نسيم مجلى
يعد الدكتور محمد كامل حسين نموذجاً فريداً في ثقافتنا المعاصرة, إذ جمع بين النبوغ العلمى والنبوغ الأدبى وحاز التقدير الكبير فى الميدانين فحصل على جائزة الدولة للقصة عن “قرية ظالمة”عام 1957.
ثم حصل على جائزة الدولة التقديرية فى العلوم عام 1964 .
ولد محمد كامل حسين فى العشرين من مارس 1901 .
وتلقى تعليمه الثانوى بالمدرسة الإلهامية بالقاهرة ثم التحق بمدرسة الطب بالقصر العينى
وكان ترتيبه الأول فى كل هذه المراحل, مما أهله للحصول على بعثة لدراسة الدكتوراه بإنجلترا.
وكامل حسين يذكرنا بمفكرى عصر النهضة فى أوروبا الذين كانوا يجمعون بين الثقافة العلمية والثقافة الأدبية.
فهو أستاذ فى جراحة العظام وصل فى تخصصه إلى أعلى الدرجات, ومعلم تدرج فى سلك التدريس
بالجامعة حتى وصل إلى منصب رئيس قسم جراحة العظام ثم مديرا لجامعة عين شمس سنة 1952 .
ولم تمنعه ممارسة المهنة كطبيب ومعلم من مواصلة التنقيب والبحث فى الأدب والفلسفة والدين والتاريخ.
وظل يساهم فى هذه المجالات بكتاباته حتى اختير عضوا فى مجمع اللغة العربية عام 1952.
وفيما يلى أهم كتبه الأدبية:
متنوعات – الجزء الأول – مطبعة مصر.
قرية ظالمة 1954- مكتبة النهضة المصرية.
التحليل البيولوجى للتاريخ 1957 – المطبعة العالمية.
وحدة المعرفة 1958 – مكتبة النهضة.
متنوعات – الجزء الثانى 1961 – مكتبة نهضة مصر.
الودى المقدس 1968 – دار المعارف.
الذكر الحكيم 1971 – مكتبة النهضة المصرية.
الشعر العربى والذوق المعاصر 1971. مطبوعات الإذاعة والتلفزيون.
بالإضافة إلى عدد من الأبحاث الأخرى التى ساهم بها فى دورات المجمع اللغوى مثل:
أدب النقائض وحقيقة أمر الفرزدق.
القواعد العامة لوضع المصطلحات العلمية.
اللغة والعلوم.
معنى الظلم فى القرآن.
أصول علوم اللغة.
أسلوب أبى العلأ المعرى ودلالته.
بالإضافة إلى بعض اقتراحاته الهامة لتيسير اللغة العربية وحل مشاكلها.
وهو كطبيب وأستاذ جامعى نجده مهماً فى كل ما يكتب بالعلاج ووضع الحلول.
ويبدو أن انشغاله كطبيب بعلاج كسور الجسم وجروحه قد كشفت له عن بعض المناطق المظلمة
فى النفس البشرية, ورأى فى لحظات الآلام الرهيب مواطن الداء الحقيقية, فاهتم بأزمة الإنسان ككل
وراح يبحث لها عن العلاج فى مجالات المعرفة المختلفة, فدرس الفلسفة والتاريخ
وحاول الوصول إلى نظرية لتفسير التاريخ الإنسانى.
واهتم بدراسة الأديان السماوية الثلاثة وبالأخلاق اليهودية والمسيحية.
كذلك اهتم بالتفسيرات العلمية والأخلاقية للقرآن ومن أهم بحوثه فى هذا الشأن “معنى الظلم فى القرآن”
ولفظ الظلم ومشقاته يتردد فى القرآن
أكثر من مائتى مرة.ولعله وجد فى معنى الظلم وآثاره الاجتماعية مصدر الداء بالنسبة للأفراد والجماعات
وهذا ما يبدو واضحاُ فى قصة “قرية ظالمة” وفى قصتيه القصيرتين “الإسخريوطى” و”الراهبة والعجوز”.
مصادر ثقافته:
والمتتبع لكتابات كامل حسين, يلاحظ عمق معرفته بالأديان وبالكتب السماوية عموماً وعلى الأخص القرآن
كذلك تمكنه من اللغة العربية وامتلائه بها.
ولا شك أن نمو هذه الثقافة وتعمقها على هذا النحو يرجع إلى نشأته فى “عائلة علماء مسلمين”
كما أشار فتحى رضوان.
والآهم من ذلك هي مواهبه الشخصية الفذة من ذكاء وذاكرة قوية وقدرة فائقة على فهم لغته واللغات الأجنبية
بل وطباعه الهادئة الرقيقة كل ذلك قد هيأ له فرصة اللقاء الخصب مع مجتمع الغرب, كما هيأت له فيما بعد حين
عاد إلى وطنه أن يكون صديقاً لأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد, ولطه حسين عميد الأدب العربى
ولأستاذه الدكتور على باشا إبراهيم. ولكثيرين غيرهم من رجال العلم والأدب.
