بقلم : نسيم مجلى
صدر هذا الكتاب الهام منذ ثلاثين عاما وأكثر فى أربعة مجلدات تضم آلاف الصفحات، ونال مؤلفه الدكتور جمال حمدان جائزة الدولة التقديرية من مصر كما نال جائزة التقدم العلمى من دولة الكويت.
ولا شك فى أن إتفاق الدولتين على تقديرهذا العالم الجليل يؤكد قيمة أعماله العلمية الكثيرة وبالأخص هذا الكتاب. لكن على المستوى العام لم ينل هذا الكتاب الشامخ ما يستحق من إهتمام في وسائل الإعلام المختلفة.
وربما كان أهم هذه المقالات كتبه الاستاذ محمود العالم فى مجلة ” الهلال (يناير 86) بعنوان جمال حمدان العاشق لمصر وللحقيقة “وهو مقال تحليلى نقدى رفيع المستوى يشيد بالكاتب وكتابه حيث يقول: إنه ليس كتاب معرفة فحسب بل هو كتاب معركة كذلك فجمال لا يكتب لنا كتاباً عن شخصية مصر وإنما يقدم بهذا الكتاب سداً جديداً لمصر فى مواجهة محاولات شتى لهدم روحها والقضاء على شخصيتها القومية.
وهذا ما يؤكده جمال حمدان فى المقدمة حين يقول:
فى هذا الوقت ( ثمانينات القرن العشرين) الذى تتردى فيه مصر الى منزلق تاريخى مهلك قومياً ويتقلص حجمها ووزنها النسبى وجيوبوليتيكياً بين العرب وينحسر ظلها … نقول فى هذا الوقت نجد مصر نفسها بحاجة أكثر من أى وقت مضى إلى إعادة النظر والتفكير فى كيانها ووجودها ومصيرها بأسره من هى.
ما هي, ماذا تفعل بنفسها ثم ماذا بحق السماء يفعل بها ؟ .. والى أين.
ثم يضيف ” بالعلم وحده فقط لا الأعلام الأعمى ولا الدعاية الدعية ولا التوجيه القسرى يكون الرد ” والعلم معروف فروعه وطرائقه عموما وهو مطلوب على كل الجبهات.
لكن المؤلف يركز هنا على معرفتنا ببلدنا بمكاننا وامكاناتنا وهو يشير أيضاً إلى أن المصريين هم أفل الناس معرفة بمصر وهو يرى أن هذه المعرفة لازمة لنا سواء على المستوى الأكاديمى أو مستوى الثقافة العامة لأن الجهل بها كثيراً ما يقود إلى التخبط فى التخطيط وإحباطه وإجهاضه فى عديد من المجالات وعلى معظم المستويات إذ لا تخطيط البتة أياً كان نوعه بلا جغرافيا ”
ومن ثم كانت دعوته إلى أن ” كل شبر من أرض مصر كل حقل, كل قرية فى الوادى, وكل جبل أو صخرة فى صحارينا ينبغى أن تغطى بمونوجراف مفسر مكثف على حدة.
يبقى أن نقول إن هذا السفر الضخم هو أولى وأهم الخطوات الرائدة على طريق المعرفة
الصحيحة لموقعنا على خريطة العالم.
حتى نتفادى ما تجرى به السنة بعض كبار القادة والمسئؤلين حين يقال عن سيناء مثلاً انها ” سدس مساحة مصر” (الصواب 6 %) أو إن مصر ” نصف العرب ” سكاناً والصحيح (ربع العرب).
وهذه القراءة هدفها التعرف على أهم معالم هذا الكتاب وفلسفته ومغزاه وهو ما يهم عامة المثقفين.
ولعل أول ما يستوقف القارئ حقاً هو عنوان الكتاب “شخصية مصر” فما هو مفهوم الشخصية بالنسبة إلى مصر؟ وهل للبلد أو الأقليم شخصية كالإنسان؟
والإجابة مما يقوله أحد دعاة الشخصية الإقليمية:
إن شخصية الإقليم كشخصية الفرد يمكن أن تنمو وأن تتطور وأن تتدهور ووصفها لايقل صعوبة ” إن الجغرافيا هى فن التعرف على شخصيات الإقليم ووصفها وتفسيرها ” وهو ما يفعله جمال حمدان إذ يحاول فى هذا البحث أن يرسم صورة عريضة ولكنها دقيقة بقدرالإمكان لشخصية مصرالبلد والإقليم. فهى دراسة عن شخصية مصر لا الشخصية المصرية.
