الجمعة , أكتوبر 11 2024
أخبار عاجلة
الكنيسة القبطية
الأديرة

كانت أديرة مقفرة وكنيسة تبحث عن بوصلتها !! اقتراب كاشف

كمال زاخرالجمعة 11 اكتوبر 2024[4]

تحولات ستة عقود (10 مايو 1959ـ 17 مارس 2012) جزء ثان: مرحلة التغيرات الفارقةـ

يرحل قداسة البابا كيرلس السادس بشيبة صالحة ـ 9 مارس 1971ـ بعد مرحلة تأسيسية هامة فى تاريخ الكنيسة والوطن، وبعد رحيل الرئيس جمال عبد الناصر بشهور قليلة ـ 28 سبتمبر 1970ـ لتبدأ مرحلة جديدة على المستويين الكنسى والوطنى تحمل متغيرات فارقة فى كليهما، تراوحت بين المهادنة والمواجهات العاصفة.

لم يكن البابا الجديد ـ قداسة البابا شنودة الثالث ـ وجها غريبا على الشارع القبطى فقد عرفه لنحو عشر سنوات (1962 ـ 1971) بصفته اسقفاً للتعليم، عبر اجتماعه الإسبوعى المستحدث، وفيه اسس لمدرسة جديدة فى الوعظ كسرت النمط السائد قبلها، حين كانت اللغة المستخدمة قبله تعتمد الفصحى فى أغلبها، وتدعمها بلغة الجسد وتنويعات نبرة الصوت، فإذا به يستخدم لغة تقترب من لغة الصحافة

وفى هدوء باعث للطمأنينة والثقة، يمكن ان توصف بالسهل الممتنع، لم تتنكر للفصحى ولم تقع فى تعقيداتها، مدعومة بالحكايات وبعض من طرائف، تكسر الحاجز بين المنصة والقاعة، وكانت اختياراته ذكية، تتلامس مع شجن المتلقين واحتياجاتهم النفسية والروحية

فى مناخ عام ضاغط، فمازلت اتذكر اجتماعاته الأولى المفتوحة للكافة فى مطعم الكلية الاكليريكية، كانت تدور حول مزامير السواعى، واكاد اتذكر تفاصيل حديثه عن مزمور “يستجيب لك الرب فى يوم شدتك…”، والذى تلامس مع كل فرد من الحضور، لعل من عوامل الإبهار آنئذ أن يتاح لنا ان نجلس إلى اسقف، يحادثنا ونسأله

فى وقت كان للأسقف هيبته وشموخه.

لم يكن وصوله للكرسى البابوى رمية بغير رام، فالمتتبع لسيرته يجد أن سعيه لهذا بدأ مبكراً، عقب رحيل قداسة البابا يوساب الثانى، 14 نوفمبر 1956م.

إذ كان اسم الراهب انطونيوس السريانى ضمن قائمة المرشحين، ولم يكن قد مضى على رهبنته عامين، ومعه كمرشحين بعض من شباب الرهبان، الأمر الذى أقلق الكنيسة والحكام الجدد، ضباط يوليو، وكانو شباباً من جيلهم ايضاً، فكان أن تم تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك فيما يتعلق بشروط الترشح، السن ومدة الرهبنة

ليحول دون ترشحهم، وقد كان، لكن الزمن يمضى وتسقط هذه الموانع لاستيفائهم تلك الشروط، عندما يرحل البابا كيرلس السادس ويقفز اسم الأنبا شنودة اسقف التعليم مجدداً فى قوائم المرشحين، وهو نفسه الراهب انطونيوس السريانى، وتأتى به القرعة الهيكلية إلى موقع البابا البطريرك.

الكنيسة القبطية
البابا كيرلس السادس البطريرك رقم 116

هذا الاصرار يعنى فى تقديرى أمرين؛ الأول أنه مؤمن ومرتكز على قول القديس بولس الرسول فى رسالته الأولى لتلميذه تيموثاوس “صَادِقَةٌ هِيَ الْكَلِمَةُ: إِنِ ابْتَغَى أَحَدٌ الأُسْقُفِيَّةَ، فَيَشْتَهِي عَمَلاً صَالِحًا”، والثانى أن لديه رؤية ملحة لادارة الكنيسة وتصحيح ما يراه فى ادارتها من عوار، متأثرة بالضرورة بتجاربه السياسية فى شبابه، حين اقترب لفترة فى بواكير شبابه من المجاهد الأكبر الزعيم مكرم عبيد فى حزب الكتلة الوفدية

ولعل هذا احد أهم الأسباب التى دفعته للرهبنة كطريق أوحد للوصول إلى ادارة الكنيسة، بعد ان فشلت محاولة جماعة مدارس الأحد فى الدفع برائدهم الاستاذ حبيب جرجس الى كرسى الاسقفية، وبعد فشل جماعة الأمة القبطية فى فرض التغيير عنوة باختطاف البابا الأسبق الانبا يوساب واجباره على توقيع وثيقة تنازل عن موقعه.

