نسيم مجلى
قليلة هى الأعمال الإبداعية التى تستوحى رموز العقيدة المسيحية فى أدبنا الحديث، رغم الثراء الباذخ للتراث القبطى في جوانبه التاريخية والشعبية.
ولعل أشهر هذه الآعمال الإبداعية رواية “قرية ظالمة” للدكتورمحمد كامل حسين 1953، ومسرحية ” الراهب ” للدكتور لويس عوض 1961، ثم مسرحية “القضية ” التى كتبت إبان حرب أكتوبر1973 وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب 1978 من تاليف كاتب هذه الدراسة.
و”قرية ظالمة” هـي الرواية الوحيدة التي كتبـها جراح العظام الشهير الدكتـور محمد كامل حسين والتى فازت بجائزة الدولة سنة 1957 مناصفة مع نجيب محفوظ، كما كتب بضعة قصص قصيرة أخرى مثل” الإسخريوطى”
بالإضافة الى عدة كتب هامة في الأدب والفلسفة. لـكن “قرية ظالمة” استحوذت علي اهتمام الناس حتى صار يعرف بأنه صاحب “قرية ظالمة”
تعدي الاهتمام بهذه القصة حدود الوطن، فترجمت لأكثر من لغة أجنبية، بل إن الترجمة الإنجليزية تتصدرها مقدمة طويلة كتبها المترجم مستر كينيث كراج، لكن المؤسف أن الاهتمام في مصر لم يتحول إلى دراسة أو تقييم لهذه
القصة، ولا أعرف أحدا كتب عنها في حينها سوي الأستاذ يوسف الشاروني في كتابه “دراسات في أدبنا العربي”
ود. سهير القلماوي وأخيرا في عام 1977 كتب الأستاذ فتحي رضوان بضعة مقالات عن القصة
ومؤلفها ونشرها بمجلة “الثقافة”.
“وقرية ظالمة” تمثل محاولة جادة لدراسة أزمة الضمير المعاصر واكتشاف أسبابها الروحية والتاريخية، وهذه الأزمة تبدو واضحة في قدرة المجتمعات الحديثة علي ارتكاب جرائم القتل والعدوان ضد الأفراد والجماعات باسم المصلحة القومية أو الوطنية أو تحت شعار الدين وحماية الحرية.
وفي سبيل الكشف عن جذور هذه الأزمة وتوضيح أبعادها الحقيقية يعود بنا المؤلف قرابة ألفي عام إلى الوراء، ليحلل لنا أحداث ذلك اليوم المشهود “حين أجمع بنو إسرائيل أمرهم أن يطلبوا إلى الرومان صلب المسيح
ليقضوا علي دعوته، وما كانت دعوته إلا أن يحتكم الناس إلى ضمائرهم في كل ما يفعلونه وما يفكرون فيه فلما
عزموا أن يصلبوه لم يكن عزمهم إلا أن يقتلوا الضمير الإنساني ويطفئوا نوره، وهم يحسبون أن عقلهم ودينهم يأمران بما يعلو أوامر الضمير وفي هذا الذي أرادوه تتمثل نكبة الإنسانية الكبرى”.
قرية ظالمة ص 2)
لقد كان اليهود أهل دين، وكان الرومان أهل مدنية وقانون، ولم يحل ذلك كله دون ارتكابهم للجريمة لأنهم تصوروا أن الدين والنظام يعلوان علي أوامر الضمير، ومن هنا كانت خطيئتهم ومأساتهم ومأساة الإنسانية عموما حتى الآن.
وكما يقول المؤلف ” فالناس أبدا معاصرون لذلك اليوم المشهود وهم أبدا معرضون لما وقع فيه أهل أورشليم حينذاك من إثم وضلال، وسيظلون كذلك حتى يجمعوا أمرهم أن لا يتخطوا حدود الضمير.”
ومن هنا يتبين لنا أن المؤلف قد اختار واقعة صلب المسيح ليستكشف من خلالها أزمة الضمير الإنساني
المعاصر ثم يقدم لنا رؤيته للخلاص.
فنحن في مدينة أورشليم وفي تلك الساعة الحاسمة من يوم الجمعة الحزينة حيث يشيع جو القلق والاضطراب والكآبة والترقب.
