الإثنين , مارس 24 2025
الكنيسة القبطية
كمال زاخر

كنيسة اليوم … كلمة أخيرة [7] الجدل الكنسي : الجذور والمخاطر والحلول

كمال زاخر

الجمعة 21 مارس 2025

قبل أن ننتقل من عصر البابا شنودة الممتد ليغطى نصف قرن من زمن الكنيسة، نتوقف قليلاً ونحن نبحث عن المقدمات التى انتهت بنا إلى حالة كنيسة اليوم، عند بدايات الجدل الكنسى، وكيف تحول الرفاق الى فرقاء، تفرقت بهم السبل، وتمترس كل واحد منهم خلف موقفه، وهى حالة نشهدها فى كل الحركات التصحيحية

كما فى السياسة كذلك فى الفضاءات الدينية، وبشكل ما رأيناها فى الكنيسة الجامعة وهى تنتقل فى قرونها

الأولى من مرحلة التكوين والبناء ومواجهة الاستهدافات والاضطهادات، إلى مرحلة الاستقرار والسلام

حين توقفت الامبراطورية الرومانية عن ملاحقتها، واقرتها ديانة معترف بها، القرن الرابع الميلادى

وقتها بدأ الجدل الكنسى ـ الكنسى، والذى لم ينتهى إلا والكنيسة منقسمة إلى كنائس تتبادل هرطقة بعضها

لتبدأ مراحل الانهيارات حتى إلى زوال بعض منها، وشاهدنا جل الكنائس التى اسسها القديس بولس الرسول

والتى اجتاحها العثمانيون، وقد صارت أثراً بعد عين، وكذلك كنيسة شمال افريقيا، والتى قدمت يوما

للكنيسة الجامعة طيف من قديسيها ومفكريها وفى مقدمتهم القديس اغسطينوس، والقديس كبريانوس والقديس العلامة ترتليانوس الأمازيجى.

بدأت ارهاصات الجدل عندنا عام 1962 والذى شهد رسامة اسقفى الخدمات الانبا صموئيل

والتعليم الأنبا شنودة فى 30 سبتمبر، وفى تحرك مبكر يطلب اسقف التعليم من صديقه

ورفيق مشوار الصعود ومهندسه القمص باخوم المحرقى (الأنبا غريغوريوس فيما بعد)

والقمص شنودة السريانى (الأنبا يوأنس اسقف الغربية فيما بعد)،

والدكتور جورج حبيب بباوى، فحص كتاب “العنصرة” الصادر عن بيت التكريس بحلوان مايو 1962

وكاتبه القمص متى المسكين، وبيان ما به من انحرافات وأخطاء بحسب رأيه، فاعتذر القمص شنودة السريانى

متعللاً بأن تخصصه فى تاريخ الكنيسة، فيما قدم الآخران تقريران منفصلان أجمعا على سلامة

ما ورد بالكتاب، فحفظهما اسقف التعليم، لكن هذه الواقعة احدثت شرخاً بينه وبينهما.

ولم استطع فى بحثى أن اضع يدى على دوافع التنقيب المبكر فى كتابات الاب متى المسكين، أو عن كيفية

تحول العلاقة معه من التلمذة التى نقتفى آثارها فى باكورة كتابات اسقف التعليم “انطلاق الروح” إلى التربص به

والذى استمر طويلاً وعنيفاً.

ويتجدد الجدل فى العام 1967 والذى شهد رسامة الأنبا غريغوريوس اسقاً للبحث العلمى والدراسات اللاهوتية

والذى فصَّل ملابسات رسامته، وحواراته حولها مع البابا كيرلس، وخشيته أن يُفهم منها أنها اقتناص

من صلاحيات اسقف التعليم، الأمر الذى من شأنه أن يولد حساسية ما لدى اسقف التعليم

لذلك طلب من البابا أن يكون منطوق رسامته اسقفاً عاماً للبحث العلمى والدراسات اللاهوتية

وألا يتضمن أية إشارة للمعاهد الدينية أو معهد الدراسات القبطية، واستجاب البابا له

كما ورد فى تسجيل صوتى للأنبا غريغوريوس، متوفر على شبكة اليوتيوب.

لكن تخوفاته تحققت وشهدت صفحات مجلة الكرازة حينها طيفاً منها، وتتعمق الفجوة بين اسقفى التعليم

والبحث العلمى وتتفاقم بعد تنصيب اسقف التعليم بطريركا، والذى يقلص صلاحيات الإنبا غريغوريوس

فى التدريس بالاكليريكية ومعهد الدراسات القبطية، ويبلغه بعدم الصلاة فى كنائس منطقة الأنبا رويس.

