ماجد سوس
من منّا لم يقف يوماً حائرا أمام قصة حنانيا وسفيرة، المذكورة في سفر أعمال الرسل الزوجان اللذان ماتا حين كذبا على روح الله القدوس في بداية تكوين الكنيسة، وأغلقا أحشائهما عن احتياجات إخوتهم من شعب الله.
لم يجبرهما أحد على تقديم أموالهما وأملاكهما، ولكنهما فعلا هذا بكامل إرادتهما.
وحين واجههما بطرس الرسول بكذبهما توفيا فورا، واتفقا غالبية الشراح بأن الرهبة تملكتهما وأصيبا بنوبة قلبية حادة فقدا بها حياتهما وأبديتهما.
كان مؤمنو الكنيسة الأولى يعيشون معاً في شركة ومحبة حقيقية، لا يُعرف منهم مَن الغني ومن الفقير، فيعلمنا الكتاب أن جميع الذين آمنوا كانوا معا، وكان عندهم كل شيء مشتركا (أع ٢: ٤٤).
وعندما أراد التلاميذ تأسيس خدمة الموائد بعد القداسات أسندوها للشمامسة على أساس انها تدار بفكر كنسي روحي وكأنها امتداد لليتوروجية في شقها المستيكي وهو اتحاد المؤمنين في المسيح يسوع بالإفخارستيا
ثم بشركة محبة مع المؤمنين وقد عُين لهذه الخدمة أحد أعظم شمامسة الكنيسة ورئيسهم وهو إسطفانوس
المملوء من روح الله وحكمته وأحد أبطال الإيمان، الذي وهو مسؤول عن خدمة الموائد، قدم واحدة من أعظم العظات الروحية في التاريخ.
وبهذا صار من يسند إليه هذه الخدمة عليه أن يقدم حياته نموذجا وقدوة كأسطفانوس مجاهدا أن يحيا كحياته.
هذا وقد حرص القديس أغناطيوس الشهيد، أسقف أنطاكية، على مائدة الأغابي واعتبرها جزءاً أساسيا من حياة الكنيسة وأعتبر أنها من أهم اختصاصات الأب الأسقف.
وأعتقد أنه رأى فيها حقلا جيدا للكرازة بالعمل والحق لا بالكلام واللسان (١ يو ٣ :١٨) والقديس ترتليان اعتبر مائدة الأغابي تعبيرا عن محبة المسيح واهتمامه بالفقراء.
قال لي أحد الأشخاص إنه عندما قدِمَ من مصر ذهب إلى أحد الكنائس في إيبارشية لوس أنجلوس في أيام الصيام الكبير، وبعد انتهاء القداس خرج من الكنيسة فوجد “سندوتشات فلافل” موضوعه على مائدة طويلة.
أخذ وقدم لأطفاله وزوجته وبعد أن بدأ يأكل جاءته إحدى السيدات قائلةً: نريد منك ثمن السندوتشات، خمس دولارات للواحد، وكان هذا مبلغا كبيرا في ذاك الوقت، فتسمر الرجل في مكانه وبدأ يبحث في جيوبه في خجل شديد وذهب إلى سيارته وهناك توسل إلى الله أن يخرجه من هذا المأزق وقرر إرجاع باقي السندوتشات التي لم يأكلها أولاده
حتى وجدت زوجته شيكا كانت قد تركته في حقيبتها رغم أن حسابهما لم يكن فيه الكثير.
صدمتني هذه القصة واهتزت معها مشاعري.
أنه بالفعل موقف محرج للغاية للرجل أمام أطفاله، وأمام الناس، فعليه اختياران لا ثلاث لهما، إما أن يترك الكنيسة فورا بعد كل قداس حتى لا يرى أولاده وهم ينظرون إلى الطعام وإلى الأطفال الآخرين وهم يأكلون وإما أن يتوقف عن المجيء نهائيا إلى الكنيسة وقد يفقد إيمانه فهي في نظره كنيسة القادرين الأغنياء.
لا يمكنني أن أقبل على الإطلاق تلك الحجج الواهية التي تتحدث عن احتياج الكنيسة أو الخدمة إلى المال.