ولا نكاد نمضي في قراءة القصة حتى نلتقي بعديد من الشخصيات التي شاركت في تلك الأحداث أو التي شهدتها.. والجميع في أزمة تأخذ بخناقهم.
فرجل الاتهام الذي جمع بالأمس كل قدراته البلاغية ليقنع شيوخ إسرائيل وكهنتها أن المسيح خطر عليهم أصبح يساوره القلق في صدق ما قال.
وفي طريقه إلى دار الندوة يلتقي بذلك التاجر اليهودي، الذي يحاول بالمال وبالذكاء أن يقنع الحداد بصنع المسامير التي تدق في يدي المسيح ورجليه.
إن الحداد يخشى الاشتراك في هذه الجريمة، ولكن التاجر يقول: ” إن أكبر الجرائم إذا وزعت علي عدد من الناس أصبح من المستحيل أن يعاقب الله أحدا من مرتكبيها.
” ولا يكاد رجل الاتهام يسمع قول هذا الشيطان حتى يرتعد، ” أيكون هو أيضا ممن يشاركون في الخطيئة الكبرى مجزأة حتى لا يدري أحد ــ ولو كان إله بني إسرائيل نفسه ــ علي من يكون العقاب.؟”
ويرهقه التفكير فيعرج إلى دار صديق له يسأله ” أنحن علي صواب في اتهام هذا الرجل وصلبه، أم علي خطأ؟”.
ويرد صديقه ” احتكم إلى ضميرك وحده، فهو الذي يهديك.”
وما جري لممثل الاتهام يحدث مثله للمفتي، فلا يكاد يجتمعون في دار الندوة حتى يتراجع عن فتواه
” إني لن أفتي بعد اليوم ” انهم أساءوا فهم فتواي ويريدون أن يقتلوا بها رجلا لا أري ضميري يرضي عن قتله.”
ويحاول أحدهم أن يحذره.
لقد آمن الناس بأن صلبه واجب، ولن يعدلوا عن رأيهم، وليس من السياسة أو مصلحة المجتمع أن يتراجع أحد عن هذا الموقف، ويرد المفتي بأنه لا يهتم بأمر العامة أو بأمور السياسة.
أما حيرة ” قيافا ” فتنبع من عدم إيمانه بالقوة وإعجابه بالحلول الأخلاقية التي يقدمها المسيح
وفي الوقت ذاته هناك حرصه علي سلامة المجتمع وحمايته من الانقسام، وهذا يتطلب صلبه
ومن ثم بات ليلته مهموما وسار في الصباح إلى دار الندوة محزونا، لابد أن يري ماذا يفعل؟
كيف يبرئ المسيح من الباطل الذي اتهموه به إرضاء لضميره، أو كيف يوافق علي صلبه حماية للمجتمع الذي يجلس هو علي قمته كرئيس لشيوخ وكهنة إسرائيل..
كذلك يتراجع معظم الشيوخ عن قرار صلب المسيح إلا رجال المال والتجارة الذين يصرون علي صلبه
ويرون فى دعوته للإخاء والمساواة وسيلة لتجميع العبيد والفقراء استعداد لثورة ضد المجتمع.
وحين يعجز منطقهم، يهددون الشيوخ والكهنة بالجماهير قائلين ” إن الشعب هائج ولن تهدأ ثائرته حتى يصلب هذا الرجل.”
وأحداث القصة لا تستغرق أكثر من ثلاث ساعات، وهو زمن المأساة اليونانية.
ومن حديث الأشخاص تتكشف لنا أبعاد الأزمة، فقد اصدروا بالأمس قرارا إجماعيا بصلب المسيح، واليوم قد وجدوا أنفسهم في قبضة هذا القرار لا يستطيعون عنه رجوعا، أمام حشود الرعاع والغوغاء التي أقنعوها بالأمس بخطر النبي الجديد.
لقد عادوا إلى بيوتهم بعد إصدار القرار.. ولم يكد كل منهم ينفرد بنفسه، حتى يشعر بصحوة ضميره، وبدأ يري الأمر على نحو جديد.
كيف يتراجع أو كيف يبرر لنفسه أو للآخرين. لقد وضعهم بيلاطس البنطي في مأزق. إذ سلموه المسيح بالأمس ليصلبه.
لكنه لا يجد علة لذلك ويريد أن يطلق سراحه حسب عادته في عيد الفصح..
لقد قدم لهم بيلاطس فرصة ذهبية للرجوع عن الخطأ.