فى مايو 1985 وبعد شهور قليلة من عودة البابا شنودة إلى مقره بالكاتدرائية (5 يناير 1985)

تصدر أسرة القديس كيرلس عمود الدين الإكليريكية كتاباً بعنوان “القديس اثناسيوس الرسولى

فى مواجهة التراث الدينى غير الأرثوذكسى”

لمؤلفه الدكتور جورج حبيب بباوى، فيعود الجدل الكنسى مجدداً، وفى تقديرى أن أزمة الكتاب لم تقف

عند القضايا اللاهوتية التراثية التى ناقشها فى ضوء تعاليم القديس اثناسيوس الرسولى

وهى قضايا مازالت مثيرة للجدل بين الفرقاء، إنما جزء كبيراً من الأزمة فى المقدمة التى كتبها الناشر

وفى الأسئلة التى وضعها الناشر على غلاف الكتاب، والتى صارت محور الهجوم على الدكتور جورج حبيب بباوى

وقد تساءَلت عن موت المسيح على الصليب وجدلية العدل والرحمة، ولمن قدم المسيح الفدية

وماهية خطية الإنسان، وطبيعة جسد المسيح، ووراثة الخطية وفساد الطبيعة، ويتصدر هذا الكتاب

وأسئلة غلافه قائمة الاتهامات التى حوصر بها مؤلفه.جُرحٌ عميق تركته شهور الاعتقال الأربعين

فى صدر الإنسان البابا شنودة

وقد حوصر فى ديره، بعيداً عن اجتماعه الإسبوعى ومجلته الأثيرة الكرازة، وهما اللذان كانا يحملان

رؤاه لجماهير الكنيسة ويحققان تواصله الحيوى معها، ويخوض من خلالهما معاركه

وكان من اثاره حال عودته تغيير سكرتير المجمع الأنبا يوأنس (1973 ـ 1985)

الذى لم ينسى له قبوله عضوية اللجنة الخماسية

ويعين بدلاً منه الأنبا بيشوى والذى يظل سكرتيراً للمجمع حتى رحيل البابا (1985 ـ 2012)

والذى يتحمل مهمة التصدى لمعارضى البابا بخشونة أقر بها فى احاديثه وتصريحاته

وصار رمزاً لعنف الإدارة، حتى صارت إحالة أى كاهن للمحاكمة أمامه بمثابة احالة أوراق متهم

رهن المحاكمة للمفتى توطئة لصدور حكم الإعدام بحق صاحبها، فلم يخرج من مكتبه أحداً منهم إلا مجرداً من كهنوته أو موقوفاً،

وقد استحدثت هذه المحاكمات الزام الكاهن المقدم لها على توقيع اقرار بارتكابه ما يوجه له من اتهامات

أو على بياض، على وعد بعودته الى خدمته، ويوقع صاغراً، بحسب ما أجمع عليه كل من تعرضوا للإحالة للمحاكمة أ

مامه، ولم يشذ عن هذه القاعدة سوى القمص ابراهيم عبد السيد الذى رفض التوقيع وتم ايقافه دون استكمال المحاكمة.

اللافت أن الأنبا بيشوى، لم ينخرط فى دراسات اكاديمية نظامية لاهوتية، وتوقف تحصيله العلمى الاكاديمى

عند درجة الماجستير فى العلوم الهندسية، مايو 1968، بعد تعيينه معيداً بكلية هندسة اسكندرية

وقد استقال من وظيفته هذه والالتحاق بالدير ليصير راهباً فى فبراير 1969، ويرسم اسقفاً فى سبتمبر 1972

ويرقى مطراناً فى سبتمبر 1990، لكنه يواصل قراءاته اللاهوتية الحرة بشكل متواتر

ويذكر فى احاديثه أن الأنبا شنودة كان صديقاً للأسرة، وأنه تأثر به، واقتفى آثار خطواته. وفى محبته

يتصدى لفكر الدكتور جورج حبيب بباوى والأب متى المسكين، فى سعيه لتأكيد صحة رؤية البابا شنودة

مرشده ومثله الأعلى، لتشهد الكنيسة جدلاً لاهوتياً لا ينتهى بين القطبين الأنبا بيشوى والدكتور جورج حبيب بباوى

ولم ينخرط فيه الأب متى المسكين الذى فضل مواصلة اجتهاداته خلف اسوار ديره.

بعيداً عن تقييم هذا الجدل والقطع فيه برأى ـ لا أملك مقوماته ـ لم ينتبه اطرافه والمناصرين لهم إلى الآثار

المدمرة التى انتجته، فى الذهنية القبطية، وهى ذهنية تم تسطيحها بتعاليم غيبية تدغدغ مشاعر الشارع

وتلقى بهم بعيداً عن لاهوت الآباء، ومحوره لاهوت التجسد وترجمته فى الليتورجية التى اختزنته

فى صلواتها وطقسها بشكل مبدع، وفيها تعيش الكنيسة الشركة عبر الافخارستيا، لكن التعليم كان مشغولا بتنظير الجدل اللاهوتى.