اشتغاله بالكتابة
يرجع اهتمامه بالكتابة إلى فترة مبكرة من شبابه. وكان من الطبيعى لإنسان هذه مواهبه أن ينزع للتعبير عن
آرائه العلمية والأدبية. فابتدأ منذ تخرجه فى كلية الطب يكتب فى “السياسة الأسبوعية”
باسم مستعار هو “ابن سينا”
ويشير الدكتور إبراهيم بيومى مدكور رئيس المجمع اللغوى, فى مقاله بمجلة (الهلال عدد مارس 1973):
إلى ذلك قائلاً: “لم تقف مقالاته عند الطب والصحة العامة بل امتدت إلى (اللغة العربية) و”البحوث العلمية”
ولو سمى نفسه (ابن المقفع) أو (عبد الحميد) ما عز عليه ذلك. وقد ظل يراسل المجلة أثناء بعثته
فى إنجلترا من 1925- 1929.
الإصلاح والتجديد:
ويواصل الدكتور مدكور كلامه قائلاً “عرفته فى مجالس لطفى السيد.
وكان حديثه يدور غالباً حول الأدب واللغة والإصلاح والتجديد” وكلمتى الإصلاح والتجديد تعطيان مفتاحاً
لفهم شخصيته.
فقد تمثلت معانيهما فى كل عمل قام به وكل كتاب ألفه. يتضح ذلك فيما يقوله صديقه الأستاذ فتحى رضوان
عن تجديده فى أساليب
علاج كسور العظام وإقامته مركز طب العظام بمستشفى الهلال, وإشارته إلى دوره فى التجديد الروحى بإرساء
“تقليد خلاصته عندما يسمع جرس عربة الإسعاف عند منعطف الطريق حاملة جريحاً إلى المستشفى
يجب أن يكون طبيب النوبة قد فرغ من ارتداء معطفه الأبيض وأسرع عدواً إلى حجرة العمليات
ومعه معاونوه – لكيلا يضيع على المصاب أقل قدر من الزمن” وهذا ما أكده الدكتور عبده سلام
الذى قال أنه تتلمذ على يديه وتعلم منه معنى المسؤولية وحسن العناية بالمريض.
وقد كللت جهوده فى هذا السبيل بإنشاء أول قسم لطب العظام بجامعة عين شمس وقد قدرت له الدولة
هذا الصنيع العظيم ومنحته جائزة الدولة التقديرية للعلوم 1965.
بل إن هذه الصفات هى التى كانت موضع اهتمامه فيمن كتب عنهم.
كتب عن لطفي السيد بقوله أنه أرسطى من الطراز الأول, ويعتبر تشابهه مع أرسطو سبباً فى نجاح دعوته الفكرية.
“لم يكن عفواً أن يكون الداعية الأكبر إلى أرسطو فى مصر الحديثة هو أحمد لطفى السيد, بل لم يكن بد
من أن يكون الأمر كذلك” .. لأن نجاح الدعوة فى رأيه لابد له من شروط” إنما تعد الدعوة ناجحة
حين يكون القائم بها أقرب ما يكون طبيعة وتفكيراً إلى ما يدعو إليه. وكأنما عاهد على أن لا يترك شيئاً
مما تفخر به البلاد الحديثة إلا أنشأ له شبيهاً فى مصر”.
وفى وصفه لهذين الرائدين, يؤكد امتلاكه لموهبة الكتابة الأدبية, وعلى الأخص القدرة على رسم الشخصيات
وإبراز الصفات المؤثرة فى سلوكها. وقد تجلت هذه القدرة فى بنائه لشخصيات قصصه وبالذات فى
“قرية ظالمة” حيث نلاحظ براعة المؤلف فى استحضار الشخصيات التاريخية بسمتها النفسية
والفكرية المعروفة فى الكتب الدينية والتاريخية.
بل أن كتابته لهذه الرواية يدل دلالة قاطعة على صدق البصيرة وأصالة التجديد بالإضافة إلى نبل المقصد
والغاية.
فقد رأى الكتاب الغربيون الذين ترجموا هذه القصة إلى الفرنسية والإنجليزية أنه أول مسلم يتصدى
لبحث حادث الصليب ويبين مغزاه الإنسانى.
وكذلك الأمر بالنسبة لدراسته للغة العربية واقتراحه لتيسير كتابة اسم العدد بإبقائه دائماُ على حاله
مع الفصل بينه وبين المعدود بحرف “من” فيقال دون تفرقة خمسة من الرجال وخمسة من السيدات
وذلك لأنه يريد لهذه اللغة أن تكون أداة علم وتحضر تيسر للأجيال الفهم والتفكير والتعبير.