وكان علي رؤساء الكهنة وقادة الشعب أن يغتنموا هذه الفرصة حتى يتخلصوا من تبكيت الضمير الذي يعتصرهم فرداً فرداً.
وهنا نلاحظ براعة المؤلف في تقديم الأحداث وترتيبها حتى تصل الى النهاية الثابتة دينيا وتاريخيا وكأنها تجري بقوة التطور الحتمي نحو النهاية.
فلا يكاد يستقر رأي الشيوخ والقادة علي الرجوع عن قرار الأمس حتى يفاجئهم تطور الأحداث.
فقد حاصر الرعاع دار الندوة ثم اقتحموا المجلس وراحوا يتهمون الشيوخ والقادة بالخيانة ويهددون بصلبهم مع المسيح.
وهنا تنكشف مأساة العجز عند ذوي الرأي ورجال الدين. لقد أقنعوهم بالأمس أن المسيح فتنة تهدد أمن المجتمع وسلامته، فكيف يقنعوهم اليوم بعكس ذلك؟
إنها مأساة الفرد ومأساة الجماعة في آن واحد.
فالحقيقة تثقل كاهل العقلاء فردا فرداً.
ولكن من يقوي علي مواجهة الجماهير الثائرة.. من؟
لا شك أن المؤلف قد اختار أسلوبا ملائما تماما لموضوعه. فرواية الأحداث أو سردها عن طريق أشخاص
مختلفين في الأفكار والمواقف من شأنه أن ينير الزوايا المختلفة للقضية المثارة, كما أنه أكثر الأساليب قدرة على مخاطبة العقل والوجدان في وقت واحد.
فنحن لا نرى حادثة الصلب مع أنها المحور الرئيسي للقصة. وإنما نسمع عنها من خلال الحوار المحتدم بين الفيلسوف المادي الذي يرفض التسليم بما لا يقبله العقل والحكيم المجوسي الذي رأى نجم المسيح عند مولده
وآمن به منذ ذلك الحين.
وهو يرى أن حدوث الظلام واشتداده كانا بسبب الصلب إذ يقول ” إني أعلم من أحداث هذا اليوم ما لا تعلمون.
إن الله رافع السيد المسيح إليه.
وهو نور الله في الأرض, فلما أبى أهل أورشليم إلا أن يطفئوه, أظلمت الدنيا عليهم.. وهذا الظلام آية من عند الله تدل على انه حرمهم نور الإيمان وهدى الضمير.” وهكذا تنتهي وقائع الصلب.
إن واقعة الصلب تمثل حادثا شديد التعقيد يحفل بالمعاني الدينية والأخلاقية والفلسفية
وقد حصر المؤلف جهده في دراسة هذا الحادث من جوانبه الإنسانية.
ولعل صعوبة فهم هذه الجوانب, حال دون عرض مشهد الصلب أمامنا في القصة مع أنه المحور الرئيسي فيها, واكتفى المؤلف بتقديمه عن طريق رواة هم شهود عيان لما وقع في تلك الساعات.
ولا شك أنه أسلوب موفق أتاح لنا رؤية هذه الحقيقة من عدة جوانب.
فقد اختار المؤلف حيلة ذكية ترمز إليه هي واقعة إعدام الجندي الروماني.
وكان هذا الجندي قد التقى بمريم المجدلية بعد توبتها على يد السيد المسيح, فعرف عن طريقها معنى الحب المسيحي فرفض أن يشترك مع زملائه في محاصرة إحدى القرى ومهاجمتها بل نبه أهل القرية للغزو الوشيك , فحاكمه الرومان بتهمة الخيانة ونفذوا الحكم بان ربطوه في أربعة خيول تعدو في اتجاهات مختلفة.
وهذه القصة الفرعية التي تظهر وحشية الرومان تخدم هدفا آخر للمؤلف بالنسبة للحادث الرئيسي فهي تجسيد لمعنى الفداء من جانب الجندي الذي ضحى بنفسه بدلا عن أهل القرية.. فان كانت واقعة صلب المسيح
تجسد جريمة اليهود وهم أهل دين, فجريمة تمزيق هذا الجندي تجسد وحشية الرومان وهم أهل مدنية وقانون.
