الأحد , ديسمبر 22 2024
أم حرجل
الدكتور عاطف معتمد

أم حرجل !

في مثل هذا الشتاء من عام 2021 أخذت الصورة المرفقة من صحراء مصر الشرقية.

كنت أساعد اثنين من طلابي في الدكتوراه.

وكان هذا هو يومنا الرابع في رحلة لاقتفاء أثر المواقع الأثرية في العصر الروماني.

في الصورة أحد رجال العبابدة، وهو دليلنا الميداني وسائق سيارة تعرف دروب الصحراء.

طلبت منه أن نأخذ هذه الصورة بعد أن حدثنا عن نبات “الحرجل” وفوائده في “طب الصحراء”.

يعرف بعض أهل المدينة من محال العطارة اسم “الحرجل” وفوائده المتعددة لعديد من الأعراض والمشاكل الصحية.

وقد أخبرنا دليلنا العبادي أنه بفضل هذا النبات فإن الوادي كله يحمل اسم “أم حرجل“.

تنتشر البادئة “أم” و “أبو” قبل عديد من أسماء الأماكن في الصحاري العربية.

وهي تعني المكان الذي تنتشر فيه ظاهرة بعينها، أو المكان الذي عنده أفضل تمثيل وتوضيح لنبات أو حيوان أو نوع من الصخور، كما أنها تعني أصل أو منبع أو منشأ.

ينبع وادي أم حرجل من قمم جبلية من صخور نارية قريبة من البحر الأحمر، ثم يندفع غربا لينضم إلى وادي خريط.

وخريط لدى البعض أيضا اسم نبات، ولدى البعض الآخر مظهر طبوغرافي، وهو أحد أشهر أودية صحراء مصر الشرقية، وينتهي بدوره إلى نهر النيل عند كوم أمبو، ذلك السهل الفيضي الاستثنائي الذي انتقلت إليها قرى أهلنا في النوبة بعد تشييد السد العالي في بحيرة ناصر وتهجيرهم من موطنهم التاريخي.

يعتقد البعض خطأ أنه يمكننا دراسة كل جزء في الأراضي المصرية في معزل عن الجزء الآخر، فيما يعرف بالنزعة الإقليمية، لكن تجربة وادي أم حرجل تكشف عن خطأ ذلك، وتكشف عن صوابية الدراسة التكاملية للأراضي المصرية.

فقد بدأنا يومنا في الصباح الباكر من وادي الجمال قرب مرسى علم، ومنه إلى ضريح سيدي أبو الحسن الشاذلي، ثم إلى وادي أم حرجل الذي يلتحق بوادي خريط المرتحل في نهاية المطاف إلى وادي النيل في أسوان.

لدينا هنا نموذج كلاسيكي لمظهر سطح الأرض في الصورة التي يجلس فيها دليلنا العبادي الكريم، فأمامه نبات الحرجل الذي يعتبره أبناء العبابدة وأهل الصحراء “صيدلية مجانية”، وفي الخلفية التلال النارية لجبال البحر الأحمر.

نحن هنا في أقدم بقعة للصخور النارية، غير بعيد عن جبال كالأعلام في جغرافية مصر وجيولوجيتها، ولا سيما جبال نجرص، حفافيت، وسيكيت .تنتشر هنا أيضا جغرافيا مقدسة في اللاندسكيب.

بعضها قديم من أيام قدماء المصريين، وبعضها حديث مرتبط بالإسلام.والمواقع الصوفية هنا لا تقف حصرا عند سيدي أبو الحسن الشاذلي الشهير عند سكان وادي النيل وأهل الصحراء بل لوجود مقامات أخرى أقل شهرة وإن لم تكن أقل أثرا في نفوس أبناء العبابدة.

المقامات التي تنتشر هنا فريدة في أنها أنثوية الهوية.

فأبناء العبابدة والبشارين لديهم تقدير للمرأة في هذا الجانب وليس لديهم تحيز ذكوري لأصحاب المقامات والكرامات.

فعلى مسافة رمية قوس من الصورة التي نراها، يقع مقام “الست أم غنام”، وبعدها مقام “الست حليمة”، على خط واحد قبل أن نصل إلى مقام سيدي سالم، الذي يبدو حارسا شماليا للطريق، بينما سيدي أبو الحسن الشاذلي حارسا مهيمنا من الجنوب.

أود أن اعترف أنني لم يكن في نيتي نشر هذه الصورة وهذا المقال عن أم حرجل.

لقد فتحت ألبوم الرحلات الميدانية في الصباح الباكر بحثا عن صورة أخذتها قبل عامين للصقور المحلقة في الصحراء، فقابلتني رحلة أم حرجل.

وأصل حكاية الصقور أنني أبحث في مرجع عن التفاعل البيئي لقبائل الصحراء المصرية في عام 1930، وفي الكتاب فصل مهم عن الطرائد وحيوانات الصيد.

وكنت قد استهللت هذا البوست وأعطيته عنوان “اللي ما يعرف الصقر يشويه” وجهزت المعلومات التي تفسر هذا المثل.

ولكني أثناء بحثي عن صور الصقور وجدت نفسي عالقا في صور أم حرجل، ذلك النبات الطبي الشهير، ورأيت صورة العبادي الطيب صاحب الفضل علينا، وهو يشرح لنا مسارات وادي أم حرجل مع وادي خريط ومناطق تقسيم المياه بين البحر الأحمر ووادي النيل لنكتشف معه صوابية التكامل الجغرافي وخطأ الفصل التعسفي بين الأقاليم.

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.