استلم قداسة البابا شنودة الكنيسة وبها 27 مطراناً واسقفاً، وقام على مدى حبريته التى امتدت لنحو اربعين عاماً (1972 ـ 2012) برسامة 116 اسقفاً اضافة الى رسامة خوري ابسكوبوس واحد، منهم خمسة اساقفة لأريتريا، والباقى لتغطية احتياجات الكنيسة بعد تقسيم ايبارشيات من رحل من المطارنة والأساقفة والبالغ عددهم 41، وتوسعات كنائس المهجر، اضافة الى الاساقفة العموميين.

(المرجع بحث للاستاذ الدكتور اسحق ابراهيم عجبان نشر بمجلة الكرازة 17 نوفمبر 2017).

كانت الإيبارشيات وقت تجليس قداسة البابا شنودة الثالث مترامية الاطراف، بعضها تشمل محافظة بأكملها، وبعضها تضم أكثر من محافظة، وكان غالبية الآباء المطارنة من الكهول الذين توالى رحيلهم، فيقوم قداسة البابا بتقسيم الإيبارشية التى يرحل مطرانها إلى كيانات رعوية (ايبارشيات صغيرة) ويقيم علي كل منها اسقفاً، سعياً لخدمة افضل، فضلاً عن تقسيم ايبارشية البابا إلى اقسام تضم عدد من الأحياء يسند ادارتها لأسقف عام، دون تجليس، فتبقى كما هى ايبارشية اسقفها البابا، يديرها من خلال معاونيه الاساقفة العموميين.

وهى رؤية تحتاج لتقييم ومراجعة بعد تراكم خبرات التطبيق وهى ليست فى معظمها ايجابية.

كان من نتائج هذا التقسيم قد صارت الإيبارشية تضم عدداً محدوداً من المراكز وما يتبعها من قرى، وفى ايبارشية البابا عدد يتراوح من عشرة إلى نحو عشرين كنيسة يديرها اسقف عام، كان من نتائج هذا ان تقلص دور الأب القمص (الإيغومانس) ليحمل الأسقف مهمة تلقى مطالب وشكاوى القسوس والرعية بشكل مباشر

الأمر الذى اربك سياق الخدمة، ومثل ضغطاً على الأب الأسقف، بجوار مهامه الرعوية الاعتيادية، واللافت قيامه بزيارات مكوكية لأقباط المهجر من ابناء ايبارشيته أو لكشف طبى دورى، أو لتغطية احتياجات الايبارشية، من عطايا اقباط المهجر.

وينعكس هذا سلباً على واقع الخدمة فى كثير من الأحوال.

وتتحول رتبة القمصية إلى رتبة شرفية تعطى تكريماً لكبار القسوس سناً أو رسامة.

ومع التوسع فى تقسيم الإيبارشيات تراجعت الشروط الموضوعية فى الاختيار من الرهبان لرتبة الاسقفية، وصار لأبناء الطاعة حظاً أوفر من اصحاب الخبرة والحكمة والوعى فى الاختيار، وكما اشرنا قبلاً فبعضهم دُفع الى دخول الدير لشهور قد لا تتجاوز العام ليتم رسامته استيفاء لشرط الاختيار من بين الرهبان، رغم أن القوانين الكنسية ذات الصلة تسمح بالاختيار من المتبتلين دون رهبنة، وتاريخ الكنيسة يشهد لاختيارات عديدة حتى فى رتبة البابا البطريرك من المتبتلين غير الرهبان.

كانت باكورة رسامات الاساقفة مبشرة بكتيبة خدمة يمكنها ان تقتحم حصون الانقطاع المعرفى والتراجع الذى طال، وتحديات المتربصين بالكنيسة، كتيبة تمتلك قاعدة روحية ومعرفية ولغة خطاب تؤسس لبناء لاهوتى وفكرى ارثوذكسى يعيد التواصل مع التراث الآبائى والكتابى، اذ جاءت من رفاق مسيرة الخدمة والتكريس، قامات واعية وباحثة وباذلة، لكن يبدو أن الواقع كان ضاغطاً واكثر تعقيداً من الرؤى الطوباوية، فبدت الحاجة الى تشكيل ظهير

يدعم توجه القائد فى مواجهة الحرس القديم، ومواجهة ارهاصات جماعات ارهابية بدت تتشكل فى الافق السياسى، لنجد خريطة رسامات الاساقفة تتشعب بين من يدركون مسئولياتهم وصلاحياتهم، وأخرون يفتقرون للخبرة الرعوية فى إدارة ايبارشياتهم، وبعضهم يديرونها برؤى رهبانية متعسفة لا تناسب طبيعة الخدمة خارج الأديرة، وبعضهم يديرونها برؤى ذاتية تفتقر للأبوة والوعى الآبائى المدرك لمسئولية خلاص الرعية.

