كمال زاخرالسبت 5 اكتوبر 2024
[4]تحولات ستة عقود (10 مايو 1959ـ 17 مارس2012) جزء أول
ارهاصات التحولات بدأت، فى تقديرى، قبل هذا التاريخ، حين تجمعت تيارات كنسية عدة فى سعى عزل أو تحجيم البابا يوساب الثانى، ما بين جماعة الأمة القبطية التى ترجمت سعيها على الأرض باقتحام مقر البابا واجباره على التوقيع على وثيقة تنازل عن موقعه البابوى، واقتياده إلى إقامة جبرية فى أحد أديرة الراهبات بمصر القديمة
وهى وقائع مازالت بحاجة إلى فحص لمعرفة مدى اتصالها بالأجهزة المعنية فى ذاك الوقت، وبين جماعة مدارس الأحد التى جندت مجلتها للهجوم المتصاعد على قداسته بمقالات نارية تحفيزية ضده، وبين المجمع المقدس الذى
قرر تحديد اقامته وايداعه المستشفى القبطى حتى وفاته.
كان السبب المعلن والذى تم ترويجه آنذاك فساد حاشيته، واتهامه بالسيمونية، فيما تم اغفال ما انجزه فى رعايته للاكليريكية، وحرصه عليها، ونقلها من مقرها القديم إلى مقرها بالأنبا رويس فى قرار حاسم وعاجل، وتدشينه لمعهد الدراسات القبطية، ودعمه لمدرسة الرهبان بحلوان، وتواصله مع حكومة الثورة لإقرار اجازات رسمية لأعياد الأقباط، واهتمامه بضبط ترتيب الخدمة بالاسكندرية بشكل نظامى مقنن.
ظنى أن طرقه لأبواب التواصل مع الكنائس الارثوذكسية بعائلتيها، وحصوله على إجازات علمية عليا من جامعات اليونان التى تم ابتعاثه اليها ـ من مدرسة الرهبان ـ وهو بعد راهباً، هو الذى حرك الجناح المحافظ ضده
حتى إلى تحالف الفرقاء.
وعندما نقترب من المراحل اللاحقة فنحن لا نقترب من اشخاص بل من قرارات وردود فعل فى دائرة عملهم، ونقر ابتداء باحترامهم وتقديرهم، بعيداً عن الشخصنة.
ولا يمكن لمنصف أن لا يشهد للتطور الذى لحق بالكنيسة ونقلها إلى دوائر أرحب على الأقل جغرافياً سعياً لخدمة الأجيال المصرية الجديدة التى راحت تسعى فى كل بقاع العالم، عملاً أو هجرة بتعدد الدوافع والأسباب.
لم يكن اسم الراهب مينا البرموسى (القمص مينا المتوحد)، على قائمة المرشحين للكرسى البابوى بعد رحيل البابا يوساب الثانى، وكانت الكنيسة والدولة ينظران بتوجس للمرشحين من شباب الرهبان، فاتفقا على تعديل لائحة انتخاب البابا البطريرك بما يحول دون احقية هؤلاء الشباب فى الترشح، وقد كان، لتصدر اللائحة المعدلة عام 1957 وقد اضيف فيها ضمن شروط الترشيح أن لا يقل سن المرشح عن اربعين عام وألا تقل مدة رهبنته
عن خمسة عشر عاماً، وهكذا تم استبعاد اسماء كل الشباب اجرائياً؛ ليقفز أمامهم اسم مرشدهم الراهب القمص مينا المتوحد، ولم يكن مرشحاً، فسعوا لدى بعض المطارنة ونجحوا ـ من خلالهم ـ فى طرحه كمرشح، وتجرى الانتخابات ويكون اسم القمص مينا ضمن الثلاثة مرشحين اصحاب اعلى الأصوات وتأتى القرعة الهيكلية، وهو إجراء مستحدث وقتها، ليفوز فيها الراهب القمص مينا المتوحد، ويحمل اسم البابا كيرلس السادس فى 10 مايو 1959.
وتسترد به الكنيسة عرفها المستقر بأن يكون البابا من الرهبان الذين لا تعلو رتبتهم الكهنوتية
عن رتبة “القمص”، بعد ثلاثة بطاركة اختيروا من المطارنة، كان البابا الجديد رجل صلاة، ويرسى تقليداً جديداً باقامة قداس يومى، سرعان ما انتقل إلى بقية الكنائس بالقاهرة، ثم اغلب ايبارشيات الكنيسة.
