أخذت الصورة المرفقة العام الماضي من الموقع الأثري الروماني “أبو شعر”، ما نراه في الصورة أطلال من ركام ودبش وحجارة، أعاد علماء الآثار ترتيبها لتذكرنا بالشكل الذي كان عليه المكان في الماضي.
يعود عمر هذا الموقع الأثري إلى ما يقرب من 1700 سنة مضت، حيث شيده الرومان كنقطة مراقبة عسكرية على الطريق الساحلي الذي تحدثنا عنه أمس في مقال “ڤيا نوڤا هادريانا”.
ومن أسفٍ أن معظم الجغرافيين والجيولوجيين والأثريين في مصر لا يعرفون هذا المكان ولا يتناولونه بالبحث والدراسة أو الزيارات الميدانية.
وقد ذاع صيت هذا الموقع الأثري في السنوات الأخيرة حتى أصبح حديث المؤتمرات العلمية في الشرق والغرب لعدة أسباب أهمها التصويب العلمي لخطأ تاريخي وأثري يتعلق باسم الموقع ووظيفته.
فقد تراكمت عبر القرون الماضية معلومات من العصر الروماني عن ميناء مصري شهير على البحر الأحمر يربط مصر بالهند والجزيرة العربية في العصر الروماني حمل مسمى “ميوس هرموس”.
وطيلة عقود طويلة منذ عشرينيات القرن 19 وحتى سنوات قريبة كانت الخرائط العالمية تكتب على هذا الموقع مسمى “ميوس هرموس”.
لكن اكتشافا أثريا غيـَّر وصحح المعلومات المتوارثة على النحو التالي:
الموقع الذي أمامنا في الصورة ليس له أية بنية أساسية للموانئ والرسو والسفن والتجارة، وهو مجهز لثكنات عسكرية ونقاط مخافر ومراقبة.
وبالتالي فهو “حصن” وليس “ميناء” ولأن أقرب جبل قريب منه هو جبل أبو شعر، وبئر مياه أبو شعر .
فإن الاسم الصحيح يجب أن يكون “حصن أبو شعر“.
الميناء العظيم الشهير “ميوس هورمس” يقابل اليوم ميناء “القصير القديم”.
وقد تأكد ذلك بعد الكشف عن حواجز أمواج ومراسي للسفن تبين أن هذا الميناء يقع هناك في الجنوب عند القصير وليس هنا في الشمال عند الغردقة.
دعنا نوضح معلومة جغرافية مهمة، وهي أنه حري بنا أن نسمى المكان باسمه الكامل”حصن أبو شعر القبلي”.
فجبل “أبو شعر” القريب من المكان له امتداد طولي كبير من الشمال للجنوب، ومن ثم يفرق البدو بين جبل أبو شعر “البحري” الواقع شمالا قرب رأس غارب، وجبل أبو شعر القبلي الواقع جنوبا أمام الجونة والغردقة.
أما مسمى “أبو شعر” فالأرجح أنه مرتبط بوجود الأشجار والشجيرات في الوادي أو الجبل.
ومن عادة البدو أن يسموا الجبل أو الوادي أو البئر الذي تنتشر فيه الشجيرات والأشجار باسم “أبو خشب” أو “أبو خشيب”، و”أبو شعر”.
ومن زيارتي الميدانية سألت عددا من البدو فأوضح لي بعضهم أن الموضوع لا علاقة له بالأشجار في الوديان بل القصة مرتبطة أساسا ببئر المياه القريب المسمى بير أبو شعر.
وحين يأتي البدو لورود المياه يجدون حول البئر أغصان نباتات وبقايا شجيرات تختلط بالمياه عند خروجها فيسمونها “أبو شعر”.
نعود إلى الحصن الذي يظهر في الصورة المرفقة.
تبلغ أبعاده في المجمل 100 متر طولا و 100 متر عرضا.
وكانت تحيط به أسوار سميكة تهدمت الآن، كان ارتفاعها نحو 5 أمتار.
تمكن علماء الآثار الأجانب من إعادة رسم وتصوير الحصن فحددوا فيه:
البوابات؛ مخازن الحبوب؛ حمَّام روماني، كنيسة؛ اسطبلات للدواب، خندق محصن. واكتشف علماء الآثار 12 برج أو “طابية” على أسوار الحصن ، ونحو 60 ثكنة عسكرية للجنود، فيما يعني أنها كانت تسع لنحو 200 جنديا.
أما أهم الكشوف التي توصلت إليها البعثات الأجنبية فهي نقوش باليونانية واللاتينية تبين أن الحصن كان يضم وحدة عسكرية متنقلة من الخيَّالة أو الجمَّالة.
الغريب في هذا الحصن وجود كنيسة للصلاة. وهو امر غير متكرر في الحصون العسكرية الرومانية.
وبعد دراسات عديدة، توصل علماء الآثار إلى أنه لأسباب غير واضحة تخلى الجيش الروماني عن الحصن سلميا، فهجر الموقع.
وهنا تغيرت الوظيفة التاريخية للحصن بشكل فريد ومثير.
ففي هذه الفترة من القرن الخامس الميلادي كانت حركة الرهبنة من وادي النيل إلى البحر الأحمر قد انتشرت
ولاسيما في الديرين الشهيرين “الأنبا بولا” و” الأنبا أنطونيوس” .
هذا الحصن المجهز المحمي من الرياح والبحر وآمن من كل غوائل الطريق أصبح محطة جاذبة للرهبان المسيحيين الذين اتخذوه مقرا لهم.يرجح العلماء أن عدد هؤلاء الرهبان كان في حدود 100 راهب وناسك.
وبالتالي فإن الكنيسة التي تتوسط حصن أبو شعر لا علاقة لها بالحامية الرومانية بل أسسها الرهبان
في وقت لاحق.
وهي كنيسة معادة الاستخدام والتدوير، إذا كانت في الأصل المبنى الإداري الرئيسي لضباط الحصن.
وألحق الرهبان بالكنيسة مقبرة ضمت رفات القديسين.
ولم يتمكن العلماء من تحديد التاريخ الذي هجر فيه الرهبان حصن أبو شعر بعد أن حولوه إلى “دير أبو شعر” ثم هجروه لاحقا.
على هذا النحو تم تصحيح الخطأ الذي دام قرنين من الزمن، وأصبح ما عرضناه هنا هو “حصن أبو شعر“.
أما الميناء الشهير “ميوس هرموس” والواقع في القصير فله قصة أخرى.
دعنا نجرب أن نحكي قصة “ميوس هرموس” في مقال مقبل !