كانت رسامات فى اغلبها من شباب الرهبان، قليلى الخبرة ومن ثم الحكمة، يعيدون للذهن صورة اولئك الشباب الذين استشارهم رحبعام بن سليمان، وأخذ بمشورتهم متغاضياً عن نصيحة الشيوخ، وكانت النتيجة وبالاً على مملكته.

وأتذكر أن الرئيس السادات قال موجها كلامه لقداسة البابا فى خضم التصعيد بينهما “بيِّض لحاهم يا شنودة”.

قبل خريطة الرسامات تأتى خريطة الرهبنة؛ التى شهدت قفزات كبيرة بدأت مع مغامرة دخول الرواد الثلاثة متي المسكين ومكارى السريانى وانطونيوس السريانى، وهم من هم فى أوساط الشباب، ربما باستثناء الأول الذى تسلل خفية قاصداً مناخا ومكاناً يتيحان له تفرغاً كاملاً يتعرف فيه بعمق على حكاية الانسان ما بين الخلق والسقوط

والفداء كما تتكشف فى اسفار الكتاب المقدس بحسب روايته التى سجلها مبكراً بين رهبانه على شريط يحمل عنوان “تأثير الإنجيل فى حياته الرهبانية”.

اللافت ان اسوار دير السريان احتوتهم معاً فى مرحلة من مراحل البدايات، لكن تأثيرهم قفز فوق تلك الأسوار وراح يتنسمه شباب جيلهم كرائحة بخور ذكية، فتأثر بهم العشرات من حملة الشهادات الجامعية بمحتلف التخصصات

وقصدوا الاقتداء بهم، فراحوا يطرقون أبواب الأديرة، فى افواج بعثت الحياة فى صحرائها.

تجرى فى نهر المجتمع مياه كثيرة يضطرب معها الأقتصاد، ونعرف مصطلحات التضخم والبطالة، والهجرة الى الخارج، وعلى هامش هذا يلجأ طيف من الشباب الى الرهبنة، حيث المأوى والحياة حتى بتوفر الحد الأدنى من مقومات الحياة، وقتها، بغطاء يبدو روحياً، ينخرطون فى الحياة الرهبانية، وقد يصادف الحظ بعضهم فيقع عليهم الاختيار للخدمة خارج اسوار الدير.

ومع انخراط الأديرة فى تطوير ما كان يعرف بـ “عمل اليدين” كمصدر يوفر احتياجات الدير والرهبان من مأكل وضروريات الحياة، مع توفر خبرات المنضمين الجدد من المتخصصين فى مجالات الزراعة والتصنيع الزراعى والادارة، باحت الصحراء لهم بأسرارها، وعرفت الأديرة الزراعات المكثفة، ومشروعات الثروة الحيوانية والداجنة، ومن ثم مشروعات التصنيع الزراعى فكان قبول الهاربين من البطالة يسد احتياجاتها من الأيدى العاملة وبدون تكلفة تذكر، وعرفت الأديرة طريقها الى دوائر التسويق المحلى وبعضها الى التصدير.

لم تعد نذور الرهبنة قادرة على مقاومة التطورات المتلاحقة التى اقتحمت الأديرة، وهو فى بعضه نتج عن سياسات ادارة الدير، بعد أن اتجهت الكنيسة لرسامة اسقف لكل دير، ليصير الإستثناء قاعدة، ويصير اسقف الدير فى غالبية الأديرة أب اعتراف أوحد لكل رهبان ديره، وينزوى شيوخ الرهبان، ومعهم تتراجع التلمذة وتختفى، ويطرق الكهنوت قلالى الرهبان، رغم تحذيرات مؤسسى الرهبنة فى القرون الأولى من هذا، واعتبروه علامة لإضطراب الرهبنة وربما انهيارها، وعرفت الأديرة قوائم انتظار رسامة رهبانها كهنة، وصار تخطى راهب منها فى دوره عقوبة وعلامة غضب عليه من الرؤساء، وخلف الأسوار حكايات عن تداعيات ذلك تصل للاكتئاب وربما الموت كمداً.

وفى مقابل ذلك كان هناك البعض من الرهبان يرفضون الدخول فى سلك الكهنوت حتى الشموسية، واحتفظوا بكونهم علمانيين، تأسيساً على كون الرهبنة بالأساس حركة علمانية لا دخل للإكليروس فى تأسيسها، ولم ينل غالبية مؤسسيها أية درجة كهنوتية.

