كمال زاخر الخميس 26 سبتمبر
شهد الفضاء القبطى الكنسى تحولات اعادت تشكيل خريطة الخدمة الكنسية وتوازناتها مع نهايات حقبة الأربعينيات من القرن العشرين، كان الشباب المصرى فى تلك اللحظة يمور بالتمرد على ما هو قائم، سواء فى الفضاء العام أو نظيره الكنسى، فبينما يأتلف نفر من ضباط الجيش المصرى من الرتب الشابة الوسيطة ليفجروا حركة عسكرية تطيح بالحكم الملكى وتضع يدها على زمام الحكم ـ يوليو 52 ـ كان الشباب القبطى يتوزع على مسارات متعددة:
– شباب جماعة مدارس الأحد هم مجموعة من الشباب الواعد الذين التفوا حول الأستاذ المؤسس حبيب جرجس
الأب الروحى لهم، وأُسندت اليهم مهمة تعليم النشء مبادئ المسيحية مطعمة بطيف من الطقوس الكنسية
وعقائدها وسير القديسين ودروبهم، مستعينة بالمتوفر من مراجع غالبيتها مترجمة
وقد اشرنا اليها قبلاً، قليلها تراثى وغالبيتها عن مراجع غربية، وداخل هذه الجماعة تعددت المدارس
مجموعة الأنبا انطونيوس بشبرا، ومجموعة جزيرة بدران، ومجموعة الجيزة، تعدد بلا قطيعة أو تنافر
وظهر هذا التعدد فى مجلة مدارس الأحد التى صدرت عام 1947، ومازالت.
وكانت المجلة لسان حال هذه الجماعة التى تبنت مطالبات الإصلاح الكنسى عبر مقالات محرريها
بل وكان غلافها المتكرر فى سنيها الأولى يعكس توجهها، ما بين غلاف يحمل صورة للسيد المسيح
حاملاً مصباحا يضئ الطريق وبين غلاف يحمل فيه المسيح سوطاً يطرد به باعة الهيكل.
كانت الكلمة سلاحهم تنويراً وتطهيراً، تكويناً ومعارضة، وقد قفزت الى ذهنى، وأنا اقلب فى صفحات المجلة
كلمات كتبها الكاتب الشاعر عبد الرحمن الشرقاوى، ابن جيلهم، فى واحدة من مسرحياته، عن الكلمة :
“أتعرف ما معنى الكلمة ؟ مفتاح الجنة في كلمة دخول النار على كلمه وقضاء الله هو كلمه
الكلمة لو تعرف حرمه زاد مزخور…الكلمة نور ..وبعض الكلمات قبوروبعض الكلمات قلاع شامخة
يعتصم بها النبل البشريالكلمة فرقان بين نبي وبغيب الكلمة تنكشف الغمة
الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة .
عيسى ما كان سوى كلمة أضاء الدنيا بالكلمات وعلمها للصيادين فساروا يهدون العالم ..الكلمة زلزلت الظالم
الكلمة حصن الحرية إن الكلمة مسؤولية إن الرجل هو كلمة، شرف الله هو الكلمة
”وكم كان للكلمة المكتوبة، آنذاك، من تأثير واسع الأمد، إذ تكاد تكون المصدر الأول للمعرفة
ومتابعة ما يحدث هنا وهناك، فقد كانت ملكة الإعلام مع موجات الإذاعة وقتها، قبل أن يخطف التلفزيون
منهما الأولوية، بامكاناته الفارقة من حيث السرعة ومواكبة الأحداث ثم ابهار الصورة التى توثق الأخبار.
– شباب جماعة الأمة القبطية؛ تعرفنا فى الجزء الثانى من هذا الطرح على هذه الجماعة، والتى لم تدم فى اطارها الرسمى كثيراً، إذ تأسست 11 سبتمبر 1952، وصدر قرار حكومى بحلها فى 24 ابريل 1954
كان اختيار يوم التأسيس رسالة لها مدلولها، إذ يوافق فى ادبيات الأقباط عيد الشهداء، والذى يبدأ به التقويم القبطى، واللافت أن يأتى التأسيس بعد شهرين من قيام ثورة يوليو.
وتبرز الصحف وقتها لقاء مؤسس الجماعة الأستاذ ابراهيم فهمى هلال مع قيادات الثورة اللواء محمد نجيب والبكباشى (الرائد) جمال عبد الناصر.
ولا يقل تاريخ حل هذه الجماعة اثارة للإلتفات، لأنه يأتى بعد عزل محمد نجيب، وبعد تقديم الجماعة مذكرة ضافية تحمل رؤيتها للدستور المزمع وضعه 1954، وبحسب مؤسسها فقد أثنى عليها المستشار عبد الرزاق السنهورى بأنها “اكثر الرؤى إحكاما” وهو رأى له وزنه لصدوره عن أحد أهم الفقهاء الدستوريين ورئيس لجنة إعداد الدستور،
والجدير بالإشارة أن مشروع الدستور هذا لم ير النور.
