بقلم جورجيت شرقاوي
«رمضان يجمعنا» هكذا شعار المحبة السائد في البلاد العربية والتي تعودت أن يسودها أجواء صافية، ولعل القضايا الجدلية تحضر بقوة خلال هذا الشهر الفضيل لتخلل المشهد علي أمل غدا أفضل نتطلع فيه لمراحل نضوج فكري أكثر اتساعا، فمنذ أكتر من عشر سنوات كانت وزارة الداخلية السعودية تحذر غير المسلمين علي أرضها بأنها
ستتخذ بحقهم إجراءات رادعة تصل لحد الفصل من العمل وطردهم من المملكة حال قاموا بالمجاهرة بالإفطار في شهر رمضان، وكانت النشرة تعمم علي كل وسائل الإعلام وكانت القرارات أكثر تشدد خالية من قيم التسامح الديني
واعتبرت نوعا من نعرات التفرقة، إذ يحاول البعض اقتران الصوم بفرضيات صارمة أو اختلاط حريات وحقوق المواطنين بمفاهيم احترام الصيام كنوع من الحجة، وشيطنة الغير صائم بأعتباره يكسر حرمة الشهر
ويقع في التهاون وتقييده بثقل مسؤولية وحزمة قوانين لا تطبق في العالم كله الا في بلاد معينة، وعلي الرغم من الشريحة التي يخاطبها المجتمع السعودي تجد التزام اخلاقي في الامتناع عن الطعام والشراب والسجائر
من تلقاء نفسها، بل الذين يجاهرون بالأفطار في عز الشهر الكريم هم من يجب عليهم الصيام، الا انها صارت معضله تصور عدم الرغبة في بقاء غير المسيحي في هذه المجتمعات الا بعصر الليمون، وبتسليط الضوء علي أفعاله بالترهيب وتقديمه في صورة منفرة، بدلا من أن تكون اختيارية نابعه من داخله، مع العلم أن
عقوبة الإفطار جهرا تتراوح بين السجن والجلد
وفي الاردن دعي البعض لغلق المطاعم نهائيا، وفي الكويت فرضت غرامه علي المجاهرة بالافطار وكل من ساعد في ذلك، وفي الصومال وجزر القمر تقوم محاكم الاتحاد الاسلاميه بمعاقبة المجاهرين بإفطارهم بالسجن، وما زالت المغرب ينضال فيها التنويري والمفكر إلى إلغاء الفصل ٢٢٢ من القانون الجنائي المغربي
الذي يعاقب على الإفطار العلني في رمضان، ويري بعض الحقوقيين لديهم انه تعسفا في استعمال حقوق الانسان في مخالفه صريحه للمواثيق الدولية غير قابلة للتصرف التي صادق عليها الحكومات شكليا وبأعتبار الصوم نفسه
حق فردي وليس مشتركا تحت مزاعم الأمن الروحي واعتبروة استفزازات لمجتمع يقدس الصوم أكثر من الصلاة وباقي الشعائر الأخري حتي تهمش القضية الاساسية وتعطي قدرا من الحريات المحدودة المصبوغة بغطاء ديني
متشدد وتحول مظهر الصيام الي أداه قمعية وترهيب فكري بدلا من ان يكون وسيله للتقوي، وليس دعوة للفحشاء كما يصورها البعض الا أن بعض الحكومات تصمم علي اختراع مفاهيم تخترق المعاهدات الدوليه
تحت شعارات الخصوصية الثقافية والدينية والاجتماعية لا تخضع كليا للمفاهيم العالمية والتي بمثابة فيروس أكثر رجعيه لمجرد أنها أعراف وتقاليد لعقود طويلة ومن يخالفها اصبح في مرمي نيران الإخلال بالآداب العامة
علي النقيض نجد حقوقيين يتصدين للمسؤولين الصينيين من منع بعض الموظفين والطلاب من الصوم وتحجم التوترات على القيود الدينية والثقافية المفروضة على الأويغور والأقليات المسلمة الأخرى في المنطقة الشاسعة المتاخمة لآسيا الوسطى بدلا من خلق بيئة يتم فيه تشجيع استيعاب الصائم، ويزيد من احتمالية صيام الأشخاص بنجاح، إذن نستنتج أن البروتوكولات الدوليه غير قابلة للتجزئة.