وهنا يتضح لنا “عجز الدين والقانون عن إنقاذ الإنسان من ثورته المأساوية ضد حقيقة الضمير ما لم يكن الدين والقانون مرتبطين بالحقيقة ارتباط العبد بالسيد “.. كما يقول كينيث كراج الذى ترجم هذه القصة ألى الآنجليزية.
وفى مقدمة الترجمة يعلق كينيث كراج على أزمة أورشليم فىشير إلى صيحة الجماهير لبيلاطس التي وردت في الآنجيل ” خذ هذا الرجل” تحولت من الفرد إلى المجموع فأصبحت تعنى
” خذ هؤلاءالرجال.أصبح الرجل أزمة ألمجموع, وأصبح المغزى الأخلاقى للمشهد حكما بواسطة الآنسانية
وعلى الإنسانية”
ويمضى كنيث كرج فيقول إن سحر هذا الكتاب أنه يتخذ هذا الموضوع محورا له يستكشفه بحساية مرهفة، ويقدمه وربما لأول مرة عن طريق مفكر ينتمى للعقيدة الأسلامية.
فالفكر الإسلامي يميل إلى رفض فكرة صلب المسيح.
والمسيحيون يحاولون منذ قرون إثبات الصلب عن طريق الأسانيد التاريخية كتدعيم للعقيدة الدينية التي تؤمن بالصلب كطريق للخلاص.
وكان من نتيجة هذ الجدل أن غمض على الجمبع تقريبا المغزى الإنسانى لهذا الحادث.
وهذا مايبرزه الدكتور محمد كامل حسين من خلال هذه القصة.
فهو يقدم تحليلا دقيقا لآرادة اليهود على صلب المسيح.
لكنه يستكشف الأحداث من جديد في ضوء النص القرآني ويقرر أن واقعة الصلب قد حدثت علي المستوي الإنساني.. غير أنه لا يخبرنا من هو الذي صلب حقا؟ فهو طبقا للنص القرآني ليس المسيح وإنما شبيه له.
وقد تحمل هذا الشبيه عبء عملية الصلب التاريخية. فحوكم وأدين خطأ علي أنه المسيح.
وهنا يطرح كينيث كراج سؤالا هاما: متي وكيف تمت عملية الاستبدال؟
لكن القصة لم تعط أي إجابة لمثل هذا السؤال.
وجدير بنا ونحن نعرض لهذه القصة أن نستعرض معا الآراء التي ترفض الإيمان بوقوع الصلب ونحلل أبعادها لنعرف إلى أي حد وصل المؤلف في مناقشة هذه القضية الهامة.
ولعل أهم هذه الأقوال ما جاء في القرآن الكريم ” وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله وما قتلوه وما صلبوه ولكن شبه لهم وان الذين اختلفوا فيه لفي شك منه – ما لهم به علم إلا اتباع الظن, وما قتلوه يقيناً بل رفعه الله إليه وكان الله عزيزاً حكيماً”.
ومعني هذه الآية يتفق تماماً مع ما قال به بعض الفلاسفة في القرن الثاني الميلادي من أن المسيح لم يصلب وإنما صلب شخص ” يشبهه” وقد سميت هذه الجماعة بالمشبهة.
وفي القرن الرابع الميلادي قدم الراهب آريوس رأياً مختلفاً لا يعدو أن يكون اجتهاداً فلسفياً في تفسير آيات الإنجيل إذ يقول آريوس أن الله لم يتعذب في المسيح, وان المسيح الذي صلب وتعذب كان بشراً من لحم ودم.
والجسد مجرد ظل مجرد مظهر أما جوهر المسيح فهو روح الله وكلمته.
والجوهر لا يصلب ولا يتعذب، إنهم ما صلبوه إلا في الظاهر فقط.
أما المسيح الكلمة فقد رفع إلى السماء والمسيح البشر قد صلب علي الأرض، ولكن العامة تتوهم أن روح الله تعذبت في جسد المسيح, إن المسيح صعد إلى السماء روحاً وجسداً !
وقد رفضت كنيستنا الأرثوذكسية كلام آريوس واعتبرته بدعة مذمومة لأنه يفصل بين اللاهوت والناسوت, أي بين الطبيعة الإلهية والطبيعة البشرية للمسيح, بينما تقول تعاليم هذه الكنيسة المستمدة من الإنجيل أن المسيح قد صلب وقبر وفي اليوم الثالث قام من الأموات وصعد إلى السماء.
