السبت , أكتوبر 26 2024
الكنيسة القبطية
أديرة مقفرة وكنيسة تبحث عن بوصلتها

كانت أديرة مقفرة وكنيسة تبحث عن بوصلتها !! اقتراب كاشف

تحولات ستة عقود (10 مايو 1959ـ 17 مارس 2012) جزء ثالث:

كمال زاخر الأربعاء 23 أكتوبر 2024[4]

قضية الجدل اللاهوتـأرجأت الشروع فى كتابة هذا الجزء لأكثر من اسبوعين، حتى لا يأتى تحت ضغط الجدل الحاد الاستقطابى الذى صاحب الإعلان عن ترتيبات عقد جلسة حوار، “سيمينار”، فى مناسبة الذكرى الثانية عشر لتجليس البابا البطريرك الأنبا تواضروس الثانى، والتى مازالت توابعها تتداعى حتى اللحظة، وهى محفزة للتناول والتحليل فيما بعد.

رغم كونهما ـ الحدث والجدل ـ غير بعيدين عن متن الطرح الذى نتناوله، وربما يكونا من نتائجه الطبيعية.

فى وعى لأهمية ودور الوسائط الإعلامية فى التواصل مع الرعية، احتفظ البابا شنودة باجتماعه الإسبوعى، الذى أسسه وهو بعد أُسقف، وأعاد اصدار مجلته الشهرية “الكرازة”، فى اصدار اسبوعى، وفى شكل يقترب من صحف التبلويد، حجم صفحتها نصف صفحة تقريباً من الجرائد اليومية، ليكون فى متناول قاعدة أعرض من القراء.

ليصير الاجتماع الإسبوعى بمثابة مصدر لأخبار الكنيسة، سواء فى موضوع العظة، والذى كان فى وقت

الأزمات اعلان لرأى البابا فى الحدث المثار، أو من خلال فقرة الأسئلة التى تسبق الكلمة الرئيسية

وبعضها كان مقصوداً ليجيب على بعض ما يدور فى الشارع متعلقاً بالكنيسة والبابا، أو هى رسائل موجهة

بحنكة وذكاء لشخوص بعينهم داخل الكاتدرائة والكنيسة وربما خارج اسوارهما.

كانت الغيوم تتجمع فى سماء الكنيسة وفى سماء الدولة بل وفى العالم بأسره، فى عقد السبعينيات، وكان المزاج العام العالمى يتجه نحو الفردية الاجتماعية حتى أُطلق على عقد السبعينيات الذى شهد قدوم البابا الجديد،

“عِقد الأنا”، وكانت مصر تعيش اجواء ضبابية، وثلث ارضها تحت الاحتلال

وكان الارتباك عنوان الحالة العامة، ويأتى اكتوبر 73 حاملاً نصراً عظيماً، لعله الأول بعد انتكاسات متتالية

من 48 وحتى 67.

كانت الكنيسة والأقباط على موعد مع موجات جديدة من الاستهداف، بعد أن انقلبت القيادة السياسية

على توجهات الستينيات، بتبنيها سياسات الانفتاح الإقتصادى، بغير ضوابط، ليتحول المجتمع من شبه منتج

إلى مجتمع استهلاكى، فى فوضى غير مسبوقة، أوجزها الكاتب الكبير أحمد بهاء الدين فى وصفها

“انفتاح السداح مداح”، وفى اعطاف هذا الإنقلاب يتحالف السادات مع تيارات الاسلام السياسى

والتى كانت ترى الكنيسة والأقباط العقبة الكبرى فى تحقيق مشروعها السياسى

الذى وضعت جماعة الإخوان المسلمون أسسه وأطره الفكرية ومرجعياته الفقهية منذ قيامها 1928.

ازاء التصعيد المتواتر من تلك التيارات العنفية ضد الكنيسة والاقباط عبر جرائم حرق وهدم الكنائس

واستهداف شخوص وممتلكات الأقباط، خطفا ونهباً وفرض اتاوات، وقتلاً وتهجيراً تحت بصر ممثلى الدولة

بالقرية والبندر والمدينة والمحافظة، خاصة فى محافظات الصعيد حيث الكثافة القبطية، والبعد نسبياً عن الحكومة المركزية

والتى تعاملت مع هذه الجرائم برخاوة واحياناً بغض الطرف عنها، ازاء هذا تحصن الأقباط بأسوار الكنيسة التى شرعت ابوابها لهم، فى مرحلة فارقة، وبطبيعة الحال تشهد الهجرة الى دول الغرب تصاعداً ملموساً، وفى الداخل راح الأقباط ينشئون مجتمعاً بديلاً وموازياً، فى تجنب الاحتكاك بالشارع والمجتمع الذى تم تغيير عقله الجمعى

عند غالبيته وحشده فى مناصرة تلك التيارات، وهو ما انعكس على لغته وملبسه وتعاملاته.

