الأحد , ديسمبر 22 2024
الكنيسة القبطية
الراهب القديس أبونا مكاريوس أنبا بولا

فى ذكرى مرور ٢٥ عاماً على نياحة راهب قديس

منتصف ليلة شديدة البرودة ، استُدعيت كطبيب لجراحة العظام من سكن أطباء مستشفى الغردقة العام إلى حجرة الإستقبال لمباشرة إصابة طارئة ، عبرت الشارع إلى المستشفى حيث يقع على الجانب المقابل ليشد إنتباهى منظر راهب ينام داخل سيارته ( الفولكس ) ، إقتربت بطرقات خفيفة على شباكها وفوجئت أنى أوقظ أبى الراهب أبونا مكاريوس الأنبا بولا !! .

لم يجد الراهب القديس إلا سيارته لينام بها إنتظاراً لعلاج أحد الآباء الرهبان بالمستشفى

ووجدتها أنا فرصة لا يمكن أن تعوض لأصطحب هذا الطوباوى إلى حجرتى بالسكن ليبيت ليلته معى

وإمتدت الليلة إلى إسبوع كامل مر كأنه الحلم ، أضاف إلى رصيدى من البركات كنزاً لا يضاهيه

كل كنوز العالم ..كنت أترك له الحجرة معظم النهار ، وأخرج معه ساعات طويلة أثناء الليل

نستمتع بالطبيعة الساحرة مع نسيم البحر والفضاء المحيط ، ذلك الزمن المبكر من مطلع الثمانينات

وقبل إزدحام المدينة الساحلية الجميلة ، ومع وجود أطباء آخرين يشاركوننى السكن

لم يلحظ أحد قط وجود هذه البركة معى ، فقد كنت المسيحى الوحيد بين إثنتى عشر طبيب نقضى

فترة تكليف بعد حصولنا على إجازة تخصصاتنا الطبية ( الماجستير ) على إختلافها وتنوعها

صلينا المزامير معاً ، وقضينا الساعات بين آيات الكتاب المقدس ، وأخذت إرشاده فى أمور شتى

ولكن أكثر ما لمسنى منه هو قوة النور فى وجهه ، وسلطان ذلك الإشعاع على الجذب

فما كنت أقاوم النظر قط فى وجهه ، وفى ذات الوقت ما كنت أستطيع الإبقاء على هذا إلا دقائق

فأطرق الرأس وأغمض العين ، فالنور فى وجهه الملائكى لا يقاوم ويرغمك أن تغمض العين من قوته فى آن

تماماً كما كان فى وجه موسى كليم الله

لقد اختبرت هذا أيام خلوة كنت أقضيها بدير الأنبا بولا مطلع الشباب ، كان الراهب يقف على ساقه

الواحدة متكئاً على الساق الصناعية الأخرى ساعات تسبحة منتصف الليل ، ممسكاً بشمعة

ينعكس نورها على وجهه الجميل

فتحتار هل يضيء وجهه الشمعة أم هى الشمعة التى تنير وجهه !! ؟

ولا تجد إجابة إلا أن ذلك النور من ذاك الشعاع ، وكلاهما ينبع من قلب طاهر يعرف كيف يشرق

بنور المسيح ورأيت ساقه الصناعية لأول مرة ، واختلست لمسها وهو نائم فى سريره المجاور لسريرى

لمستها بإيمان نازفة الدم ، فلا بد أن لها بركة وقوفه الساعات أمام الله فى الصلاة

وفى الصباح فاجأنى : ( أعتذر أن ساقى تزحم حجرتك ) قالها مبتسما إبتسامة حلوة ثم أردف :

( مش كفاية مستحملنى ، كمان هتستحمل رجلى ) .. !! أبى ، كم أتمنى لو حملتها فوق رأسى ساعات الليل التى تخلعها عنك ، فلا بد أن لها بركة خاصة .. وما نطقت بهذا حتى تنهد طويلاً ثم راح يحكى :