وأن الصراع بين العامية والفصحى يجعل عملية التيسير ضرورية وعاجلة حتى تواكب التطور الحديث
فى الفكر والأدب.
لهذا دعا إلى إعادة كتب النحو وتبسيطه وتعديل مناهجه حتى تتمشى مع روح العصر
كما دعا إلى وضع معجم حديث” مصفى فى اختيار الألفاظ, وحديث فى تحديد معانيه, لا يذكر فيه اختلاف اللهجات
ولا استعمال الأضداد للفظ الواحد. ولا يقبل فيه إلا صيغة واحدة للكلمة, وإلا مصدر واحد للفعل
وإلا جمع واحد للاسم وتشرح الألفاظ شرحاً دقيقاً واضحاً يتمشى مع ما انتهى إليه العلم الحديث”.
(من مقال الدكتور مدكور).
لكن حماسه للغة العربية لم يبعد به عن موقف الصدق أبداً. وهذا ما يؤكده فى بحثه عن “اللغة والعلوم”
حيث يفرق بين لغة التفاهم والأدب والفكر وبين لغة العلوم الخاصة بالمصطلحات العلمية.
وهو يجد أن ألفاظ اللغة اللاتينية هى الإصلاح للمصطلحات العلمية باعتبارها لغة ميتة لن تتطورولن يدركها التغير
وهذا يؤدى إلى استقرار المعانى وسهولة المعرفة.
ولهذا لا يرى مسوغاً لترجمة الألفاظ أو المصطلحات العلمية من اللاتينية أوالإغريقية إلى العربية.
عالم يؤمن بالعقل وبالتجربة العلمية:
وكامل حسين يريد العقل العلمى الذى يحلل ويعلل لا العقل الإقطاعى كما يسميه أحياناً, أو عقل القرون الوسطى
الذى يسلم ويستسلم فلا ينقد ولا يناقش ولا يخترع ولا يبتكر.
وهو فى ربطه للعلم بالعقل يدرك فى وضوح مدى الصلة بين الطب والفلسفة, فهو فى نفسه
فيلسوف بقدر ما هو عالم. يغلب الطابع الفكرى الخلاق
على كل ما يكتب, لا تشذ عن هذا روايته “قرية ظالمة” فله منهج محدد فى التفكير يستلهمه من ثقافته العلمية.
وله مذهب واضح القسمات.
أما منهجه الفكرى فهو يعبر عن فلسفة أو رؤية متفائلة تشيع الأمل فى النفس وتملأ الإنسان ثقة بقدراته
ومواهبه وبإمكانياته على الإبداع وبناء التقدم وتحقيق العدل والمساواة والحرية. وهو يشرح هذا المنهج
قائلاً فى “وحدة المعرفة” :
“والإصلاح المنهجى الذى ندعوا إليه يقوم على أنه حان الوقت الذى نستطيع فيه أن نغير من وضع الهرم المقلوب
فنجعل المعرفة هرماً قائماً على أساس الطبيعيات وهى أساس ثابت, قائم على البرهان والتجربة, فيه تكون القضايا
عامة غير قابلة للاستثناء, وفيه يكون الواقع معروفاً لا يحتمل الشك ولا يسع للآراء المتضاربة
وفيه يكون الواقع والمعقول شيئا واحداً لا يقبل الخلاف ثم نقيم على هذا الأساس علوم الحياة على نسقه وأسلوبه
فيتحدد بذلك المذهب الحق من بين المذاهب الحيوية ثم نقيم على هذا كله علوم الإنسانيات متسقة
فى نظامها مع علوم الحياة ”
وهو يؤمن بقدم العلم وسيادة العقل عليه بغرض توجيهه لخدمة الإنسان فهو يرى أن تاريخ الحياة العقلية
خطاً صاعداً أو راقياً مستمراً ويقول فى “التحليل البيولوجى للتاريخ” أن “أثر الحياة العقلية فى التاريخ
يزيد كلما امتد الزمن..” ثم يضيف “ولما كانت الغرائز باقية على ما هى عليه, وكانت الحياة الاجتماعية
تعلو وتنخفض فلن يمضى وقت طويل حتى تطغى الحياة العقلية عليهما, ويصبح لها النصيب الأكبر
فى تكييف تاريخ المستقبل, وسيسود ذلك المستقبل أقوى آثار الحياة العقلية وهو المساواة”
ذلك أنه يرى أن إنتاج الأعضاء التعويضية الآن يساعد الأفراد المعوقين على تكملة ما أصابهم من نقص
كما أن الأجهزة الإلكترونية الحديثة تمكن المعوقين من التعلم والتقدم فى كل مناحى الحياة
وتحقق لهم المساواة مع الأصحاء, وسوف يكون من نتيجة ذلك كله سقوط امتيازات التفوق بين الأفراد إذ يقول:
” تقدم العلوم يؤدى إلى محو فروق التفوق. وهو بذلك يؤدى إلى المساواة بين الناس.