لكن هذا لم يكن رأى السلطة الحاكمة، التى رأت في هذه الجماعة خطراً، وهو ما تكشفه قائمة الإتهامات التى اعتمدتها المحكمة العسكرية العليا فى إدانة عناصر قيادة الجماعة، وكانت تتصدرها ما ورد فى مذكرة الجماعة المقدمة للجنة إعداد الدستور فى سبتمبر1953، والعمل على تكدير السلم العام ومقاومة السلطات
ثم يأتى فى مؤخرة قرار الإتهام أنهم “قبضوا بدون وجه حق على غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس
الأنبا يوساب الثانى وتمكنوا من اقتياده خارج الدار البطريركية وإقصائه عن مقر منصبه”
وتم الترويج للتهمة الأخيرة ولم تأت وسائل الإعلام وقتها، ولا من تناول سيرة هذه الجماعة فيما بعد لغيرها
وقد انتهت محاكمتهم إلى صدور احكام بحبس غالبيتهم، وكان نصيب مؤسسها سبع سنوات قضاها كاملة
بسجن طرة، قام خلالها بتأسيس مكتبة قراءة للمساجين داخل السجن.وقد تولدت عندى عديد من الأسئلة
عن دوافع الحل المباغت مازالت بلا إجابات:
– هل لأنها ترجمت معارضتها لسياسة الكنيسة وواقعها المتردى إلى فعل لم تعتده اروقتها، ولا يتسق مع طبيعة الأقباط، حين توجهت إلى دار البطريركية، وألزمت البابا البطريرك (أنبا يوساب) بالتوقيع على وثيقة تنازل عن إدارة الكنيسة ؟… ربما.
– هل لأنها مدت تطلعاتها إلى خارج أسوار الكنيسة، وارتفعت بمطالبها لتتجاوز السقف الذى يسمح به المجتمع والنظام الحاكم آنذاك، حتى بدت لكثيرين أنها تطلعات مجنونة، وهى تضع على قمة مطالبها عودة الأمة القبطية، لغة وممارسة وحياة؟ .. ربما.
– هل لأنها وجدت تأييداً شعبياً جارفاً منذ يوم إعلانها، كان يؤسس لتفعيل المشاركة السياسية للأقباط، مع اختلاف تقييم هذا التحرك؟ .. ربما.
– هل لأنها ترجمت ما تؤمن به إلى خطوات عملية تشابكت بها مع الشارع ومع الكنيسة ومع الدولة؟ .. ربما.
– هل لأنها سجلت رؤيتها فى شأن “الأمة المصرية” فى مشاركتها بالمذكرة التى قدمتها إلى لجنة مشروع
الدستور، بعد أن طلبت منها الجهات الرسمية المشاركة فى ذلك، ووضعت يدها على واحدة من أخطر
معوقات المواطنة والدولة المدنية، فتصادمت مباشرة مع الخلفيات الذهنية لكثيرين من شخوص ثورة يوليو
الوليدة رغم تقريظ العالم الدستورى الدكتور عبد الرزاق السنهورى وثناءه على المذكرة، .. ربما.
– هل لأنها قادت حركة معارضة شعبية قبطية، بدعم وتأييد من المجمع المقدس، ضد اتجاه الثورة إلى إصدار
قانون للأحوال الشخصية للمسيحيين، والذى يحيل الفصل فى قضايا الطلاق للمحاكم المدنية
بعد أن كانت حقاً مطلقاً للكنيسة، وكذلك ضم الأوقاف القبطية للدولة، الأمر الذى حسب مقاومة لتوجه الحكام الجدد؟… ربما.
فى ظنى أن “جماعة الأمة القبطية” تجربة تستحق أن نقترب منها، وأن تعرفها الأجيال المعاصرة
بعد أن قوبلت بموجات عاتية من التعتيم ومن التشويه، تجربة مصرية حاول من لم يسترح لها أن يحصرها
فى خندق الطائفية، فهل هى كذلك كما يبدو للوهلة الأولى من مسماها “الأمة القبطية” أم هى حركة وطنية
تسعى لبعث التواصل التاريخى لتعود “الأمة المصرية” كما يقول قادتها، ثم هل هى حلم أم هى كابوس ؟!.
(لمزيد من التعرف على هذه الجماعة راجع كتابى “العلمانيون والكنيسة ـ صراعات وتحالفات” الصادر عام 2009).