وشهدت المملكة في الآونة الأخيرة تغيرا جذريا، وتخفيفا في القيود السلوكية في السنوات الأخيرة
رغم بقاء قانون للذوق العام، وتداولت وثيقة صدرت عن السلطات بعدم المساس بمن لا يصومون سرا أو جهرا أعمالا بحقوق الإنسان التي يأمر الله بصونها علي حد تعبيرهم، وهو يقودنا لمفهوم فك الارتباط بين المفاهيم والفصل بين الإجهار وعدم مراعاة المشاعر وفي نفس التوقيت حافظت علي التفسيرات الدينية والفقهية
داخل مكة والمدينة، وأدركت وانتصرت لقيم المواطنة السامية فيما يسمي برؤية المملكة ٢٠٣٠، ومن الغريب أن تجد إصرارا هذا العام علي تطبيق القرار وتقبل المجتمع السعودي بعد سلسلة من التكذيب عبر السنوات الماضية
والتي اتهموا فيها جهات معادية تهدف للإثارة، فهل كان حقا تكذيب أم جس نبض ومحاولة للتغير الي الاتجاه الصحيح ونحو مجتمع منفتح وسوي، حيث نجد أن بادرة الإصلاح تعمم وتنمو وتجد تربة صالحة، هذه النبتة التي قام بها الملك الراحل عبد الله السعودي وصارت أكثر نضج علي يد سمو ولي العهد بعقليته النضجه الذي عمل علي
رفعة قومه وجعل المملكه نموذجا للمجتمع المتناسق، نظرا لمكانة السعودية في العالم والتي تقود مسيرة اصلاح عنوانها الازدهار تبدو أكثر دستوريه، إن التحول الديمقراطي أستغرق حوالي قرنا من الزمان، كما إستغرق قرونا فى بريطانيا وقرنين بعد الثورة الفرنسية، وكلها أمثله لم يكن بالإمكان إحداث تغيير الا بأشتراك شعبي، الا ان استخدم الصوم وسيلة للخطابات الطائفية الممجوجة وتوجيه التفخيخ بالغيرة الدينية
والذي اعتبرها البعض ايذاء نفسي كانت سمة داخل المجتمعات العربيه بالرغم انها ليس عملية، الا أنه تم أستخدام أبواق شعبوية فارغة للمزايدة والاستهلاك الاعلامي، مدعومة بإسطنبات للنفوذ الأمريكى البترو- دولار، وجاءت
هذه القرارات التاريخية لتفويت الفرص وتقضي علي النفوذ الوهابي وتعدل المائله وتعزز من دور المملكة في مسيرة ونواه لقيادة رابطه العالم الاسلامي للسطوع .
وفي بعض البلدان كمصر، ارتبط شهر رمضان بالمناسبة الاجتماعية التي تجلب البهجة والمشاركه الوجدانية، ولكن حاول المتطرفون إفسادها سواء اجتماعيا عن طريق الوعظ التكفيري او سياسيا عن طريق القيام
ببعض العمليات الإرهابية حتي لو كانت فردية، في محاولة لتشوية مفهوم الجهاد، فرأينا مظاهر تبدو غريبة مثل قص الشعر داخل المترو، ووقائع اعتداء علي المرأة الغير محجبه، وبعضها ارتبط بأمتناع محالّ الكشري من القيام بعملها لتعكير صفو المجتمع، ومن المعروف أن الحرية تكمن في إقامة العبادة أو تركها، ولا تسلط بفضيلة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، أساسه التخفيف والتيسير وليس ممارسة البلطجة الفكرية وفرضها علي المجتمع، بدلا من التقويم النفسي والسلوكي، تعصف بأدوات إرساء دولة القانون والمؤسسات
وتصب جام غضبهم على من يفطر فى رمضان، وشتان الفرق بين حريه غير الصائم طالما لم يؤذ أحدا والاستهزاء بالصوم من بعض العلمانيين الذي ربما يستحقون عقوبة تعزيرية تخضع للقوانين.