وفى هذه المساواة مفتاح تاريخ المستقبل. ومن آثارها ضياع الامتيازات القائمة على التفوق.
وسيظل الأفراد قادرين على التفوق على غيرهم من الأفراد فى دائرة تخصصهم
ودون أن يؤدى هذا التفوق إلى امتيازات عامة قد لا تمت إلى هذا التفوق بأى سبب.”
ولذلك نجده يرفض كل النظم الشمولية والديكتاتورية التى تقضى على حرية الفرد وكيانه
بدعوى سعادة المجتمع لأنه يرى أن من حق كل فرد أن يتمتع بالعدل والحرية… والنظام السليم هو الذى يوائم
بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة “فالفردية الحقة هى التى تقوم على أن كل فرد يجب أن يكون سعيداً
والاشتراكية الحقة هى التى تقوم على أن سعادة الجماعة هى سعادة كل فرد فيها”.
ولضمان ذلك لابد من فصل الدين عن النظم الاجتماعيقة. فالدين ثابت والنظم متغيرة.
وربط المتغير بالثابت يؤدى إلى جمود النظام الاجتماعى وتخلفه بل يؤدى إلى قيام نظام شمولى
استبدادى لا مكان فيه للعدل والحرية.
والدكتور حسين فوزى زميله ورفيق دراسته يرجع استقامة منهجه ألى مراحل دراسته الآولى
ويقول إن علماء التربية يؤمنون أن المعلم ليس هو الساقى للعلم بكأس مهراق, وإنما هو الموقد فى النفوس
ذبالة تتحول ضوءاً كاشفاً.
لقد أشعل فيه مدرسوه جذوة النبوغ والتفوق, مما دفعه فى مرحلة الدراسة العليا, إلى الاعتماد على نفسه
لتوسيع آفاقه ومداركه, بالاطلاع على شتى أبواب المعرفة, وأذكر له فى هذا الصدد التحاقه بمدرسة “برليتز”
ونحن طلبه, لندرس اللغة الفرنسية. وكان يسر إلى فى شيخوختنا قائلاً: اننى مدين لهذه اللغة بأسعد
ما حققت وعرفت من تجاريب الحياة. ولهذا تفسير فقد حاز درجاته العلمية فى إنجلترا بجهده الدراسى.
وحاز ما حاز فى فرنسا بنبوغه!”.
“وفى لقاء لنا بفرنسا” من تلك الزيارات التى كنا نتباد لها عبر المانش, ونحن نراجع أنفسنا وما حققه لنا الانفتاح
الكامل على حضارة أوربا, لا أنسى قول كامل حسين:”أهم ما نصنعه بحياتنا فى هذه الحضارة
أن نسد الفجوات التى تركها لنا تعليمنا فى المرحلتين الابتدائية والثانوية”.
ويتضح لنا من كلام الدكتور حسين فوزى أنه كان معجباً بهذه الحضارة, منفتحاً عليها, لا تصده عقد نقص
أو مشاعر دينية حتى رأى فيه اكمل صورة لرجل النهضة كما ينبغى أن يكون. ولعل هذا يختلف مع ما يقوله
الأستاذ فتحى رضوان من أنه لم يكن قادراً على أن يندمج فى المجتمع الجديد, وأن يسقط كل خصائص قومه
ويطهرعقله ونفسه من تراث آبائه وأجداده فيصبح غربياً يؤمن بأساليب الغرب فى البحث العلمى
والدراسات التطبيقية, كما يؤمن بمناهجه الروحية, نظرته إلى الناس وما يساور قلوبهم ويخالج نفوسهم”.
ولا اعتقد أن الاندماج فى مجتمع الغرب يعنى أن يتحول كامل حسين إلى رجل غربى
كما يظن الأستاذ فتحى رضوان. لكن الشئ الأكيد أنه أخذ بأساليب الغرب ومناهجه العلمية والفكرية
دون أن يسقط كل خصائص قومه ويطهر عقله ونفسه من تراث آبائه وأجداده” ولا أدل على ذلك من إيمانه
بمناهج العلوم البيولوجية والطبيعية واعتناقه لنظرية التطور الطبيعى التى أكد صحتها فى كتاب “وحدة المعرفة”
أما تأثره بمناهج الحضارة الغربية الروحية فواضح من تمسكه الشديد بحرية الفكر وبالديمقراطية
وفى رفضه المطلق للنظم الشمولية المذهبية أو الدينية. بل ان نظرية ” الوادى المقدس” تدور حول حرية الضمير الفردى.