خلال الذكرى الخامسة والأربعين للقاريء الشيخ مصطفى إسماعيل التي استضافتها ساقية الصاوي مؤخرًا..تحدث الملحن السوري الكبير محمد علي بحري -عبر تقنية الفيديو- عن القاريء الراحل بإكبار وتقدير شديدين، منوهًا إلى الجوانب الإبداعية والعبقرية بالمقاييس الفنية والموسيقية في تلاواته، وكيف أنه أتى بما لم يأتِ به سابقوه ومعاصروه في فنون الأداء..
“الفيديو متاح عبر الإنترنت”.
في زمن الشيخ مصطفى إسماعيل 1905-1978..تعلق به كبار أهل الفن وارتبطوا معه بصداقات وطيدة، وكانوا يرونه معجزة فنية آسرة ومتفردة وغير مسبوقة.
موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب 1902 -1991 قال عن الشيخ مصطفي إسماعيل : “..يفاجئنا دائمًا بمساراتٍ موسيقيةٍ وقفلاتٍ غير متوقعة, وهو كبيرٌ جدًا في موهبته، وكبيرٌ في إدارة صوته, وله جرأة في الارتجال الموسيقي والصعود بصوته إلى جواب الجواب، بشكل لم نعرفه في أي صوت حتى الآن؛ لذلك ليس غريبًا
أن أقول: إنه أعظم مُقرئي القرآن الكريم علي الإطلاق”.
يستطرد “عبدالوهاب”: “..كان يتمتع بمقدرة فائقة في تركيب السلالم الموسيقية.. أربعين سنة فشلت في أني أضبط أذني مع صوته؛ لأن عنصر المفاجأة كان عنده في كل آية من البداية للنهاية، فإذا ما حاولتَ اللحاق بصوته يفاجئك حتي في حالة تكراره للآيات، ويكفينا سماعُه في قوله تعالى:
“الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة.. كذبت ثمود وعاد بالقارعة”.. عندها نكتشف عظمة الأداء والمفاجآت”! السيدة كوكب الشرق أم كلثوم 1898-1975 قالت عن الشيخ مصطفى إسماعيل : ” ينتابُني الذهولُ عندما أستمعُ لهذا الرجل .. إنه أعظم صوت على الإطلاق.. بل هو تخت موسيقي كامل”.
العميد الأسبق لمعهد الموسيقى العربية بالقاهرة الدكتورة رتيبة الحفني 1931-2013 وصفت القاريء الراحل أيضًا بأنه “معهد موسيقي متكامل”! حالة التوحد بين نجوم التلاوة وأهل الفن –خلال هذه الحقبة- لم تكن غريبة،
ولم تكن تبعث على الريبة ولا تثير الشك من قريب أو بعيد، ولا يتم إطلاق الإدانات العشوائية على هؤلاء أو هؤلاء.
كان المجتمع المصري لا يزال معافىً سليمًا، لم تتوغل فيه التيارات الكارهة للإسلام، المتخاصمة مع قيم الحق والخير والجمال.
كان الشيخان على محمود 1878 -1943 ومحمد رفعت 1882- 1950رحمهما الله يتمتعان ببعض هذه مكانة الشيخ مصطفى إسماعيل أيضًا.
كان الشيخان الجليلان يرتبطان بعلاقة صداقة وطيدة مع أهل الفن في زمانهما.
الشيخ علي محمود -الموصوف بأنه امتلك حنجرة حازت كل أدوات الطرب- قرأ القرآن الكريم بدار الأوبرا الملكية في ذكرى زواج الملك فاروق، وكان أستاذًا لزكريا أحمد وأسمهان وغيرهما.
الشيخ محمد رفعت -المعروف بقيثارة السماء- درس موسيقى بيتهوفن وموتسارت، وكان يحتفظ بالعديد من الأوبريتات والسيمفونيات العالمية في مكتبته، وكان الراحل محمد عبد الوهاب ضيفًا دائمًا عليه، مفتونًا بعبقريته الربانية.