وعندما نقترب من دائرة قداسة البابا كيرلس السادس، لا بد أن تتوقف عند القمص صليب سوريال، أحد مؤسسى مدارس أحد الجيزة، وخدمة القرية، وهو ابن خالة البابا كيرلس، ومهندس ضبط العلاقات داخل الكنيسة آنئذ، مع رفيق خدمته الاستاذ سعد عزيز (الأنبا صموئيل اسقف الخدمات فيما بعد)، ولكونه خريج كلية الحقوق جامعة فؤاد الأول (القاهرة) فقد كان له دور رئيسي فى توثيق طيف كبير من القوانين الكنسية خاصة فيما يرتبط بالأحوال الشخصية، واسند اليه عام 1964 تدريس مادة القانون فى الكليات الإكليريكية بمصر والخارج.
وكان الدينامو فى سعى المصالحة بين قداسة البابا كيرلس والأب متي المسكين، ونجح فى مسعاه ليتم الصلح فى العيد العاشر لرسامة البابا، الذى يرسله الى دير القديس ابو مقار، بموافقة الانبا ميخائيل مطران اسيوط ورئيس الدير.
وهو الذى قدم حلاً فقهياً يعطى للبابا حق رسامة اساقفة عموميين، بالارادة المنفردة، فكانت رسامة اسقفى التعليم (الأنبا شنودة)، والخدمات (أنبا صموئيل)، فى 30 سبتمبر1962 م.، ثم بعدهما فى 10 مايو 1967 رُسم اسقف البحث العلمى (أنبا غريغوريوس)، باعتبارهم يؤدون خدمات عامة فى عموم الكنيسة معاونة للبابا البطريرك، دون أن يسند لهم ايبارشية معينة.
وفى الدائرة الحيوية للبابا كيرلس يلمح شخصية أخرى كان لها دورها فى مطبخ ادارة الكنيسة وهو الاستاذ الدكتور حنا يوسف حنا، الذى يرقى فى علاقته بالبابا إلى اعتباره تلميذا له، ومن فرط محبته لأبيه البابا كان كلما ذكر اسمه ينعته بـ “العظيم عند الله والناس”، وكان مقربا من الرئيس جمال عبد الناصر فى نفس الوقت.
جمال عبد الناصر والأنبا كيرلس البابا كيرلس السادس وجمال عبد الناصر
ويذكر له أنه الذى اقترح على البابا تعيين الراهبين مكارى السريانى وانطونيوس السريانى فى سكرتارية البابا، كنوع من تقديرسعيهما لطرح إسم الراهب القمص مينا المتوحد فى قائمة المرشحين للبابوية، إضافة إلى الدفع بدماء شابة فى منظومة اكليروس الكنيسة، بما يملكان من طاقة وقدرة تنظيمية وعلاقات متعددة يمكن توظيفها لخدمة الكنيسة، واستجاب له البابا، ثم عاد بعد فترة ليقترح عليه رسامتهما اسقفين ليصيرا أعضاء بالمجمع المقدس ومن ثم يدعمان قرارات قداسته داخل المجمع، وللمرة الثانية يستجيب له البابا.
وبحسب القمص صليب سوريال كان للدكتور حنا يوسف حنا دوراً لوجيستياً فاعلاً فى نقل ما يخص الاب متى المسكين ورهبانه من دير الأنبا صموئيل لدير الأنبا مقار بشاحنات واحدة من الشركات التى يشرف ويراجع حساباتها.
لم يختلف قداسة البابا كيرلس عن سابقيه فى الموقف المناوئ للمجلس الملى باعتباره رقيبا مالياً على البابا، فى مناخ مجتمع أبوى، خارج الكنيسة وداخلها، وظنى أن لهذا علاقة ما بصدور القانون رقم 264 لسنة 1960 الذى أنشأ هيئة الأوقاف القبطية، ليدير ويشرف على أوقاف الكنيسة، وهى المهمة التى كان يقوم بها المجلس الملى العام، ضمن عديد من المهام الأخرى، واللافت أن المجلس الملى يتم اعتماد تشكيله بقرار من وزير الداخلية
فيما يتم تشكيل هيئة الأوقاف القبطية بقرار جمهورى يعتمد ترشيحات الكنيسة.
والمتابع لمهام المجلس الملى العام يلحظ تقلصها بالتتابع، بدءاً من صدور القانون رقم 462 لسنة والذى يقضى بإلغاء المحاكم الشرعية والمحاكم الملية 1955واحالة القضايا المنظورة امامها للمحاكم الوطنية، ثم تشكيل هيئة الأوقاف القبطية التى اشرنا اليها قبلاً، ثم تتوالى القرارات الاشتراكية والتى كان من نتائجها احالة تبعية المدارس القبطية لوزارة التربية والتعليم، والمستشفيات القبطية لوزارة الصحة، ولم يتبق للمجلس سوى الوجاهة الإجتماعية، واعتبار اعضائه من المقربين للكنيسة الأمر الذى يدفع بهم الى رأس القائمة التى يختار منها
المعينون فى البرلمان او غيره من المؤسسات الرسمية فى الدولة.