( كنت مجنداً فترة حرب الاستنزاف ما بعد ١٩٦٧ ، وفى مدينة بورفؤاد حيث كنت أقضى فترتى ، دخلت تائهاً

أو قل أتاهنى الله إلى حقل ألغام ، راحت تنفجر لغماً تلو الآخر ، لا أتذكر عددها

ولكنى أتذكر أن آخرها قد أصابنى وصوته الحلو يهمس فى أذنى – “ لقد حفظتك منها كلها

ولكنى سمحت أن أترك آثار جراحاتى فى جسدك حتى لا تنسانى ”

بعدها رحت فى غيبوبة لأستيقظ فى المستشفى وقد بترت ساقى من أعلى الركبة مع الإبهام

ووسطى وسبابة يدى اليمنى .. ) ..أطرقت خجلاً وتأثراً : ولا بد أن لها بركة يا أبى ، أعتذر أننى أتطرق إلى أمر شديد الخصوصية كهذا

أبدا يا حبيبى ، هكذا علق : المهم أن نتعزى ، فلربنا خطة مع كل منا ، وجراحاته فى جسدى هى وعده

بأن أكون فرحاً فى آلامى ، وهى سر تعزيتى التى حفظت لى نذرى ..الآن عرفت يا ربى سر سلامه

وسر النور فى وجهه ،

وماذا بعد أن يسمعك ويكون كليمك ؟ وماذا بعد أن تعمل أصابعك فى جسده ؟ أصابعك ليست لتشوية الجسد

يا إلهى ، بل هى لجمال النفس ونقاء الروح ، وما أجمله من روح ، وما أرقها من أصابع !!

سمح له ربنا – له المجد – أن يخدم فترة بمدينة الإسماعيلية مع أبيه المتنيح أنبا أغاثون أسقفها ورئيس ديره

كما خدم بمقر الدير بالقاهرة فترة ما قبل نياحته ، وما اقترب منه أحدُ إلا وأنجذب لصورة المسيح

فى هذا الراهب الشاب النقى جداً ، الوديع وداعة الحملان ، ينساب صوته فى التسبيح عذباً رخيماً

وفى الكلام بنبرات الرقة والنعمة ، وتعرف عليه الكثيرون وشهدوا بنور المسيح فى وجهه ولمسوا جراحاته فى خدمته التى انحنت حتى غسل الأرجل ..وكم كانت أيام إشراقه على أرضنا قصيرة جداً

ورحل عن عالمنا الفانى إلى مساكن النور فى ٢٤ ديسمبر ١٩٩٨ بعد فترة مرض قصيرة

وبعد أن أخبر المقربين منه بيوم وزمن نياحته ، فقد كان النور عنده قوياً ليكشف له عن أسرار الله معه

ولتبقى سيرته معنا مثالاً لأبناء سائح القرن الرابع الذى سكن الجبال مجهولاً حتى كشف النور عنه

وأعلن للأنبا أنطونيوس أن أنبا بولا أول السواح سيرة لا تنتهى ، بل هى حية فى أولاده

( الصورة فى أكتوبر عام ١٩٨٧ ، أمام باب قلاية الراهب القديس أبونا مكاريوس أنبا بولا ، معه ، ومع المتنيح القديس أبونا أرسانيوس عزيز ، والمرحوم البار المهندس ميشيل وليم ، لقد رحل ثلاثتهم ، ولم يتبق منهم إلا الرابع يحتاج توبتهم وقداستهم حتى يستحق أن يكون معهم )

٢٤ ديسمبر ١٩٩٨ ديسمبر ٢٠٢٣

طبيب يسرد الواقعة

شاهد أيضاً

مصر تخطط لتوقيع اتفاقيتين مع البحرين والإمارات لتقليص زمن الإفراج الجمركي

قال نائب وزير المالية المصري للسياسات الضريبية والمشرف على مصلحة الجمارك، شريف الكيلاني، إن مصر …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.