صارت الأمة بديلاً عن الوطن، والفقه والأعراف بديلا عن القانون والنظام العام، لتنتعش الجلسات العرفية، وتنكمش دولة القانون وتتراجع، وتتشكل بغير اعلان الدولة الدينية.

كانت اختيارات البابا البطريرك لمعاونيه محكومة بالولاء والخضوع الكامل لتوجهاته، لذا جاءت كما اسلفنا

من الشباب المفتقر للخبرة، وقد مكث فى الدير بضعة شهور، ولم يجتاز خبرة التلمذة على شيوخه

وتحملت الرعية فاتورة ادارة هؤلاء لايبارشياتهم، ومع توالى الرسامات انزوى شيوخ المجمع

وقد صاروا أقلية غير مؤثرة، وتحاشياً لانفعالات شباب المجمع عليهم، حتى أن اكثر من مطران انقطع عن حضور اجتماعاته.

والتوسع فى الرسامات أمر يتكرر مع كل بطريرك جديد، وان تعددت الأسباب، وهذا أمر طبيعى، أن يسعى المسئول لاستقدام من يعاونوه فى ترجمة رؤيته ومنهجه فى ادارته.

ولم يخرج البابا الجديد عن ما استقر لدى سابقيه من عدم ارتياح للمجلس الملى العام، لكنه لم يرفضه

أو يجمده أو يصطدم به كما كان الحال قبله، فدعا الى الشروع فى اجراء انتخابات مجلس ملى جديد

وعقب اعلان قائمة الفائزين اجتمع بهم وقام بسيامتهم شمامسة، الأمر الذى اعترض عليه بعض الأساقفة

القدامى، باعتبار أن هذا الاجراء

يشكل حاجز أدبى وطقسى يحجر على حريتهم فى مراجعة الاكليروس فى تصرفاتهم الادارية والمالية

لكونهم، كشمامسة، رتبة كهنوتية خاضعة لهم.

وانتهج البابا البطريرك نهج التأملات المرسلة فى عظاته، التى لا تحتاج الى استناد لمراجع أو توثيق آبائى

اعتماداً على الزخم الذى تحتشد به ذاكرته القوية التى تميز بها، وقد انخرط فى خدمة الوعظ بالجمعيات

القبطية والكنائس بنشاط ودأب، بعد انضمامه لخدام كنيسة الأنبا انطونيوس بشبرا.

وقد قال بهذا فى اجابته على سؤال فى احد اجتماعاته، يقول السائل : لماذا لا يضع البابا اسماء المراجع التى يرجع إليها؟، فأجاب : هو فى الحقيقة أغلبية كتبى تأملات خاصة وليست من مراجع.

اللافت أن هذا النهج انتشر فى كل الكنيسة، فقلما تجد واعظاً، اسقفاً أو قساً، يستند فى عظاته إلى مراجع، وهى ملاحظة تضع ايدينا على احد ابرز اسباب ارتباكات التعليم.

ربما لهذا فرَّق القديس بولس الرسول بين الوعظ والتعليم، فبينما تصلح التأملات للوعظ بقدر ما، فهى لا تصلح منهجاً للتعليم، لأن التعليم يعتمد على ما التوثيق تأسيساً على ما استقر فى الكنيسة الأولى وتوثق عبر مجامعها المسكونية وقوانينها.

ولا يملك المعلم الخلط بينها وبين رؤاه الشخصية.ولعلنا ننتبه الى أن هناك فرق بين العقيدة والتفسير والرأى، إذ نتفق بشكل تام على العقائد الايمانية، بينما نقبل تعدد التفاسير والآراء، دون الخروج عن جوهر العقيدة، إذ أن الخلط بين هذه الثلاثية انتج لنا ما شهدته الكنيسة من صراعات ظنها اصحابها صراعات لاهوتية

وهى ليست كذلك، بل واستخدمت فى العصف بالمختلفين، حتى مع افتراض توافر حسن نية صاحب القرار.

فكثيراً ما تأخذنا النوايا الطيبة ألى مهالك.

وتشهد الأروقة الكنسية اعادة احياء مصطلحى “هرطقة وهراطقة”، وهو الأخطر فى ادبياتها

واطلاقه على كل من يختلف فى الرأى أو الموقف مع القيادات الكنسية، فى غياب الضوابط الحاكمة له

وهو أمر جد خطير وعبثى بآن.