تتحول الأديرة حثيثاً إلى مؤسسات اقتصادية منتجة، وتشرع ابوابها للزيارت والرحلات، فضلاً عن الخلوات الروحية التى تتيح للشباب الإقامة بالدير لبضعة أيام، وبين الرحلات والزيات والخلوات يتزايد اتخاذ روادها للرهبان الكهنة آباء اعتراف، بديلاً عن كهنة الكنائس المحلية، والتبريرات حاضرة فى تنويعات روحانية تفتقر للتدقيق، وتأتى النتائج سلبية على الراهب الكاهن، والمعترف/ة ، والدير، والكنيسة المحلية، وتتزيف الحياة الروحية بجملتها،

وتعانى الأسر من شيزوفرينية ابنائها، بل وتختل الأسر الجديدة التى يكون احد اطرافها من هؤلاء الشباب لتمزقهم بين مفاهيم الحياة المعاشة ونظائرها الرهبانية التى تزاحم اذهانهم.

كان من الطبيعى والحال كذلك أن تتراجع الحياة الرهبانية عن ما استقر فى ادبياتها وتراثها، بعد ان زاحمتها أمور من خارجها، لعل ابرزها مغازلة الكهنوت للخدمة خارج اسوارها، واختفاء التلمذة العمود الفقرى لنقل الخبرات الرهبانية من جيل الى جيل، وطوفان الزيارات التى لا تنقطع، وما تحمله من اشتباكات مع النذور الرهبانية الأساسية، سواء وقت الزيارات أو بعد اختلاء الراهب إلى نفسه.

ومن الأمور التى زاحمت التزامات الرهبنة التقليدية ضغوط العمل المباشر، أو الإشراف عليه، فى المشروعات المستحدثة، وهنا لا بد أن نذكر أن هذه المشروعات بدأت فى اديرة وادى النطرون انطلاقا من دير “ابو مقار”،\

الذى لم ينتبه لتداعياتها واثارها السلبية على المدى الطويل على طبيعة الرهبنة، ولم يقدم حلولاً توازن بين الالتزامات الرهبانية الحياتية للراهب، وبين متطلبات هذه المشروعات.

وكان من الطبيعى أن تتجه الأديرة إلى بناء كاتدرائيات داخل اسوارها والاحتفال بالأعياد والمناسبات فى حضور غفير للمصلين من زوار الدير، وعلى اسوارها يتم انشاء منافذ لتوزيع منتجات الدير باشراف رهبانى فيما يشبه سوق المدينة.

ومع اقترابنا من خريطة الرهبنة نستطيع أن نفهم خريطة الرسامات، واختلالاتها، من سبعينيات القرن المنصرم وحتى اللحظة.

وهى اختلالات ستظل قائمة ما لم تلتفت الكنيسة الى اعادة هيكلة منظومة الرهبنة، لتعيد لها انضباطها وخصوصيتها وعمقها تأسيساً على نذورها الأولى، فيما يخص الرهبنة الديرية التقليدية، وهى بحسب ادبياتها؛ العفة (البتولية)، العزلة، عدم القنية (الفقر الإختيارى).

والتدرج فى عودة رئاسة الدير لتسند الى احد رهبانها وليس برسامة اسقف لها، وفك الارتباط القسرى بينها وبين الكهنوت.

وعلى جانب أخر تأسيس وتقنين نمط “الرهبنة الخادمة”، ولكنائس تقليدية تجارب ناجحة فيها، وهى تقدم خدمتها للمجتمع فى دوائر التعليم والصحة والخدمات الاجتماعية للفقراء والمعوزين، والخدمات البحثية للكنيسة.

وبطبيعة الحال تبقى نذورها قائمة فيما عدا العزلة إذ تقيم فى بنايات خاصة وسط الناس فى المدن والقرى حيث مجال عملها.

يبقى لنا فى سياق التعرض لمرحلة التغيرات الاقتراب من المواجهات العاصفة، وتحديداً قضيتان اشتعلت بهما تلك المرحلة، الأولى الجدل بين المدارس الفكرية داخل الكنيسة، والذى تصاعد إلى حد اتهام الفرقاء بالهرطقة، والثانية المواجهة بين الكنيسة والدولة التى تصاعدت وتفاقمت وانفجرت فى قرارات رئاسية عنيفة فى 5 سبتمبر، وسوف نقترب منهما فى جزء ثالث من هذا الفصل، فى مقال تال.

شاهد أيضاً

المغرب

ســياق مــســـرح الـجـيـــب

  نجـيـب طــلال مــشكلة داخل السياق: موضوعنا هـذا يأتي على أنقاض ما طرحناه سلفا (1) …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.