ومن الغريب أن تجد في مصر ميلا أكثر لمعاقبة المجاهرين بالسجن من خلال موافقة مجلس الشيوخ علي أحد القوانين التي طرحت للنقاش والتي تصل للسجن ثلاثة أيام في نهار رمضان وفرض غرامة أيضا والتضييق علي الصحافيين، وعلى الرغم من أن القانون لم ير النور نرى أن الداخلية تقوم بالتنفيذ علي نطاق ضيق
وتستند إلى ذلك في ضبط “المجاهرين بالإفطار حتى أن خلت النيابة العامة سبيل المتهمين، حيث انطلقت في السنوات الماضية حمله اعتقالات وتفتيشا عاما ٢٠٠٩ في أسوان والغردقة رغم أنها محافظات سياحية، بل إنها تصنف الفعل بجنحة تقارن بسند تشريعي غير دستوري مثلها مثل الفعل الفاضح في الطريق العام
وهو الأمر كان ينفذ في تونس أيضا، وكلها تتعارض مع الدولة المدنية ومساواة الفاطر بالفاسد الاخلاقي الذي مارس فعل الفاضح في الطريق وربما أصبح تكديرا للسلم العام!
وبدلا من أن يصبح الأمر مشاركة اختياريه وجدانية للصائم من باب التراحم والرأفه، تحول الي سياط يصلط علي رقابي الأقليات وشركاء الوطن الذين توجب عليهم التواري عن الانظار حتي علي غير رغبتهم، ويفضلون الطعام
حتي داخل الحمامات أثناء العمل، حتي يقدمون إثباتا علي سمو اخلاقهم او بحثا عن رضاء أو خوف من الحساسية الزائدة للصائم بصرف النظر عن الغضاضه والتسلط الفكري حتي تحولت الي قاعدة راسخه ترهب المجتمعات، خشيه من النفور والمقاطعة بدلا من الإختيار النابع من الداخل، فصار المتواري يوصف بالخلوق الحسن يضرب به المثل وكأن الجميع أصبح مقيدا بنفس المفهوم وعليه إتباع نفس القاعدة التي بنيت علي أساسيات عاطفية
نابعة من الإحساس المائل للخوف أو الشعور بالرثاء. ومن المؤسف أن تعزز دار الإفتاء المصرية في السابق بأطلاق يد الداخلية في التدخل في الحريات وتقويض القبضه الأمنية وتكميم سجناء الرأي، حيث أصدرت بيانا عاما يتهم المجاهر بالإفطار في نهار رمضان بأنه مستهتر وعابث بشعيرة عامة
ودعت الي التحقيق مع المفطرين والتدخل في شؤونهم عما اذا كان لديهم عذر مقبول بالقرائن من عدمه
وفي عام ٢٠١٩ اقترنت دار الافتاء المجاهر بالأفطار بالتعارض مع الحرية الشخصية للإنسان، واعتبرتها نوعا من الفوضى والاعتداء على قدسية الدين
اما في عام ٢٠٢٢ ومع قيادة مسيرة تجديد الخطاب الديني، أصدر فضيله الدكتور شوقي علام تصحيحا بالاكتفاء بالتوبة الشخصية دون اي إضافات اخري، ولم تعد اللجان الأمنية مفعله بالصورة التي كانت عليها التي وصلت الي قيادة رؤساء الاحياء ونوابهم لحملات واسعة علي المقاهي كما كان الحال في عام ٢٠١٦
وفي النهاية يظل الشهر الكريم محببا لقلب كل انسان تكثر فيه الفضائل ويرتقي الانسان بروحه ليدخل في مدرسة تربوية ذاتية رفيعة المستوي ولكن المعركة الفكرية طويلة الأمد حتما ستنتصر للمواثيق الحقوقية
وتحتكم لتعديلات علي قوانين تحمي من التمييز الديني مع الإنتهاء الي حزمة أكثر مرونه تعزز من الحقوق المدنية والسياسية وتؤول الي” فلترة عقلانية بدلا من الاكتفاء بتنقية الجسد فقط من سموم الطعام.