– الرهبنة ارهاصات بعث جديد؛يتجه نفر من جيل شباب اربعينيات القرن العشرين نحو الرهبنة
مع انتصاف القرن، تبدأ المسيرة عام 1948، بالدكتور يوسف اسكندر، والأستاذ سعد عزيز، وفى عام 1954 يلحقهما الاستاذ نظير جيد فى مسار الرهبنة بدير السريان، ورغم تقارب أزمنة رهبنتهم
إلا أن دوافعهم كانت مختلفة، وقد نعود لتحليلها فيما بعد، الأهم أن إقدامهم على الرهبنة
كان محفزاً لكثيرين أن يقتدوا بهم.كان الدكتور يوسف اسكندر، بوصلة الحراك الرهبانى
كانت رهبنته فى دير الأنبا صموئيل المعترف، وقد اختاره لأنه دير مقفر وبعيد عن العمران
إذ يقع فى جبل القلمون بصحراء مغاغة بالمنيا، وبه نفر قليل من شيوخ الرهبان، متتلمذا على الراهب القمص
مينا المتوحد رئيس الدير، ومكث بالدير ثلاث سنوات، ثم ذهب الى دير السريان للعلاج
وهناك رسمه رئيس الدير الأنبا ثيئوفيلوس
قساً بأسم الأب متي المسكين، وكان اختيار هذا الاسم لوجود راهب من القدامى اسمه متى
ولما كان رهبان الدير الواحد إخوة فجرى العرف ألا يتكرر الإسم الواحد مرتين.يلتئم شمل الرهبان الثلاثة
بدير السريان؛ الأب متى المسكين، والأب مكارى السريانى (سعد عزيز)، والأب انطونيوس السريانى
( نظير جيد)، ومعهم تشهد الأديرة تقاطراً شبابياً من الجامعيين، طلباً لخلوة يتكشفون خلالها ماهية الرهبنة
الطريق والنذور، يتلمسون زاداً روحياً من هؤلاء الرواد، وتتشكل دوائر شبابية حول ثلاثتهم، سرعان ما طلبوا قبولهم فى صفوف الرهبان، وتجرى فى نهر الأديرة مياه جديدة وغزيرة.
تتقارب الخيوط وتتباعد، ما بين التحالفات والمصادمات، وتشتبك الى درجة تستعصى على فكها، بعد أن صار لكل من الرواد الثلاثة مكانه ومكانته، على خريطة الرهبنة والكنيسة، وهو ما سنقترب منه، اقتراب حذر ـ بقدر ما
تحتمل الحالة القبطية السائدة، فى الحلقة القادمة، وربما تكون الخاتمة لهذا الطرح الذى طال.
– حركة التكريس القبطى؛يشهد عام 1954 حراك لمجموعة أخرى من شباب الكنيسة؛ يخايلهم حلم بعث الكنيسة من جديد، كانوا فى سنواتهم الجامعية الأخيرة، من كليات مختلفة، نصحى عبد الشهيد ـ كلية الطب، كمال حبيب ـ كلية الآداب، يسرى لبيب، كلية التجارة، وغيرهم، يراودهم حلم التكريس لا الرهبنة
تتطلع مجموعتهم إلى إجابات لتساؤلات عديدة، وتبحث عن مخرج لأزمة الكنيسة “فى الداخل صراعات ومن الخارج تربصات”، انتهوا إلى تأسيس “بيت التكريس” فى حدائق القبة (نوفمبر 1958)
ثم ينتقلون وقد ضاق بهم المكان إلى ضاحية حلوان (مارس 1959)، كان السعى أن يعبروا إلى عموم الناس خارج اسوار الأديرة، هكذا رأوا التكريس ومسئولياته، وآمنوا أن اعادة بناء ما تهدم يبدأ فكراً
لذلك كان عنوانهم “بيت التكريس لخدمة الكرازة”، وطفقوا يترجمون كتابات الآباء؛ آباء ما قبل مجمع نيقية
وآباء مجمع نيقية وآباء ما بعد نيقية، عن اللغات الحية، وينضم إليهم أحد أعمدة اللغة اليونانية الأستاذ صموئيل كامل عبد السيد، للبدء فى تعليمها لأعضاء بيت التكريس ومريديه.
ويرى رائدهم [أن بيت التكريس يجب أن يكون سنداً للكنيسة ومعاوناً لها بصفته مركزاً للخدام العلمانيين فى الكنيسة التقليدية، فنحن نكرِّم الكهنوت ونخضع له ونعاونه فى خدمة النفوس. وأنا أرى ـ والكلام مازال للرائد ـ أنه بدون خدمة العلمانيين ( أى من هم من غير الرهبان أو الإكليروس ) بهذه الصورة فستنهار خدمة الكهنوت
وتنهار كرامتها فى نظر الأجيال القادمة، لأن الكهنوت إبتدأ من الآن (منتصف القرن العشرين) فى عدم القيام بواجبه. فى الكنيسة الأولى كان الموهوبون من أعضاء شعب الكنيسة هم الذين يقومون بالخدمة
بينما الأسقف هو الذى يرتِّبهم ويرعاهم، وكان الكهنة خداماً للأسرار الكنسية.
