كانت مشاعري حُرْة.
كانت عيناي مُتسّعة مُتلهفّة لكل ما يدور حولي.
كان أنفي يستطيع أن يَشّتم رائحة الزرع الأخضر وهو مُندىَ بندى الصباح.
كانت أُذني تُميز زقزقة العصافير في الصباح الباكر.
يُصاحبها صوت أُغنية تصدُر من الراديو تقول كلماتها: بالسلامة يا حبيبي بالسلامة .. بالسلامة تروح وترجع بالسلامة.
ثم يتلوها صوت الفنّان فؤاد المُهندس بصوتِه الجَهور : كلمتييين وبس. وفي الخلفية صوت اللّبان ينادي على الجيران بالإسم صغيًرا أو كبيرًا وبدون ألقاب، مُعلنًا إني قد تأخرت على المدرسة، فَأُسرع مُهرولًا، واضعًا قُبلة على وجنة أمي، مُتحسسًا قُبلة أبي التي طّبعها على جبيني في الصباح الباكر جدًا وهو ذاهب إلى عملِه، حتى قبل أن أستيقظ.
ثم ما أن تطأ قدمي الشارع، حتى تلفحني نسمة البرد على وجهي، ولكني كنت قد تحرصّت منها حين أطعت نصيحة أُمي : “خدلك بق ميه قبل ماتنزل الشارع”.
تُسرع خُطواتي للِحاق بطابور المدرسة الموجودة بنفس الحي الذي أسكن فيه، فها هي تحية العلّم اسمعها من بعيد: “تحيا جمهورية مصر العربية…” .
وما أن أدخل من باب المدرسة، وكأني دخلت عالم أخر، حيث ستكون أول حصة هي حصة اللغة العربية، يتلوها حصة الحساب، ثم حصة الدين، ثم الفُسحة! حيث الضحك واللعب والجد… وأيضًا الحُب!
كانت أيام جميلة، بل كانت أجمل الأيام.
كَبِرت وصَغُرْت أحلامي، وصارت مشاعري سجينة صدري، وكلّت عيناي، وأنسّد أنفي من كثرة أدوار البرد، ولم تَعُد أُذني تسمع سوى ضجيج السيارات في الشارع.
صار وقت الصباح الباكر وقت صراع مغادرة سرير كان الغرض منه راحة الجسد، وإذ بالجسد يستيقظ مُتعبًا مُرهقًا، أول ما أقوم به هو البحث عن أقراص الأدوية لتُعالِج ما صنع الزمن بهذا الجسد الضعيف وهذه النفس المُرهَقة.
ثم إرتداء الملابس للذهاب إلى العمل، مُحاولًا تمييز طعم ذلك المشروب في الكوب الذي في يدي، والذي لا أُمّيز منه سوى أنه ساخن! وكأنه واجب يجب أن أُؤديه قبل أن أغوص في غِمار يوم مليء بالزحام في ساعات الذُروة الصباحية وساعات الذُروة المسائية، وما بينهما من زحام مكالمات تليفونية ورسائل الكترونية وحوارات جدّلية ومُحاولات بهلوانية.
كل هذا للفوز في نهاية اليوم برقم مما يُسمى النقود، والفوز في صراع الأصّفار! يا تُرى كم صّفر سوف أتحصل عليه اليوم ؟ وذلك حتى أعود لأُنفقَ هذه النقود على مُنتجْات أكثر الإعلانات أثرًا في الوعي واللاوعي.
تلك الإعلانات التي تُحاصرني أنا وكل أفراد أسرتي من كل جانب.
فهذا المَطّعم يُقدم وجبة شهية لذيذة مُشبِعة مُبهِجة! وهذه الماركة العالمية إذا أرتديت قطعة من ملابسها تحمل علامتها التُجارية سوف تكون في مصاف المُميزين، وهذا البارفان إذا أستخدمتيهِ سوف تكونين برائحتك الفوّاحه مَحْط أنظار الجميع، وهذا وهذا وهذا وذاك وتلك!
عندما كنتُ صغيرًا كانت أحلامي كبيرة.
نعم كانت كبيرة بحق، حتى لو كانت أحلام طفلٍ صغير.
كانت أحلامي أن اُصبح مُدّرسًا لأني أحببت مُدرْس الفَصْل (أو بالأحرى مُدّرسْة الفصْل).
وأن أرتاد طائرة أو سفينة أطوف بها بلاد العالم، وأزور الكثير من الأماكن خصوصًا الغابات والجبال والأنهار ورؤية الحيوانات على الطبيعة، وخصوصُا الفيل والأسد! وأستمتع برذاذ الشلالات على وجهي.
كنت أحلُم أن أكون قويًا حتى أستطيع أن أُساعد الضعفاء، وأن أكون غَنيًا لأُساعد والفقراء.
كنتُ أشعر في نفسي بأني شُجاعًا، لا أخاف أي شيء، لا النار ولا الرياح ولا حتى الأمطار، بل أجدها أمتع الأوقات، والتى ما أن كنت أسمع صوتها تسقط من السماء ، حتى أُسرع بالجري إلى الشارع لتُلامس قطراتها وجهي.
كانت الأحلام بريئة، جميلة، كبيرة، بعيدة المدى، تحوي في داخلها قيمة ومعنى، حتى لو كانت أحلام طفل صغير.
ولكن ماذا حدث؟ حدث أن الأحلام صغيرة، أصبحت سطّحية، قصيرة المدى والقامة، فاقدة القيمة وفارغة من المعنى! نعم، مُستعينًا بما تبقى من شجاعة الطفولة وبساطتها وعَفَويّتها.
أُقر وأعترف: صارت الأحلام فقيرة.
فكل ما أتمنى تحقيقه ـ وأجد صعوبة في تحقيقة ـ هو الفوز بوجبة في ذلك المطعم، أو إرتداء (مَداس) يحمل علامة تجارية عالمية، أو أن تقبض أصابعي على هاتف جوّال ذو علامة فاكهة غالية الثمن هي الأخرى! وأصبحت أخاف من صوت الأمطار، بل وأجري وأختبيء هاربًا منها، ولا أستمتع بالزهور على الأشجار، فلم أعد أراها، على الرغم من أنها على مرمى البصر، ولكن البصر قد ضَعُفَ!
والسؤال هل من تَفَاهم يمكن أن يحدث بين ما كان وما صار؟ نعم.
وجدت الإجابة: إن لم أعود وأصير مثل الطفل، لن أعود أرى أمورًا عظيمة! أصير مثل الطفل في عَفَويّتهُ، مشاعره البِكْر، أحلامه الكبيرة ذات القيمة والمعنى، طيبة القلب التي تنسى الأذى في لُحيظات، اللهفة إلى التحدي، مُغادرة السرير في الصباح كمغادرة المسجون للسجن، استدعاء النشّاط والحيوية والإنطلاق في كل ما أفعله، استعادة بريق العينين، الإنفتاح على كل ما هو جميل ومُمتع، استرداد شجاعة القلب، العودة إلى اللعب والجد وأيضًا الحُب.
بمعنى أخر، العودة إلى الفِطرة، العودة إلى الأصل، العودة إليه، ليس فقط لأخذ قُبله منه ، بل أن أغوص في حِضْنه، حِضْن أبي!