كتب مدحت موريس
هو القصر الكائن فى اطراف الحى القديم – اما الحى نفسه – فقد كان احد ارقى احياء المدينة فى اواسط القرن الماضى اما الآن فقد صار شأنه شأن معظم احياء الماضى الراقية ، حياً شعبياً بائساً لا تزوره عربات النظافة فتكومت القمامة لتكون تلالاً من القاذورات التى ترتع فيها الحشرات الطائرة والزاحفة لتزيد الحى بؤساً على بؤس اما ما يزيد الاسى هو ان التركيب الطبقى لسكان الحى صار اكثر انحداراً ولم يعد احد يهتم لا بنظافة الحى ولا بجماله حتى هؤلاء الذين عاشوا سنوات ازدهار الحى لم يعد لديهم سوى التحسر على ايام الزمن الجميل، اما عن الاجيال التى تعاقبت فقد سمعت عن جمال الحى الزائل لكنها لم تتذوق طعمه فكانوا يستمعون ويمصمصون الشفاه ثم ينسون او يتناسون ويعودون الى مشاغلهم ومشاكلهم وايضاً خلافاتهم اللانهائية مع جيرانهم والتى لم يتواجد لها حل منذ عشرات السنين وان وجدت فهى حلول مؤقتة سرعان ما تتبخر وتعود الخلافات والمنازعات
كما كانت بل واشد فمن خلاف على تسرب مياة المجارى وتشبع سقف الشقة بالمياة الى خلاف على القمامة التى يدعى احدهم بأن الآخر يتخلص منها فى مدخل العمارة ناهيك عن خلافات الابناء واخرى من نوعية تنفيض السجاجيد فى شرفة المنزل والتى يتراكم ترابها فى شرفة ساكن الدور السفلى او قطرات المياة الساقطة من الغسيل المنشور علاوة على دق الشواكيش والضوضاء التى يسببها احد الجيران فى ساعة متأخرة من ساعات الليل، كل هذه الخلافات البسيطة وغيرها ادت الى انفراط عقد العلاقات الاجتماعية بين سكان الحى اما عن الخلافات الناجمة عن الاختلاف العقائدى والسياسى فقد قطعت الشعرة الرفيعة الباقية بين سكان الحى فهذا فلول وذلك اخوانى، هذا قبطى وآخر ذو ميول شيعية بل ومن الخوارج على هذا المنوال تباعدت الافكار والعلاقات والمشاعر وسارت فى اتجاهات مختلفة متضادة. نعود الى قصر المنياوى والشاحنات التى توقفت امامه محملة بشكائر الاسمنت والرمل وادوات البناء اللازمة لترميم القصر الكبير الراسخ فى اطراف الحى منذ عشرات السنين، اجتاح الفضول سكان الحى وتناثرت الاقاويل هنا وهناك فقد ظن البعض انه سيتم هدم القصر وبناء برج سكنى مكانه ام لعلها شركة استثمارية سيتم افتتاحها فى الحى او فندق او مطعم وغيرها من المشروعات ، لكن احدا لم يتوصل الى الحقيقة…
العمل يجرى على قدم وساق وقصر المنياوى يستعيد بريقه من جديد حتى اتى يوم توقفت فيه سيارة فارهة سوداء نزل منها رجل تجاوز الخمسين لكنه موفور الصحة وتفوح منه رائحة الثراء كان ذو وجه باسم بشوش لكنه لا يخلو من الجدية والتصميم وبدأ الرجل فى الظهور كل يوم ليشرف بنفسه على اعمال الترميم والتجميل التى تتم بالقصر بعدها عرف الجميع انه الدكتور رفعت المنياوى الوريث الوحيد لقصر المنياوى وتحير الجميع فى امر الرجل الذى سمعوا عنه وعن عائلته الكثير، العائلة التى استقرت فى امريكا ودرس رفعت هناك حتى نال شهادة الدكتوراه فى العلوم الادارية وقيل عنه انه يملك ويدير الكثير من المشروعات الاستثمارية فى امريكا وهاهو يعود الآن ليستقر فى وطنه الام !!! يستقر اين؟ هنا؟ فى ذلك الحى؟ هكذا تساءل الكثيرون فى استنكار وسخرية. انتهت اعمال الترميم وبدا القصر فى ابهته شامخاً يستعيد نسيم اربعينات القرن الماضى بقبابه الثلاث ذات القمم النحاسية والنوافذ الضخمة وزجاجها البرونزى المستود خصيصاً من فنلندا. كان جمال القصر ساحراً لا يتناسب اطلاقاً مع الشوارع والمبانى التى يطل عليها لكن نظرة واحدة اليه كانت تنقل صاحبها الى عالم آخر له عبق الزمن الجميل اما فى الليل فقد كانت اضواء القصر تنعكس على الشوارع المحيطة فتنيرها وفى نفس الوقت تكشف عوراتها وعيوبها والاهمال الذى وصلت اليه. بطاقات دعوة تسلمها معظم سكان الحى لحفل افتتاح قصر المنياوى بعد تجديده والدخول بالملابس الرسمية لحضور حفل العشاء الفاخر…هكذا قالت الدعوة. لم يعرف احد من المدعوين ان كان جاره مدعواً للحفل ام لا، واخفى كل من تسلم دعوة الخبر عن جاره وتوجس البعض من حضور الحفل وتعجب عن سر الاحتفال وسبب دعوتهم اليه وهم لا يمتون بصلة للمنياوى وعائلة المنياوى لكن الفضول وحده جذب كل من تسلم دعوة لان يلبيها.