ولا يمكن الاقتراب من هذه المرحلة دون ذكر حدثين كبيرين فى تاريخ الكنيسة، الأول وضع حجر اساس الكاتدرائية المرقسية بالعباسية وهى المقر الرسمى للبابا البطريرك، فى 24 يوليو 1965 مواكبا للاحتفال بذكرى ثورة يوليو 52، فى رسالة ذات مغزى للعالم أجمع، وحضر الاحتفال مشاركاً فى وضع حجر الأساس الرئيس جمال عبد الناصر، والامبراطور هيلاسيلاسى امبراطور اثيوبيا، والعديد من رؤساء الكنائس فى العالم.
والثانى عودة رفات القديس مرقس الرسول مؤسس الكنيسة المصرية وأحد كتاب الإنجيل الأربعة، وكان البابا كيرلس السادس قد انتدب وفدا رسميا للسفر إلى روما لتسلم الرفات من البابا بولس السادس، يتألف من عشرة من المطارنة والأساقفة بينهم ثلاثة من المطارنة الأثيوبيين، اضافة إلى ثلاثة من كبار أراخنة الأقباط.
وعادوا به فى 24 يونيو 1968، وتم استقبال الرفات فى احتفال مهيب بدأ من مطار القاهرة وحتى الكاتدرائية المرقسية، فى ثانى يوم لافتتاحها رسميا والذى تم فى حضور الرئيس جمال عبد الناصر، والامبراطور هيلاسيلاسى. وفى مشهد مهيب وضع صندوق الرفات فى المزار المعد له تحت الهيكل الكبير ووضع الصندوق في جسم المذبح الرخامي القائم في وسط المزار وغطي بغطاء رخامي ومن فوقه مائدة المذبح.
وعلى الجانب الآخر فى مقابل الانجازات التاريخية نرصد اموراً اسست لاشكاليات تحتاج مراجعة واعادة هيكلة، لعل اهمها قرار البابا كيرلس إغلاق مدرسة الرهبان بحلوان وعودة الرهبان الدارسين فيها إلى اديرتهم ـ وقد اشرنا الي هذا قبلاً ـ وقيل فى تبرير ذلك أنها صارت عبئاً على ميزانية الكنيسة، وهناك من يرى أن اغلاقها يأتى فى سياق قرار البابا بعودة الرهبان الى اديرتهم دون استثناء، وقد اشار القمص صليب سوريال، فى واحدة من محاضراته المسجلة، إلى حوار له مع قداسة البابا عن استثناء الأب متى ورهبانه من قرار العودة للدير تأسيساً على انهم يقومون بدور بحثى آبائى تكريسى بحلوان ـ ايضاً ـ لكن الاب البطريرك رفض أية استثناءات.
وعادت الكنيسة للاختيار من الرهبان دون اعداد أو تأهيل للانتقال من مناخات الرهبنة إلى الفضاء الرعوى، وهو الأمر الذى تفاقم فيما بعد، الى حد دفع من يراد رسامته اسقفاً لدخول الدير لشهور استيفاء لشرط الاختيار
من بين الرهبان، وكان لهذا اثره المربك للكنيسة.
ثمة أمر أخر يبدو ظاهرياً أنه تعميق للروحانية وهو تعميم اداء صلاة القداس يومياً، ومن البديهيات أن من يقترب من هذا الأمر سعياً للعودة إلى اقتصار اداء القداسات على ايام الأحد والأربعاء والجمعة، سيواجه بهجوم ممتد بأنه لا يستوعب روحانية الطقس واهمية الليتورجية، وقد يتهم باضعاف الكنيسة وكسر وصية الكتاب أنه ينبغى أن يصلى كل حين.
ومن يعود للكنيسة الأولى يتيقن أنها كانت تجتمع فى يوم الرب للصلاة وكسر الخبز، وأن اضافة يوم الجمعة، مؤخراً، جاء تلبية لاحتياج الرعية والتى صار قطاع كبير منها يعمل بوظائف حكومية أو فى هيئات وشركات خاصة أجازاتها الاسبوعية الجمعة، فقررت الكنيسة اتاحة صلاة القداس لهم يوم الجمعة بل ونقلت أو اضافت خدمة مدارس الأحد الى يوم الجمعة لكون اجازات المدارس الجمعة.
