بقلم د إنجي البسيونى
رواية دسمة ومثيرة للجدل، تجسد لنا مشاهد حياتية موغلة في الأسى والبؤس والقهر الإنساني وتندرج الرواية تحت الجنس الأدبي المعروف “بأدب الديستوبيا”، والمقصود به أدب المدينة الفاسدة والمجتمع الممجوج الذي يسيطر عليه الشر وتتمكن منه الرذيلة ويحكمه الظلم والفساد، وهو مفهوم فلسفي مناقض لأدب “اليوتوبيا”
أو المدينة الفاضلة.
جاء البناء السردي للرواية محكما دقيقا منظما يخلو من الاسترسال الممل أو الاختزال المخل، والحكي جاء على لسان الراوي العليم وهو كما نعرف صوت فقط وليس شخصية من لحم ودم فى الرواية، فهو الذي ينظم الأحداث والأفكار ويكتب التفاصيل والمواقف، و يرتب الأدوار، ويعقد الحبكة ويتلو العقدة والحل.
الإطار المكاني لشخوص الرواية هو إحدى القرى الصغيرة التابعة لمحافظة المنوفية.
تبدأ الرواية بمشهد موغل فى البؤس والبشاعة؛ باكتشاف أهالي القرية لجريمة قتل شنيعة لأحد أبطال الرواية وهو رجل من أهل القرية، وقد تم التمثيل بجثته على أبشع صورة، فقد سملت عيناه وقطعت أعضاؤه التناسلية وجذمت أصابع يده العشرة وربط بحبل في ساق شجرة الجميز العتيقة المنتصبة على ضفاف الترعة في آخر أطراف القرية
ثم تبدأ الأحداث بحرفية على طريقة الفلاش باك أو ما يعرف دراميا بطريقة الاسترجاع، ليحكي لنا الكاتب على لسان السارد العليم قصة ثلاث شباب تجمعهم صداقة وتفاهم بالرغم من اختلاف مشاربهم الاجتماعية والفكرية والثقافية والحياتية والمادية، ولكن بالرغم من اختلافهم الواضح، إلا أنهم اتفقوا فى شيء واحد وهو نبذ أهالي القرية لهم
لأسباب تتعلق بتاريخ العائلة المشين أو سلوكيات أخلاقية فاسدة التصقت بشخوصهم الآسنة، ويخطفنا الكاتب بأسلوب شيق وطريقة حكي مميزة تفتح شهية المتلقي على الفعل القرائي، ولا تشعره بالممل قط،
وبلغة غاية فى الرصانة والدسامة وجميل البيان، وإنْ كانت لا تخلو كل صفحة من صفحاتها من كلمة غريبة أو لفظ ثقيل بشكل مبالغ فيه أحيانا، مما يحيل القارئ _المثقف وليس العادي إلى القاموس ويجعل المتلقى يفقد تركيزه ويتشتت أحيانا بين معاني الكلمات والسبك الروائي، ولكن على كل حال هذا لا يعيب الأسلوب اللغوي للكاتب والذى يجعل أعماله تضيف للقارئ حصيلة لغوية إلى مخزونه اللغوى.
وجاءت لغة الحوار عبقرية، فالبرغم من تمدد مساحة لغة الحوار أكثر من لغة السرد إلا أنَّ الكاتب امتلك مقدرة جبارة على جعل القارئ لا يشعر معه بالملل إطلاقا بل أشعرنا بالانسجام اللغوي والدرامى حتى وإنْ طال أمد الحوار ولكن جاءتْ بعض الكلمات لا تتناسب مع المستوى الفكري والثقافي لبعض شخصيات الرواية مثل شوقي مثلا والذي استخدم الكاتب على لسانه ألفاظا عميقة ودسمة لا تليق بشخص جاهل مثله.
كشفت الرواية عوار المجتمع بشكل فج وعرضتْ لنا كرنفالا من القبح الإنساني والإذلال الجنسي والجسدي والزنا والشذوذ، بشكل يرهق المتلقي وبأسلوب مباشر في أحيان كثيرة وإنْ كنت أرى أنَّ في التورية و الإبهام معنى ألطف وأفضل من التصريح المباشر.
ولقد استطاع الكاتب بحرفية شديدة أنْ يُحلل الشخصيات ويسبر أغوار عقدها النفسية المتجذرة فيها منذ الطفولة البائسة والتي أثرت على تكوينها النفسي والوجداني، والتي كانت سببًا في الندوب والتشوهات النفسية التي التصقت بأبطال الرواية طوال حياتهم القصيرة والتي انتهت بالقتل لهم جميعًا، وهي نهاية متوقعة لمثل هؤلاء المسوخ
وكذلك نجح الكاتب في صعق القارئ وإصابته بالدهشة عندما فاجأنا بحقيقة تلك الشخصيات الشاذة المقززة غير السوية فنقلنا بمنتهى البساطة من منطقة التعاطف الإنساني معهم إلى منطقة الاشمئزاز والنفور منهم
وهذا يتطلب من الكاتب قدرة فائقة على التماهي مع شخصيات الرواية، والتقمص الوجداني لمشاعرهم.
أسلوبية وأفكار وحبكة الرواية تدل على ما بذله الكاتب من جهد كبير حتى يخرج لنا نصوصا عميقة الأثر
وكما قال الكاتب الإنجليزي صموئيل جونسون: ما يُكتب دون جهد، يُقرأ دون متعة، فإن مجدي يونس باحث متعمق ولديه خبرات معرفية متنوعة، لذا ظهرت بصمته بوضوح في أعماله الأدبية القيمة وبالتالي تلقاها القارئ بشغف واستمتاع، ولم لا فهو الحاصل على جائزة كتارا في فن الرواية لعام 2021 م.