خرجت الثياب الرسمية المركونة من خزائنها واخرجت النساء صناديق الصيغة من مكامنها فى الليلة المرتقبة…ليلة افتتاح قصر المنياوى. كان مشهداً غير مألوفاً…مشهد الرجال والنساء بالملابس الرسمية يقطعون طرقاً مختلفة فى الحى ويتجهون الى قصر المنياوى…ولم يخفى البعض تأففهم من تواجد البعض الآخر فى الحفل متسائلين فى امتعاض عن سر دعوة كل هؤلاء الحثالة متجاهلين ان هؤلاء الحثالة يكنون فى انفسهم نفس التساؤلات والصفات تجاههم.
كان مشهد القصر بالداخل اجمل وافخم عشرات المرات من مشهده الخارجى لدرجة اجبرت الجميع على التوقف مشدوهين ومذهولين من جمال القصر وفخامته وما يحويه من ثريات ذهبية تتدلى من اعلى السقف لاكثر من عشرة امتار وسجاجيد ايرانى خشى الناس من ان يطئوها باخذيتهم المتواضعة واللوحات القيمة على جدران مطلية بالوان هادئة يصعب وصفها، تلفت المدعوون حولهم بعد زوال الذهول…واكتشفوا ان الداعى غير متواجد فاسقط فى ايديهم وساورهم القلق فجاس البعض على الارائك والمقاعد الفخمة وهم يتحسسونها فى سعادة بينما اخذ البعض الآخر يتجول فى قاعة الاستقبال الفسيحة الى ان تفاجأوا باربعة “سوفرجية” يقبلون عليهم وكل منهم يحمل صينية كبيرة فوقها عشرات الاكواب من مشروبات مختلفة. تسابقت الايادى تنتزع الاكواب
وتلقي ما فيها فى بئر البطون بينما تساءل احد المدعوين وكان ذو لحية كثيفة عن كنية هذه المشروبات وعما اذا كانت تحتوى على اية مواد كحولية فى نفس اللحظة التى رمقه جاره فى السكن وسأله فى خبث عن سر تخليه عن جلبابه الابيض الذى لم يخلعه منذ سنوات طوال. قطع الحوارات الجانبية صوت رخيم متزن لشخص انيق ظهر فجأة من خلال باب جانبى فاسترعى انتباه الجميع
” الدكتور رفعت المنياوى يعتذر عن تأخره ويرجو جميع السادة المدعوين للانتقال الى صالة الطعام” تحرك الجميع خلف الرجل فى تلقائية لكن دارت همسات جانبية تنتقد الدكتور رفعت على تصرفه وعدم احترامه للمدعوين لكن تلك الانتقادات تلاشت ثم انعدمت تماماً عندما وقعت العيون على مشهد البوفيه الذى اسال لعاب الجميع فانطلقوا دون نظام فى هجوم تتارى على طاولات الطعام لولا ان استوقفهم مدير البوفيه الذى طلب من كل منهم ان يحمل طبقه الفارغ وسيقوم موظفى البوفيه بخدمتهم، انتظموا فى اكثر من طابور فى اتجاهات مختلفة وهم يدفعون بعضهم لبعض وقد بدأت عيونهم فى التهام الطعام قبل ان تلمسه ايديهم حتى ان ذى اللحية الكثيفة لم يتوقف كعادته ليسأل عن كنية الطعام وكونه حلال ام حرام. امتلأت البطون الفارغة وجلس معظم المدعوين فى حالة تخدر ناتجة عن الكميات الكبيرة التى تناولوها…
ولم يظهر الدكتور رفعت المنياوى. بدأ القلق يساور احدهم فتساءل عن سر تغيب صاحب الدعوة ثم تسرب القلق الى بقية المدعوين….اربعة ساعات طويلة قضوها فى القصر ولم يظهر صاحب القصر..هل دعاهم ليتركهم يأكلون ويستقبلهم موظفو الاستقبال وعمال البوفيه….ولكن اين ذهبوا؟ اين هؤلاء الذين قاموا بخدمتهم؟ انطلق بعضهم يجولون فى القصر فى اتجاهات مختلفة ثم عادوا ثانية وهم يلهثون….هناك امر مريب لا يوجد احد فى القصر سوانا لقد غادر موظفو الاستقبال وعمال البوفيه القصر حتى ذلك الرجل ذو الصوت الرخيم الذى ابلغنا باعتذار ذلك المدعو رفعت ايضاً ليس موجوداً بالقصر….جاء صوت من الخلف يصرخ ” الامر غامض ومريب لقد غادر جميع الموظفين القصر ونحن محبوسون فى الداخل….لقد اغلقوا باب القصر الضخم من الخارج!!!!!!”
البقية فى العدد القادم .
قصر المنياوى(1)
بقلم مدحت موريس
(voicy2005@yahoo.com)