إن يسوع هذا الذي تؤمنون به، وهو الخالق، لم يكن يوماً لديه من المال ما يسدد به ضرائبه ولم يكن له مكاناً لا ليسند فيه رأسه.
تخيلوا معي لو أن يسوع كان قد أخذ ولو دينارا واحدا من الآلاف الذين أطعمهم وأشبعهم متحججاً بأنه يريد أن يصرف على خدمته وعلى رسالته لكان حجة الآن لتأخذوا أموالا من أولاده.
وصلت إلى الولايات المتحدة في آواخر التسعينيات، وقتها قادني الرب للصلاة والخدمة في كنيسة في منطقة إيرفاين بجنوب ولاية كاليفورنيا وكان الأب الكاهن لم يمر على رسامته سوى سنة واحدة أو أكثر قليلا.
كان – أطال الله عمره – يملك في داخله أحشاء رأفة ومحبة عجيبة، فقد قرر أن تكون خدمة الأغابي مجانية تماما
بل ورفض أن يوضع صندوق بجانب الطعام لئلا يخرج الغني مالاً من جيبه ولا يستطيع الفقير فعل هذا فيمتنع عن الطعام، حتى مكتبة الكنيسة كان يشدد على أن يكون كل شيء مجانا لمن لا يستطيع مكان يردد دائماً أن الكنيسة
أم والأم لا يمكن أن تأخذ مقابل ما تقدمه لأولادها.
قال لي هذا الأب الورع أنه كان يتمنى أن يكون الطعام حتى في المعرض السنوي للكنيسة مجاناً، لكن إلحاح الخدام أن يترك لهم هذا اليوم جعله يوافق على مضض مشترطاً عليهم أن يقدموا الطعام مجاناً لأي شخص يشعرون أنه يتردد في دفع المال أو ينظر إلى الطعام وخاصة من الأطفال.
زرت هذه الكنيسة مؤخرا وجدت أنها أصبحت كنيسة كبيرة وامتدت خدماتها وأنشطتها ومبانيها وزاد شعبها جدا
بل وقد حصلت على تراخيص بناء كنيسة أكبر بملايين ومازالت تقدم الطعام مجانا ومازال الله يملأ خزائنه.
أما الذي يستحق أن أقدم له باقة زهور فهو أبونا المطران النشيط الوقور صاحب النيافة الأنبا سيرابيون، أطال الله عمره، مطران كرسي لوس أنجلوس وهاواي الذي حرص من اليوم الأول الذي أسند له فيه قداسة البابا رئاسة مجمع رهبان دير القديس العظيم الأنبا أنطونيوس ببرية كاليفورنيا أن تكون واحدة من قراراته الأولى أن يقدم الطعام مجاناً لكل الزائرين في أي يوم في السنة، بل وحتى في عيدي الأنبا أنطونيوس والأنبا موسى الأسود الذي يحضره عشرات الآلاف.
ومنذ عدة سنوات طلب نيافته من جميع كنائس الإيبارشية أيضا الحرص على تقديم الطعام مجانا بعد القداسات إلا ان البعض تمرد ولم يلتزم بهذا القرار، ناسين متناسيين أن الأسقف وضعه الله في الكنيسة ليكون الناظر والمدبر لأنه هو من سيُسأل أمامه عن الغني والفقير والعاثر والمعثر.
ولا سيما أن هذا المطران مشهوداً له بالحكمة وسداد الرأي.
لذا أهيب بإخوتي الخدام وآبائي الكهنة المضي في الطريق الذي رسمته لنا الكنيسة منذ نشأتها وأن نسلك جميعا في خضوع لروح الله وللكنيسة.
أما احتياجات الخدمة ومصروفات الكنيسة فهذه كلها تزاد لكم.
واعلموا أن روح الله لا يعمل إن لم يكن لنا فكر المسيح وكنيسته التي كانت تعيش بقلب واحد، فكر واحد متشبهة بعريسها الذي بذل نفسه لأجلها.
ومن له أذنان للسمع فليسمع.