اللافت أن كثيراً من حلفاء واصدقاء مراحل التكوين والصعود تم اقصائهم وتحجيمهم

وانتقل بعضهم الى دائرة الخصوم، والمقاطعة، الإشكالية هنا هو تغليف هذا كله بغطاء “الخلاف اللاهوتى”

ووصمهم بالهرطقة وعدم سلامة تعليمهم، كان من اصدقاء الأمس الانبا غريغوريوس اسقف البحث العلمى

وقد تغير الموقف منه بعد رسامته اسقفاً، باعتبار أن مهامه هى اقتطاع من مسئوليات

وصلاحيات اسقف التعليم، وكذلك الأمر فى العلاقة مع الأب متي المسكين، الذى وصفه البابا البطريرك

فى مستهل كتابه “انطلاق الروح” بأنه ابيه ومعلمه

الذى تتلمذ عليه فى مقتبل رهبنته، ثم وضعه فى دائرة الخصوم، فى واحدة من تطبيقات جدلية يناه جلياً

فى العلاقة بين البابا البطريرك وصفيه الدكتور جورج حبيب بباوى، والتى انقلبت من الحميمية الى العداء

الذى تصاعد إلى قطعه من الكنيسة

بدون محاكمة وبقرار مجمعى صدر بالتمرير.

وثمة سؤال اعترف بأننى لا أملك اجابته، فى عالم صارت فيه المعلومات ـ الصحيحة والمدسوسة ـ فى كل يد

وأمام كل عين، وتهدد ذهن المتلقين، وسلامة عقيدتهم، هل الرتبة الكهنوتية تغنى عن الدراسة النظامية

الأكاديمية للراعى، وتمنحه استغناء عن الاستعانة بالباحثين المتخصصين فى علوم الكنيسة؟.

وتصادفنا فى سياق الاقتراب من هذه المرحلة تجربة فريدة نجت من المصادمة

وهى تجربة الدكتور الباحث والمؤسس للتكريس بغرض البحث اللاهوتى الآبائى؛ الدكتور نصحى عبد الشهيد

والذى استطاع بحكمة ومثابرة ان يبتعد عن نقاط التماس مع القيادة الكنسية، باصراره على بقاءه مكرساً مدنياً

واحتفاظه ببيت التكريس بعد أن احتمى غالبية مؤسسيه بالرهبنة، وانتقل به الى مقره الجديد

ونجح فى مأسسته كمركز دراسات آبائية

تحت مسمى مؤسسة القديس انطونيوس للدراسات الآبائية، وقدم للكنيسة عبر تلاميذه كوكبة من الباحثين

الذين اوفدهم الى اليونان ـ تباعاً ـ للدراسة فى جامعاتها اللاهوتية، والحصول على دراسات عليا فيها

على مستوى الدكتوراة.

واستطاع بمنهجه هذا أن يحفظ وجود الكيان، ويُحَيِّد الفرقاء، ويقدم للفكر القبطى، بشخصه

وعبر أولاده، كنوزاً معرفية لاهوتية آبائية محققة، تأليفاً وتعريباً، غاية فى الأهمية، والأهم ألا يحسب على أحد.

تواكب مع هذا ارتفاع وتيرة وقف وقطع الكهنة بعد أن اسندت مهمة محاكمة الكهنة لسكرتير المجمع

الذى تولى منصبه بعد الإفراج عن قداسة البابا وعودته الى مقره، بعد محنة سبتمبر 1981

وقد أُطلقت يده فى العصف بمن يراهم مخالفين، وكان فى تصريحاته المعلنة يفخر بأنه عصا البابا الغليظة

ليطال الإيقاف العديد ممن يراهم مخالفين وبدون محاكمة

وكان ابرزهم القمص ابراهيم عبد السيد، الذى شُغل الرأى العام بقضيته، ربما لأنه كان شديد المراس

دارساً للحقوق، وكان ـ قبل رسامته قساً ـ يتولى ادارة الشئون القانونية بجهة حكومية

الكنيسة القبطية
إبراهيم عبد السيد

اضافة الى أنه كاتب صحفى له العديد من الاصدارات المتعلقة بالشأن الكنسى والطقسى، قبل الغضب عليه

وقد اصدر فى زمن الأزمة نحو ثلاثين كتاباً يتناول الاشكاليات الكنسية عرضا وتحليلاً وعلاجاً

لعل أبرزها: المحاكمات الكنسية أموال الكنيسة من أين؟ وإلى أين؟

المعارضة من أجل الإصلاح الكنسي البطريرك القادم ممن يختار؟… ومن الذى يختاره ؟.. وكيف..؟

السلطان الكنسى أبوة لا إرهاب متى يعود الحب المفقود فى الكنيسة القبطية ؟

الرهبنة فى الميزان أموال الكنيسة من يدفع ؟ ومن يقبض؟

الأحوال الشخصية.. رؤية واقعية الإصلاح الكنسى عبر العصور الإرهاب الكنسي.

يبقى لنا فى اقترابنا الحذر من مرحلة التغيرات الفارقة (1959 ـ 2012)

أزمة الصدام مع السادات، ونتناولها فى مقال قادم.

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

دعني أتكافل معك

ماجد سوس ما أصعب هذه الأيام وما أقساها، حين يعتصر القلب ويدمي، حين يرى الأب …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.