والشخصية الإقليمية شئ أكبر من مجرد المحصلة الرياضية لخصائص وتوزيعات الإقليم، إنها شئ أكبر من مجرد جسم الإقليم وحسب.
ونحن تتساءل اساساً عما يعطى منطقة تفردها وتميزها عن سائر المناطق ومحاولة أن ننفذ إلى “روح المكان” لتستشف العبقرية الذاتية التى تحدد شخصيته الكامنة أو ما يعرف كاصطلاح عام بعبقرية المكان (genius loci ) ولهذا سمى شخصية مصر – دراسة فى عبقرية المكان – الشخصية الإقليمية والوحدة العربية: لكن هل يعنى الحديث عن تفرد الشخصية الجغرافية وعبقرية المكان لهذا القطر أو ذلك إنها تتصادم مع دعوة الوحدة العربية والقومية العربية؟
طبعا لا.
لا يضير هذه الدعوة أن يكون لكل قطر من أقطارها شخصيته الطبيعية المتبلورة بدرجة أو بأخرى داخل الإطار العام المشترك.
وهذا التنوع والتباين فى البيئات إنما يثرى الشخصية العربية العامة ويجعلها متعددة الجوانب والأبعاد ويؤدى بالضرورة إلى مبدأ “الوحدة فى التنوع “و”التنوع فى الوحدة”
إن مصر جغرافياً وتاريخياً تطبيق عملى لنظرية هيجل: فهى تجمع بين “التقريروالنقيض” فى تركيب متزن أصيل وفى كلمة واحدة شخصية مصر هى التفرد وهو ما يعبر عنه كل كاتب أو زائر بطريقته الخاصة.
وتفسير هذه الشخصية الفلتة هو التفاعل – ائتلافاً أو إختلافاً – بين بعدين أساسيين فى كيانها هما الموضع site والموقع situation فالموضع خاصية داخلية ملموسة، ولكن الموقع فكرة هندسية غير منظورة بهذين العنصرين الجوهريين والعلاقة المتغيرة بينهما تفسر شخصية مصر, فهما يختلفان حين نجد مثلاً أن حجم الموضع كان لا يتكافأ دائماً مع خطورة الموقع الحاسم على ناصية العالم وحين نجد الأول ينتظم قدراً من العزلة والثانى يفرض فيضاً من الإحتكاك .
مصر هى نموذج البيئة المتبلورة المثالية إّذ يبدو كل شئ فى مصر مكثفاً إلى أقصى حد من الأساس الطبيعى والقاعدة الأرضية، إلى الهيكل الإقتصادى إلى الغطاء البشرى والصرح الحضارى.
مصر بكل تأكيد كثافة بلا مساحة. التجانس بعد التكاتف- تلك هى الكلمة المفتاح داخل هذه البللورة المضغوطة فرغم عديد من الفروق الموضوعية والمحلية والإقليمية يسود أجزاء الوادى قدر غير عادى من التشابه طبيعياً ومادياً وبشرياً.
وهذا أصدق وأوضح تعبيرعن المناخ ذلك الغلاف الرتيب والغلالة الصافية من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب.
وبجانب هذا فإن التركيب الجنسى أو التوزيع الأنثروبولوجى لا يكاد هو الآخر يقل تجانساً رغم خضوعه لعوامل أخرى بالطبع، فأهل مصر من أشد شعوب العالم تجانساً فى الصفات الجنسية والمقاسات الجسمية خاصة الرأس ومن أكثرهم تشابهاً فى السحنة والتقاطيع والملامح.
وينتقل التدرج حتمياً من التجانس إلى الوحدة.
ومنذ فجر التاريخ بزغت مصر كشعب واحد تجمعه وطنية واحدة فى وطن واحد على شكل دولة أحادية.
تلك أقدم أمة فى أول دولة فى التاريخ.
كذلك منذ ولدت هذه الوحدة فإنها لم تعرف التقسيم لا بالطول ولا بالعرض ولا فى ظل الإستقلال ولا حتى تحت الإستعمار.
إن مصر لم تكن قط مجرد “تعبير جغرافى” وحسب بل كانت دائماً تعبيراً سياسياً منذ البداية وإلى النهاية.”
من الوحدة إلى المركزية جاءت خطوة منطقية أخرى إلى الأمام ولكن من المركزية إلى الطغيان تمت خطوة أخيرة ومؤسفة إلى الوراء.
فقوة المركزية الجغرافية والوحدة الوظيفية وطبيعة الرى فى البيئة النهرية فرضت المركزية السياسية والإدارية ثم الحضارية فرضاً فى شكل حكومة طاغية الدور فائقة الخطر وبيروقراطية متضخمة أبدا وعاصمة كبرى صاعدة إلى أعلى صاروخياً وشامخة فوق البلد غالباً.
