إبراهيم مشارة
في حوار مع المفكر الكويتي عبد الله النفيسي جرى حديث عن أم كلثوم”كوكب الشرق” حيث فاجأ النفيسي محاوره بسيل من الاتهامات كالها لأم كلثوم متهما إياها بإفساد الأخلاق حيث كانت حفلات أم كلثوم مناسبة للتحشيش من قبل المستمعين لأغانيها مستدلا على ذلك برواية لنجيب محفوظ “ميرامار “أين تقول إحدى شخصيات الرواية أن الليلة
ستغني أم كلثوم وتحيي حفلا وسيكون مناسبة للتحشيش، ولم يتوان النفيسي عن القول أن المجتمع المصري شاع فيه الخمول والكسل ومختلف الآفات الاجتماعية لتتولى أم كلثوم الضرب بصوت ناعم على الخدر
والكسل حتى ينسي الناس تحت تأثير غنائها مشاكلهم ومختلف عللهم الاجتماعية ويزيد النفيسي في كيل
الاتهامات لها كونها غنت للملك فاروق في عيد ميلاده ، فلما انتهى العهد الملكي غنت للثورة
وكأنها فنانة مصلحية وانتهازية تجري مع المال ومع الشهرة.
وغير النفسيي ممن يتفق معه في هذه الاتهامات يزيد على ذلك في تحميلها مسؤولية هزيمة حزيران
وأن سهرتها الغنائية وسمر ضباط الجيش عجل بالهزيمة الساحقة.
أم كلثوم التي ارتقت بالذوق العربي وبالغناء بعد أن كان مجرد هز بطون وكلام مبتذل
(بعد العشاء يحلى الهزار والفرفشة) أو هو أقرب إلى الابتذال ،انفتحت على الشعرية العربية في زمنها
الكلاسيكي الباذخ عبر الغناء لمختارات من قصائد فحول الشعراء كأبي فراس الحمداني وعمر الخيام وأحمد شوقي
وحافظ إبراهيم وإبراهيم ناجي و أحمد رامي وغيرهم، مسدية خدمة للغة العربية وللشعر العربي الكلاسيكي
بتقريبه من أ فهام وأذواق الناس ولسنا في حاجة إلى القول أن السواد الأعظم من الناس كانوا ينتظرون
سهراتها الغنائية في الراديو حتى وإن لم يفهموا كثيرا معاني تلك الأشعار.
وفي العهد الملكي بالذات اختارت أم كلثوم أبياتا من همزية شوقي ( ولد الهدى)
التي عارض بها همزية البوصيري (كيف ترقى رقيك الأنبياء)
وكان منها هذان البيتان:
الإشتراكيون أنت إمامهم
لولا دعاوى القوم والغلواء
داويت متئدا وداووا طفرة
وأخف من بعض الدواء الداء
فطلب القصر الملكي إسقاط هذ ين البيتين لأنهما دعوة صريحة إلى الاشتراكية في مصر الملكية ،لكن السيدة أصرت على غنائهما مع بقية الأبيات الأخرى ،فما كان من القصر إلا أن رضخ لتعنتها.
وحين اختارت أبياتا من رباعيات الخيام
حيث يقول الخيام:
سمعت صوتا هاتفا في السحر
نادى من الحان غفاة البشر
هبوا املأوا كأس الطلى قبل أن
تفعم كأس العمر كف القدر
عدلت عن قول الخيام (الحان) إلى ( الغيب) و(الطلى) إلى (المنى) لأن كلمات الخيام دعوة صريحة إلى الخمر
وهو مالا يتفق مع ذوقها وميولها وقناعاتها في الحياة وتربيتها الدينية وتمسكها بأهداب الفضيلة.
فهل يقال بعد ذلك أن السيدة كانت تدعو إلى الخدر والتهتك والانحلال الخلقي؟
وهل هي مسؤولة عن انحراف بعض السكار ى والمحششين مع العلم أنها كانت لا تقبل الغناء أبدا في مكان تدور
فيه الصهباء، كاسها وإبريقها.وكان يحضر حفلاتها صفوة رجال المجتمع من سياسيين ومفكرين وأدباء
وعلماء وفنانين وغيرهم كالعقاد وطه حسين ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم بل إن الشيخ الراحل عبد الباسط
عبد الصمد كان من أشد المعجبين بها صوتا وكلاما وأداء ا وصرح كم من مرة أنه من مستمعيها الأوفياء.
