أخيرًا: وبينما يعتكف ذلك المؤمن القريب من ربّه في منزله بهدوء وفضيلة مُرددًا سنحيا كرامًا مُبدعين ممّا يتبقى في العمر بقية، ارفع له القبعة إحترامًا لمسيرته الحياتية العطرة، وإجلالاً لدوره الثري الكبير في مشوار الصحافة العربية بسيدني، مُشيدًا بروحانيته العميقة مُثنيًا على منجزه الخالد الذي يفوح منه العطر والبخور.
إلى أنطوني ولسن الإنسان الذي أقدر وأعز،أقول: أمد الله بعمرك أيها الكاتب المعطاء. آمين.
***
[1] في اخر حديث لي مع الرجل افادني بأنه لم يترك القلم بعد، وسوف يعاود النشر من جديد في صحيفة العراقيّة بقدر ما تسمح له حالته الصحية على الكتابة.
[2] مَن يتبحر في دراسة حضارة المصريين، الفراعنة القدامى- حضارة وادي النيل، سيطالعه الموت كظاهرة كُبرى! والمصريون أهتموا قديمًا بتكريم امواتهم. وما الأهرمات؟ سوى مدافن أُريد منها تكريم الموتى وتخليد ذكراهم، فباتت صرحًا حضاريًا عالميًا، تفتخر بها الدنيا بأجمعها، ولكن إنسان حضارة وادي الرافدين هو أول من ركز على بناء معالم تُقيم للحضارة وزنًا تعكس حبه وتشبثه بالحياة وتخليده للإنسان الحي، متفاخرًا بمنجزاته العمرانية التي أضفت على الحياة إبداعًا يُشهد له ويشاد به، فشيّد الزقورات والمعابد والمُدن والأسوار والقنوات المائية أكثر مما شيد المدافن
الوسومأنطوانى ولسن
شاهد أيضاً
قومى استنيرى
كمال زاخر رغم الصورة الشوهاء التى نراها فى دوائر الحياة الروحية، والمادية ايضاً، بين صفوفنا، …