وأن لاهوته لم يفارق ناسوته لحظة واحدة أو طرفة عين.
وهذه الأقوال علي ما بينها من خلاف تتفق جميعاً على حدوث واقعة الصلب.
فاليهود يعترفون بها في الآية الكريمة “وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسي بن مريم رسول الله.
” فهم يعترفون هنا أنهم قتلوه وهم يعلمون أنه رسول الله.
فالجريمة تبقي تبعتها علي اليهود والرومان لأن تدبيرهم للصلب وتنفيذه علي هذا النحو يعطي الدليل الكافي علي أنهم رفضوا المسيح وتعاليمه الداعية إلى الحب والسلام.
وفي حدود هذا التفسير تصرف المؤلف.
فهو يقدم الوقائع السابقة للصلب كما هي بالضبط في المفهوم المسيحي.
فإذا تركنا السؤال جانباً عما إذا كان الصلب قد وقع للمسيح وركزنا علي الحدث كشيء كان مقصوداً به المسيح, فان المغزى الإنساني للقرار الذي اتخذه معاصروه ضده ومن أجل صلبه يبقي كما هو لا تشوبه شائبة.
وهذا ما يذهب إليه مستر كينيث كراج ثم يضيف “إن الشيء المهم هو إن قلة قليلة قبل “كامل حسين” هي التي قامت بمبادرات إسلامية لدراسة التاريخ المسيحي من جانبه الإنساني “
وعلي الجانب الإنساني يري الدكتور كامل حسين أن وقائع الصلب تمت.
فاليهود وبيلاطس البنطي كانوا يعلمون أنهم يصلبون المسيح, لا شبيهاً له, ولو عرفوا بالشبيه لتراجعوا عن فعلتهم.
فحقيقة الصلب بوقائعها علي هذا النحو ” تشكل مواجهة أخلاقية تنعكس عليها مشاكل الموقف الإنساني بحيث تتيح لنا دراسة الأزمة الإنسانية الشاملة “
فمدينة أورشليم التي يطلق عليها المؤلف اسم “قرية ظالمة” هي نموذج للعالم كله.
وقيافا وبيلاطس ومن معهما ليسا ممثلين لليهود والرومان فقط بل ممثلين للإنسانية كلها, حين تخاذلا أمام الرعاع وسلموا المسيح للصلب ورغم أن القصة تكشف لنا أسلوب اليهود في توزيع تبعة الجرائم الكبرى إلا أنها لا تدين اليهود كشعب أو جنس .
فهي لا تدين مجتمعاً بذاته كمجتمع بل بفعله وهي إدانة لكل من ينحرف عن جادة الصواب أو يتنكب لأوامر الضمير الذي هو قبس من نور الله.
فالمؤلف يري أن الجرائم الكبرى تقع تحت دعاوى الوطنية والقومية وحماية الدين أو الصالح العام وهذه الشعارات تمثل أوثان العصر الحديث.
لهذا نراه يحرض الأفراد علي التمرد عليها إذا تصادمت مع نواهي الضمير.
ان الموسوية ركزت علي العدل حين قالت سن بسن وعين بعين, أما المسيحية فقد ركزت علي الحب والتسامح ” فقد لا ينفع الناس ان تهديهم تفصيلا إلى الخير , بل قد يكون انجح لو علمناهم الإيمان والحب وكبح الشهوة وتركنا لعقولهم ان تنظم أمورهم في حدود مالا يحرمه الضمير.
ومن هنا تأتي دعوته الملحة لفصل الدين عن النظم الاجتماعية لأن الدين ثابت والنظم الاجتماعية متغيرة بالضرورة.
وهما أمران لا يجب ان يتعلق أحدهما بالآخر.
وواضح ان رؤية المؤلف للخلاص تقوم أساساً علي الحرية الفردية المطلقة حتى يتسنى للضمير الفردى ان يمارس دوره المؤثر, لهذا يدعو إلى وقوف الأفراد في وجه الجماعة إذا تعارضت دعوة الجماعة مع ضمير الفرد.
وهي دعوة تحسن الثقة بالضمير الفردي ولا تقول شيئاً عن الجرائم الكبرى التي تدفع إليها الشعوب بإملاء ضمير الفرد وحده وقناعاته, حين يتحول الفرد إلى ديكتاتور يسخر الجماعة لأغراضه.