على أن السمة الأكثر سلبية هى تردى المركزية إلى الإستبداد.
ومهما اختلفت التسميات بين الطغيان الفرعونى أو الإقطاعى فأن الدكتاتورية هى النقطة السوداء والشوهاء فى شخصية مصر، وهى منبع السلبيات المتوغلة فى الشخصية المصرية حتى الآن، ليس على مستوى الفرد فى الداخل فقط ولكن فى الخارج كذلك.
هذا طبعاً على مستوى الموضع أو من الداخل. أما مستوى الموقع أو من الخارج فإن ملامح الموقع تعد من أخطر مفاتيح تلك الشخصية.
فهنا بالدقة يصل تعدد الأبعاد والجوانب فى شخصية مصرإلى حده الأقصى.
إذ تتفاعل جوانب الموقع مع جوانب الموضع إما فى تلاق وتلاقح أو فى تعارض وتناطح، وبهذا التفاعل الخلاق تكتمل تلك الشخصية حتى تبلغ منتهى آفاقها وتخرج من بيئتها وهى واسطة العقد ومتوسطة الدنيا وسيدة الحلول الوسطى وتقترب فى الوقت نفسه من أوروبا بمثل ما أنها الأرض الوحيدة التى يجتمع فيها البحران المتوسط والأحمر.
كذلك هى البلد الوحيد الذى يلتقى فيه النيل بالمتوسط إنه لقاء الأنداد والأفذاذ أبو الأنهار وأبو البحار.. مهد الفلاحة ومدرسة الملاحة وبهذا اللقاء مع التحام القارتين وتقارب البحرين فكانما كل أصابع الطبيعة تشير إلى مصر، وكأن خطة علوية عظمى قد رتبها “الجغرافى الأعظم ” لتجعل منها قطباً جغرافياً أعظم فى العالم القديم وبالفعل تحقق الوعد الجغرافى تاريخيا بنهاية سعيدة او نتيجة حتمية جغرافية. فقد ترجمت الى ملحمة حضارية وهذه الحضارة هى ثمرة زواج النيل بالمتوسط أو الموضع بالموقع.
ولقد أبدت هذه الحضارة استمرارية نادرة فعمرت بتماسك وصلابة على مدى آلاف السنين لم يقطعها أو ينسخها إلا الحضارة الحديثة فى القرنين الأخيرين فقط.
وبموقعها البؤرى المركزى على ناصية العالم كان مستحيلاً أن تعيش مصر فى عزلة منطوية على نفسها داخل قوقعة الصحراء بل خرجت إلى العالم الواسع بالتصدير الحضارى والتبادل التجارى، وأصبحت ” متوسطة الدنيا ” قبلة العالم وصرة المعمورة ولكن هل مصر حفاً فى عزلة جغرافية؟
عزلة خفيفة نسبية.
إنها عزلة بالموضع يصححها الإحتكاك بالموقع ولأن مصر كثافة بلا هجرة كانت تصدر الحضارة ولا تصدرالرجال ولكن لانها من الناحية الأخرى منطقة دخول لا خروج فقد كانت دائماً مصباً للرجال يكاد يأتى إليها كل شئ وإن قل أن تذهب هى إلى أحد للتجارة أو البحارة.
أو الهجرات، والغزوات، والإستعمار. كلا لم تكن مصر قط فى عزلة حقة إنما هى عزلة بلا إعتزال.
من إمبراطورية إلى مستعمرة
من أول أمة فى التاريخ إلى أول دولة إلى أول إمبراطورية ولكن للأسف إلى أطول مستعمرة بعد ذلك.
وكثنائية السبق الحضارى- التخلف لا مفر من أن نعد ثنائية الإمبراطورية – المستعمرة سمة أساسية لشخصية مصر والأسباب كامنة فى ثنائية الموقع الموضع.
غير أن مصر بعد ألفى سنة من السيادة العالمية أو الإقليمية عاشت ألفى سنة أخرى فى ظل التبعية الإستعمارية والسيطرة الأجنبية حتى تساءل البعض: أعرق أمة فى التاريخ أم فى التبعية ؟
وسواء صح السؤال أم لم يصح فإن هذا قد ألقى ظلالاً كثيفة على الشخصية المصرية وعد أسوأ نقطة سوداء فيها بجانب الطغيان الداخلى وأن الحقيقة أنه لا وسط فى تاريخ مصر.
إما قوة عظيمة سائدة رادعة وإما تابعة خاضعة عاجزة.