فلما تشددت الرهبنة ابتلعت الخدمة والخدام من أعضاء شعب الكنيسة (يطلق عليهم خطأ اسم “العلمانيين”
وهو الإسم الدارج للكلمة اليونانية لاؤس).
ويواصل كلمته فيقول بشكل تقريرى:وهكذا ترك العلمانيون الخدمة للرهبنة.
ولما ضعفت الرهبنة ضعفت الخدمة، كما أصبح العلمانيون لا يقومون بعملهم ولا يعرفون مسئولياتهم فى الخدمة].
رغم الضغوط العديدة التى تعرض لها بيت التكريس والتى دفعت بعض اعضاءه للرهبنة، ظل الدكتور نصحى عبد الشهيد، متمسكاً ببقاءه علمانياً وبمواصلة البيت لرسالته، فعاد ادراجه الى مقره القديم بحدائق القبة
ليبدأ مرحلة جديدة، وينأى بنفسه وبخدمته وبالبيت، بجَلَد وإصرار، عن صراعات تلك الفترة
ولا يشتبك فى أية معارك، متسلحاً بالصمت المطبق، فقد أدرك مبكراً أهمية رسالة التكريس التى نذر نفسه لها.وغير بعيد نتابع تجربة بيت الشمامسة بالجيزة والذى اسسه الارشيدياكون رمسيس نجيب
الذى انتبه إلى خدمة الشباب الجامعى المغترب، فى عام 1955 وكان فى البداية اسمه “بيت الشباب الجامعى” وفكرة إنشاء البيت جاءت من خدمة المغتربين للدراسة بجامعة القاهرة
وهذا البيت جاء من قلب الخادم القدير الأب القمص صليب سوريال صاحب كتاب “نظم الخدمة”
وكان هذا الكتاب بمثابة دستور للخدمة والعمل الروحى، وفى عام 1975 وافتتح بيت للشمامسة فرعاً بمدينة 6 أكتوبر للمغتربين هناكوللارشيدياكون العديد من الكتب الموجهة للشباب، والتى اقتحمت وقتها تابوهات الحب والجنس ليطرح من خلالها الرؤية المسيحية فيهما
وكيف يتعامل الشباب مع قضاياهما، وفى هذا يقول: [اتخذت أسلوباً بسيطاً فى الاصدارات التى ينشرها “بيت الشمامسة” وهى أن تضع للقارئ المعلومة من خلال قصة تدخل “قلبه” وبهذا المنهج تجد سلسلة
“فضائل فى حياة القديسين” التى منها كتب “المحبة والعفة” وهناك أسلوب التساؤلات الشبابية
فالقارئ اليوم يحتاج إلى “سندوتش” ومن خلال خدمة الشباب طوال هذه السنوات تكررت عندى الأسئلة التى يطرحونها فالموضوعات تدرس عشرات المرات، مما يعطى خبرة كبيرة فى مجال الأمور الاجتماعية
ويظهر ذلك فى كتب “طهارتى” و “الاختلاط”… وإلى جانب ذلك هناك كتب عامة مثل:
“معاملات المسيح مع الخطاة”… والمهم فى الكاتب أن يحترم بالأساس ثقافة الاختلاف.. وأذكر عبارة جميلة تقول:
“كان عندى 5 أولاد ربيتهم بالأحرى تربيت على أيديهم، وهذا هو الأب والخادم والقسيس الناجح
فالذى يعلمه هو نفسه يتعلمه.] وتخرج فى هذا البيت اجيال من الشباب انخرطوا فى الحياة العامة فى ربوع مصر وخارجها فكانوا سفراء للمسيح
والكنيسة والوطن يقدمون صورة حية فاعلة ومؤثرة فى تلاحم وسلام المجتمع.
وقد حرص بيت الشمامسة على أن يقف بعيداً عن اجواء الصراع أو الصدامات، شأنه شأن تجربة
الدكتور نصحى عبد الشهيد.
يبقى لنا فى هذا السياق الاقتراب من قضية ابتعاث الدارسين من الشباب للخارج لاستكمال دراستهم الاكاديمية
العليا، ونعرض من خلالها لأزمة الدكتور جورج حبيب بباوى، بقدر وافر من الموضوعية
بعيداً عن صخب فرقاء المشايعين.
ثم نحاول أن نجيب على سؤال معلق : ماذا حدث للكنيسة، وفيها، فى النصف الثانى من القرن العشرين
والعقد الأول من القرن الحالى والذى انتهى بنا الى ما صرنا إليه؟ هذا ما سنتعرض له فى الجزء الرابع من طرحنا هذا.