الأربعاء , نوفمبر 20 2024
مختار محمود

مختار محمود يكتب : “أنت أب ظالم ومفتري”!!

باغتني صغيري ذو الأعوام الثمانية فقط غاضبًا منفعلاً: “والله إنت أب ظالم ومفتري”.

قالها مرتين أو ثلاثُا، حتى قلتُ: ليته سكت!! ثم مضى مسرعًا وأوصد باب الغرفة بكل ما من ضعف.

لم أعهد صغيري جريئًا معي بهذه الصورة، ولا أعلم أين سمع هذه المفردات القاسية، وإن بدا من طريقة نطقه لها وعصبيته أنه يدرك معانيها جيدًا.

كانت هذه الجملة الصادمة ختامًا لحوار مقتضب بيننا لم يستغرق أكثر من دقيقة، حيث أملى عليَّ مجموعة من الطلبات الترفيهية والصيفية “المكلفة جدًا”، مثل بعض أصدقائه وزملائه المحظوظين بأباء ميسورين ماديًا

فاعتذرت منه بأدب، وحاولت إفهامه أسبابي وحيثياتي، لكنه لم يترك لي الفرصة، وأنهى الحوار بيننا بالوصم المذكور أعلاه..يا له من حُكم قاسٍ جدًا!! مضت دقائق حتى هدأتُ نفسًا، ثم حاولتُ استدعاءه لأشرح له سوء صنيعه معي، ولأقدم لها أدلة وبراهين تُبرئني من اتهامه لي بالظلم والافتراء، ولكنه أصر على موقفه واستكبر استكبارًا، بل كررها مجددًا من وراء حجاب: “أيوه.. إنت أب ظالم ومفتري”. لم أتوقف كثيرًا عند نطقه كلمة:

“ظالم” في كل المرات بـ”الصاد”؛ فربما كانت قراءة لا أعلمها، كما يتفنن القرآنجية وأبناؤهم في العبث بمُحكم التنزيل هذه الأيام، أو كما يقرأ وزير الأوقاف فاتحة الكتاب، ويلقي خطبه ودروسه وعظاته التي ليست كالعظات..”عادي يعني”؛ ليست قضيتنا الآن!! تجاهل الطفل الغاضب كل شيء مثل: الرسوم الباهظة

لمدرسته برفقة توأمه وجميع الأساسيات التي لا غنى عنها، والتي لا يتم تأخيرها ولا إرجاؤها

وكذلك بعض الأمور الترفيهية الأخرى، عندما تكون في المتناول وحدود المتاح، واستسهل أن يواجهني

بالحقيقة المُرة:

“والله إنت أب ظالم ومفتري”! تمنيتُ أن لو حضر صغيري من غرفته عندما ناديتُه؛ لأخبره بما قد لا يعلم؛ فربما خفَّف حكمه عليَّ؛ تمهيدًا لإلغائه، ولكن يبدو أنه كان مقتنعًا اقتناعًا راسخًا بما حكم وقضى، ومن ثمَّ فلن يجدي معه معارضة ولا طعن ولا استئناف ولا نقض..ولكن هل لو حضر وتلوتُ عليه أسبابي سوف يستوعب ويفهم..أم لا ؟

هل سوف يقتنع ذو الأعوام الثماني بأن حالة الغلاء التي ضربت جميع مقومات الحياة، وزادت على 400%، أفقرت ملايين الأسر، ونحن منهم، وأشعرت أربابها بالعجز والهوان والذل وقلة الحيلة، وما كان مُباحًا قبل عامين مثلاً صار مستحيلاً ؟ لو فتح الثلاجة الفارغة إلا من زجاجات مياه لاقتنع ولتراجع ولاعتذر..ربما!

هل سوف يصدق هذا الطفل الثائر أن مصاريف عام دراسي واحد له في المرحلة الابتدائية يفوق كثيرًا ما تم إنفاقه على أبيه خلال جميع المراحل التعلمية التي مر بها، وأن هذه المصاريف تخضع لزيادة دورية غير مبررة في غياب تام من جميع الجهات المختصة ؟

هل سوف يتفهم هذا الطفل المتمرد أن وزير التموين –مثلاً- حذفنا من قوائم المستحقين للدعم، ونزع منا بطاقة التموين، في الوقت الذي أبقى فيه آخرين من ذوي العقارات والسيارات الفارهة والحسابات البنكية، ومن ثم فإن كل شيء نشتريه، بدءًا من رغيف الخبر، أصبح خاضعًا لمافيا لا ترحم

ولا تبقي ولا تذر؟ هل يستوعب هذا الطفل المتبرم أن شراء قدر محدود جدًا من الفاكهة -التي يحبها ويعشقها- يعتبر مغامرة محفوفة بالمخاطر، فما باله باللحوم والأسماك والملابس وزيارة الأطباء والأدوية –إن وُجدت-وفواتير الكهرباء والمياه المجنونة وما شابه ؟

هل سوف يصدقني أنني طرقت جميع الأبواب خلال الاعوام الخمسة المنقضية؛ بحثًا عن عمل إضافي يساعد في أعباء الحياة وأثقالها المتزايدة؛ وحتى لا أضع نفسي في مثل هذا الموقف، ولكن دون أي جدوى؟

لن يقتنع الطفل الغاضب بكل هذه المبررات والحيثيات، وغيرها كثير ومزعج ومخجل أيضًا، ولن تروق له، ولا لتوأمه الصامت، وسوف يُبقي على موقفه مني، ولن يصدق أننا

“أصبحنا فقرا أوي”، والقادم أسوأ؛ ما جعلني أعود إلى منزلي متأخرًا جدًا كل يوم؛ حتى لا تلتقي الوجوه؛ وحتى يقضى الله أمرًا كان مفعولاً، أو يأتي سبحانه وتعالى بفرج قريب من عنده!

شاهد أيضاً

الكنيسة القبطية

من يعيد وضع عتبات أبواب بيوتنا ؟!

كمال زاخر الثلاثاء ١٩ نوفمبر ٢٠٢٤ حرص ابى القادم من عمق الصعيد على ان يضع …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.