والكاهن القبطى مثقل بالتزامات رعوية وطقسية تبتلع يومه وجل حياته، ما بين صلوات القداسات والعشيات، وصلوات الجنازات والأكاليل ومسحة المرضى وحل مشكلات الأسر سواء الأزواج أو الأبناء، ورعاية المعوزين وخدمة الكلمة فى الاجتماعات المتنوعة وترتيبها، فضلاً عن مسئولياته الأسرية، وعلاقته بإخوته الكهنة وبأبيه الأسقف، وقبل هذا كله هو محمل بكيف يرضى الرب!، وغالباً ما تتضارب وربما تتعارض هذه الدوائر وبعضها، وهو ما رصده ابينا الاسقف الأنبا بيمن اسقف ملوى بالمشاركة مع القمص يوسف اسعد فى كتابهما الكاهن القبطى (1986).
وحتى تلتزم الكنيسة بشيوع القداس اليومى من جانب، وزيادة أعداد الرعية من جانب أخر، كان من الضرورى زيادة رسامات كهنة الكنائس، واتجهت الكنيسة ـ فى تلك المرحلة ـ إلى الاختيار من خارج صفوف الإكليريكيين، اكتفاء بكونهم خدام بمدارس الأحد واجتماعات الشباب، ظناً أن مؤهلاتهم الدراسية العليا فى الجامعات تكفى، ولم يكن هذا صحيحاً، لتشهد الكنائس تراجع التعليم المرجعى والاستغراق فى نسق التأملات المفتوحة وفق خلفيات كل كاهن.
ولم ننتبه إلى ان هذه الرسامات تقلص الحضور القبطى المجتمعى فى مختلف المجالات التى ترسم كوادرها كهنة.
وفى مرحلة لاحقة انحصرت الرسامات ـ خاصة فى ايبارشية البابا ـ فى خريجى القسم المسائى من الكلية الإكليريكية ـ الذى يلتحق به حملة المؤهلات الجامعية ـ وكانت وقتها لا تعدو مستوى اجتماعات الشباب، لافتقارها للكوادر المؤهلة للتدريس بها.
الأمر الذى انعكس على خريجى القسم النهارى ـ عصب الكلية ـ فراحوا يبحثون عن رساماتهم فى الأقاليم أو يستسلمون للبطالة أو اللجوء لتحويل المسار بالسعى لاكتساب مهارات لأعمال أخرى.
ولنا عودة لإشكاليات التعليم فى الجزء الثانى من هذا الفصل.
استحداث رسامة اسقف عام، اسقف تسند الية مهام كنسية عامة بدون ايبارشية، افرز العديد من الأزمات، لعل ابرزها تنازع الاختصاصات مع اساقفة الإيبارشيات، وكان هذا واضحاً فى عمل اسقف التعليم، فى جولانه بالايبارشيات المختلفة والاجتماع مع شبابها ورعيتها لالقاء محاضراته، وهو الأمر الذى اثار قلق اساقفة تلك الكنائس، واعتباره تدخل فى اعمالهم، حتى أن بعضهم منعه من دخول ايبارشيته، ويسجل التاريخ تصادمه مع قداسة البابا نفسه، الأمر الذى دعاه لرسامة اسقف للبحث العلمى، تحجيماً لصلاحيات اسقف التعليم، الذى اعتبره اعتداء على صلاحياته باعتبار ان البحث العلمى ومعهد الدراسات القبطية ضمن اختصاصاته، وانعكس هذا على علاقة الاسقفين حتى بعد تجليس اسقف التعليم بطريركاً، الأمر الذى دفع البابا الى الأمر برجوع اسقف التعليم إلى ديره،والذى شن حملة هجوم ضارية على البابا فى مجلة الكرازة فى اصدارها الأول.
اللافت أن رسامة الاساقفة العموم لم تتوقف بعد رحيل البابا كيرلس بل استمرت حتى اللحظة، بل تطورت الى رسامتهم بدون مهام محددة، لحين تجليسهم على الايبارشيات التى يرحل اساقفتها، وهو أمر يحتاج مراجعة وضبط على القوانين والأعراف الكنسية المنظمة لضوابط اختيار الاساقفة ودوائر مسئولياتهم، باعتبارهم رعاة لرعية.
وشهدت حبرية البابا كيرلس اقبال الشباب على الرهبنة انبهارا بتجربة الرواد الثلاثة؛ الأب متى المسكين والراهبان مكارى وانطونيوس السريانيين، (الأنبا صموئيل اسقف الخدمات، والأنبا شنودة اسقف التعليم فيما بعد)، وإن تعددت الدوافع والأهداف، فى ظل مجتمع عام ضاغط وطارد، وفى المقابل اتجهت الكنيسة لتعميم رسامة اساقفة للأديرة، بعد أن كانت اغلبيتها يتولى ادارتها أحد رهبانها، وكان لهذين المتغيرين انعكاساتهما على الأديرة، سلباً وايجاباً
وهو ما سنعرض له ضمن اطروحات الجزء الثانى من هذا الفصل.