يحلو للكثيرين النظر إلى الفن وإلى الإبداع عامة من زاوية الفقه والدين مع أن أسلافنا كانوا أكثر حداثة منا
وقيموا الإبداع بمقاييس الفن لا بمقاييس الوعظ أو الأخلاق وقد استمع النبي إلى كعب بن زهير
وهو ينشده قصيدته الذائعة ( بانت سعاد) بمسجده بعد صلاة الفجر ومطلعها كله غزلي
ولم يزجر الشاعر بل تركه يكمل إنشاد القصيدة حتى وصل إلى قوله:
إن الرسول لنور يستضاء به
مهند من سيوف الله مسلول
فخلع عليه بردته وأمنه.
وهذا حبر الأمة عبد الله بن عباس يستمع بإعجاب وفي المسجد إلى قصيدة عمر بن أبي ربيعة
( أمن آل نعم أنت غاد فمبكر) والتي قال بشأنها جرير (مازال هذا القرشي يهذي حتى قال الشعر) .
وهذا شيخ الاعتزال الجاحظ يقول عن قصيدة أبي نواس(ودار ندامى عطلوها وأدلجوا)
لا أعرف في العربية مايضاهيها في حلاوة الجرس وتناسق النظم وحسن التمثيل ودقة التشبيه.
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر والحديث ذو شجون فإن هذا يجرنا إلى ظاهرة اعتزال الفنانين وتوبة الفنانات ،وكأن مسار الفن هو الضلال والانحراف ولابد أن يتخلص الفنان من الغناء في آخر عمره ويخلعه كما يخلع الرجل ثوبه
،مع أن الفن حاجة إنسانية وضرورة من ضروراتها لا يقوم بها الدين لوحده ولا العلم لوحده فلكل مجاله!
ورحم الله محمد عبد الوهاب فعندما التقى به مصطفى محمود ونصحه بالتخلي عن الغناء والتلحين قاًئلا له ممازحا وبالعامية( هو أنت حتلاقي ربنا بشوية موسيقى؟) فما كان من عبد الوهاب إلا أن قال: نعم وأدخل الجنة إن شاء الله.
فما عرف عن عبد الوهاب وهو الشاب الذي تربى على يد شوقي غير الارتقاء بالفنون واكتشاف المواهب الشابة
وفتح الطريق أمامها وما شجع ميوعة أو انحلالا أو كسلا أو فتح المجال لرداءة أيا كان نوعها
وكان هذا الثنائي عبد الوهاب وأم كلثوم فتحا في حياتنا الفنية تزامنت مع فتوح فكرية وأدبية حمل لواءها العقاد وطه حسين وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ وغيرهم.
إن الذي ساهم في انحطاط مجتمعنا ليست أم كلثوم ولا عبد الوهاب أو فريد الأطرش أو عبد الحليم أو فيروز
إنما هو الفن الردئ المنحط أداء وكلاما والذي يساير لأهداف تجارية بحتة غرائز وهوى شبابيا
وأمواج الحياة تأخذه يمينا وشمالا في حيرة وضياع ،ذلك الفن الهابط الذي يستر عواره بالكليبات التي تخلب
اللب بالصورة ومفاتن الجسد واللباس الفاخر والسيارات الفارهة ولكنه يطمره النسيان وينتهي في أمد جد قصير لأنه الفن العارض لا الباقي.
كما أن حياتنا الدينية التي شابها كثير من التسطيح والولوع بالشكل على حساب المضمون ً وعدم القدرة على الجدال بالحسنى ،مواعظ تنبه دون أن تفضح وتهدي دون أن تجرح في إهاب دعاة افتقدناهم من طراز أحمد حسن الباقوري
وعبد الحليم محمود ومحمد الغزالي والبوطي وغيرهم، فغياب الفن الرفيع والفكر النير والدين الصحيح والعلم بمفهومه الكونتي (نسبة الى كونت)) واختلاط حابلنا بنابلنا يضاف الى ذلك انهيار واختفاء الطبقة الوسطى
من مجتمعاتنا وهي مصدر الفن والفكر والعلم ومشاكل الاقتصاد والآفات السياسة ،فالاستبداد رأس الموبقات إنه يعمل على إشاعة الفساد والرداءة ليتأتى له البقاء والتسيد والتأبد وأم كلثوم بريئة من كل انحلال وميوعة فألف رحمة عليها.