ليعيد انتاج حالة مماثلة فى القرن الامس الميلادى، رصدها وتناولها بالتحليل، الدكتور تيموثي إي. جريجوري

أستاذ التاريخ في جامعة ولاية أوهايو، فى كتابه صوت الشعب Vox Populi ، صدر عام 1979

والذى كتب تحت عنوان “العنفُ والمشاركةُ الشعبيةُ في الخلافاتِ الدينيةِ في القرنِ الخامسِ الميلادي” :

( والنص تفضل بترجمته صديقى الباحث والمترجم الآبائى السكندرى الدكتور جرجس كامل يوسف)

[كانتْ من أكثرِ الظواهرِ المُميزة والمُحيِّرة في الإمبراطوريةِ الرومانيةِ اللاحقةِ أن الرجلَ العاديَ

(العلماني من غير الاكليروس) كان ينخرطُ عادةً في نقاشٍ مَفتوحٍ وحارٍ حولَ أسئلةٍ لاهوتيةٍ مُعقدةٍ لم تكُن لها صلةٌ مباشرةٌ بحياته اليومية.

وفقًا لأحد المعلقين المعاصرين، غريغوريوس النيصي، “إذا سألتَ عن ثمنِ الخبز، فسيقال لك، “الآب أعظم والابن أدنى”.

ولم تنته الحججُ العاطفية التي اندلعتْ في جميعِ مُدنِ الشرق، في كل حالة، بمجرد الكلمات، بل أدت غالبًا إلى أعمال الغضب والعنف.

أُحرقت الكنائسُ في الليل، وغَرقت المدنُ في الدماء.

ولقد اضطر الإمبراطور نفسه في كثير من الأحيان إلى الابتعاد عن الشؤون السياسية والعسكرية

لإخماد النزعة الفئوية داخل المدن، حيث لقي أكثرُ من ثلاثةَ آلافِ شخصٍ حتفَهم في هجومٍ واحدٍ في مناسبةٍ واحدة.].

هذا الجدل الشعبى الذى بدأ فى نهايات القرن الرابع الذى شهد صراعات المجامع المسكونية، وامتد للقرون

التالية، انتهى إلى تسطيح الإيمان وتجهيله، وصار العقل الجمعى مهيئاً وقتها لهجرة المسيحية

ما يؤرقنى أن ينتهى بنا الحال مع تكرار المقدمات أن نحصد نتائج مشابهة، فالالحاد يلف حولنا

ويربض عند بواب، المتصارعون الجدد فى صراعهم، لا يرون ابعد من اصابع ايديهم

ولا يسمعون إلا رجع صدى اصواتهم.

يمكن للجيل الحالى أن يفكك هذا الجدل عبر مؤسساته البحثية اللاهوتية، وابرزها مؤسسة القديس انطونيوس

باعتبارها مركز لدراسات الآباء، والتى أسسها الدكتور نصحى عبد الشهيد والذى بقى بعيداً عن الانخراط

فى تلك الصراعات ونجح فى حماية توجه التكريس من الانزلاق اليها، وهى مؤسسة تملك

بالتعاون مع المؤسسات الارثوذكسية القبطية المناظرة، أن يضع القضايا محل الجدل تحت سيطرة

البحث اللاهوتى الأكاديمى والخروج برؤية ارثوذكسية قاطعة، تفض تلك الصراعات لحساب وحدة وسلام الكنيسة.

ولا يمكن أن نغض الطرف عن محاولات بعض من رموز المرحلة فى تسجيل شهاداتهم عليها

والتى تحمل الكثير من الأنين، وتحتشد بما يمكن أن يكون مدخلاً لتفكيك هذه الصراعات بقرأة نقدية

متأنية لما حملته، وبقدر ما توفر لدى، وتضمه رفوف مكتبتى اشير الى بعضها بترتيب صدورها:

ـ كتاب “احداث كنسية عشتها وعايشتها” مذكرات القمص صليب سوريال.ـ موسوعة الأنبا غريغوريوس

الأجزاء التاريخية التى تطرح السيرة الذاتية له. صدرت عن جمعية الانبا غريغوريوس للبحث العلمى.

ـ كتاب السيرة التفصيلية ـ الأب متى المسكين. وصدر عن دير الأنبا مقار بوادى النطرون.

ـ كتاب شاهد أمين ـ الدكتور نصحى عبد الشهيد (شهادة على العصر).

اعداد مركز دراسات الآباء، مؤسسة القديس انطونيوس وصدر عن دار جذور للطبع والنشر.

ـ كتاب الأربعة الكبار ـ مهندس فؤاد نجيب يوسف.

ـومازال بحثنا فى كنيسة اليوم مستمراً فى لقاءات قادمة.

شاهد أيضاً

جمعية التوفيق القبطية

قراءة فى دفتر زيارات حرف Z

د. رضا عبد الرحيم تأسست جمعية التوفيق القبطية سنة 1891م، بواسطة رفله جرجس مؤسسها الأول …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.