القاريء الشيخ محمد حسن النادي 1923- 1961 رحمه الله، كان قارئًا عظيمًا ومبتهلاً من الطراز الأول، وكان أيضًا عضوًا بمجلس إدارة المعهد العالي للموسيقى العربية! وبناء على ما تقدم من سرد تاريخي موجز ومختصر،
وتوضيح خاطف للعلاقة الوطيدة التي كانت تربط أهل القرآن الحقيقيين مع الطبقة الأولى من الفنانين من أصحاب الذائقة الرفيعة والفطرة السليمة..فإن هناك سؤالاً يطرح نفسه بقوة وهو: لماذا تتجاهل دار الأوبرا المصرية؛
باعتبارها المركز القومي الثقافي وقلعة الثقافة الرفيعة في مصر، إحياء ذكرى أكابر القراء المبدعين على غرار المذكورين آنفًا وغيرهم من المبتهلين والمنشدين الاستثناءيين في تاريخ مصر، مثل: طه الفشني ونصر الدين
طوبار والنقشبندي رحمهم الله، وتستضيف أهل الاختصاص والعلم الأكاديمي وما أكثرهم من معاهد القراءات والموسيقى، لإبراز الجوانب الفنية والإبداعية عند كل قاريء ومبتهل ومنشد، وسط حضور كبير من جمهور الأوبرا، من فئات مختلفة وطبقات متنوعة.
مثل هذه الخطوة لو تم اتخاذها من جانب مسؤولي وزارة الثقافة ودار الأوبرا المصرية فإنها سوف تحقق أهدافًا عدة، من بينها: رفع درجة الوعي والتثقيف عند جمهور مستمعي القرآن الكريم، بعيدًا عن الانطباعات الذاتية والشخصية التي تفتقد دومًا إلى الجدية والمصداقية والعقلانية أحيانًا، وتعريف الأجيال الجديدة بجيل عظيم من قراء
القرآن الكريم أسس دولة التلاوة المصرية وطاف بها العالم، حتى قيل يومًا: “إن القرآن الكريم نزل في مكة وقُريء في مصر”، وخلق وعي قرآني سليم وناضج، والحفاظ على ما تبقى من إرث عظيم لدولة التلاوة المصرية وتطهيره مما شابه في السنوات الأخيرة؛ لأسباب عديدة، والبناء عليه من جديد؛ أملاً في استعادة الهوية المصرية المفقودة في فنون التلاوة، وإحياء دولة التلاوة والإنشاد التي كانت يومًا ما واحدة من أذرع القوة الناعمة المصرية، ويكفي
أنها لا تزال حديث العالم من حولنا ومثار احترامه وتعظيمه، كما تابعنا في احتفالية ساقية الصاوي الأخيرة.
وليطمئن مسؤولو الثقافة والأوبرا نفسًا، ولا يخشوَا من إقامة مثل هذه الفعاليات القرآنية؛ فلن يجرؤ أحد من أدعياء التحرر والتحضر والاستنارة على اتهامهم بـ”أسلمة الأوبرا” مثلاً، فهل كان عبد الوهاب وأم كلثوم
وزكريا أحمد وأسمهان ورتيبة الحفني إسلاميين، أو كانوا أعضاءً نشطين في أيٍّ من التنظيمات المتشددة؟
المدرسة القرآنية المصرية بأصولها وضوابطها ودعائمها تواجه شبح الاندثار والضياع والفوضى الممنهجة، وسط تخاذل الجهات الأصيلة والمسؤولة عنها وتقاعسها، وتبقى دار الأوبرا المصرية بما تملكه من مقومات وإمكانات وقدرات كبيرة قادرة على إنقاذ ما تبقى منه، وتعيد بناءه على أساس سليم وقويم..جرَّبوا ولن تخسروا.