قراءة: طلعت قديح
ملتفتا إلى مكتبتي؛ أطل كتاب مستفز في أول عتبته “نساء”، ويواصل الاستفزاز في شرنقته التالية “الدانتيل”، فكان كتاب “نساء الدّانتيل” للكاتب الجميل “يسري الغول” الذي سيظل –في نظري- الأديب الذي يعرف من أين تؤكل الكتف وبجدارة، ليس تقصدا بل لأن الخط الذي أراده لحبره من اجتهاد هو الذي يوصله للكتف الذي يناديه.
أحسب أنني من أوائل من قرأ المجموعة القصصية، وقد نالت مني ونلت منها من التصور النقدي لمجموعة لكاتب محترف، وقد أدرجت ملاحظاتي بكل مهنية.
ولكن؛ الآن أقرأ هذه المجموعة –للمرة الثانية- باستثناء نادر، فإذا بي أرى قراءة مغايرة لما كان عليه الأمر منذ 3أعوام!
بدت لي القصص محبوكات تناور العقل، توخز الفكر الذي يُعمل منجل الروح، يحاول ألا تسقط قلاع من البال، ناهيك عن التحرش بالدمع كي لا يُذرف، فكل ما في المجموعة يمسك بتلابيب القارئ، يهزه هزًّا حتى أن إرهاق الحبر يبدو مترعا وأحسب أن السطور تعبت من الكر والفر ما بين الآهة وكظم صراخ القلب.
يغدو يسري الغول إلى استثارة شرفاته العارية كي يراوغ القارئ مابين لغة قيّمة ومجال لركن في حبك جماح الصورة الذهنية المشكّلة في كره وفره المتقنين.
ولنا في “أنا وشادي” لوحة لسكيتش مسرحي بصوت فيروز، بذاك السرد المكثف مع اتكاء جميل على أغنية؛ أعتبرها الحبكة التي تجمع شتات ما قد لا نراه، لكننا نحس أن مكان المقطع الغنائي هو طوق نجاة، وكأنها تلخص ما خلف الستار من احتضار على هيئة رحيق من عتبة حكاية لم تنته بعد! كسفر من الحرب والهروب!
وفي مشهد لافت؛ يقتحم “يسري الغول” فرجة من عالم غيبي، حاصدا للناس زرع الحقيقة الغائبة في “ابن التراب”، يلوح لنا بلغة تقترب من دمع فوّار. يغرّد “الغول” في جغرافيا الشخصيات دون البوح بالمكان، يركز في جغرافيته للوصول إلى مواطن الوجع برؤية فلسطينية هادئة! تشبه في تمثلها مصطلح “القوة الناعمة”! والذي يراود زمن القصة في تحول لا يخل بحبكة القصة التي تتراوح بين السيرورة العقلية والسياق الدرامي المتخفي. وفي نفس الوقت يشعل فتيل محاكاة بين الرؤية الفلسفية والأسطرة الناعمة التي تنتش من التراث على شكل وخزة.
ولا يفوت الكاتب أن يزيد جرعة القلق في “باب عجيب” في تشاكل بين الكشف المصرح والتبيان المتخفي خلف القصد، والذي أسميه السهم الكبير في حجم استشارة عنوان (باب عجيب).
يجابه الكاتب نوعا من الاقتراب لإسقاط له وصف غرائبي في “جرعة وقود” حيث رؤية المشهد بشكل مسطح وعرضي، وتعتبر “جرعة وقود” نموذجا مارس “الغول” تدويرا للحالة بدرجة180، فالملامح الأولية تتحدث عن واقع عاشه الغزيون في فترة من المشهد الأسود، لذا نراه يهرب إلى سلب الحالة الدرامية للمكان، وجعلها إدارة للحدث في مكان آخر، حيث وظّف الإسقاط لصيغة أعم وأشمل، وكرّر الجزئي بشكل يخاطب المتلقي بالحبري الغزي إلى اتساع في تأطير خارجي للفكرة والتي يمكن أن يحدث في غير مكان.
وفي تصوري أن قصة “نساء الدانتيل” تمثل شكلا ثلاثيا من تفجر المعنى والصورة والفكرة بشكل درامي؛ عمل على ازدواجية الحدث بتعميق الفكرة، آخذا في الاعتبار حقن الحبر بفكرة المريد، وهذا يفجر سؤالا: هل كان الكاتب يقصد المعنى أم أنه جعله مستترا قابلا لتنوع الاحتمالات؟!
طرق “الغول” بعتبة قصته المسمّاه “مدينة عتيقة؛ تصادمية الحدث بين اللجوء مؤقت الحدث وبين الصمود وإيقاظ المواطنة تطبيقا على الأرض، ما أحدث إرباكا في سبر محاولة استخلاص ما حدث وتداعياته.
ولعل تحرش الكاتب بأفكاره الطازجة جعله يطرق الخزان عبر قصة “اصبع أزرق” في تشابكية النسيج بين العادات والتقاليد والعرف، وبين الحلال والحرام، والعرف الذي يسيطر في العلن، ويتوارى في الخفاء، حيث الاقتراف مسموح، شريطة عدم العلم بما يحدث!
وتبرز الفنتازيا في “برزخ” المشبعة بالهموم الحياتية ومحاولة مطاولتها بكسر المعتاد وتسليط الضوء على معاناة (لا تتكلم) أو ممنوع لها ولادة الصراخ.
كيف يمكن أن تتقن تقنية الفلاش باك في قصة قصيرة! هذا ما فعله “يسري الغول” في “اغتيال منظم” في إتقان كولسة الحدث الذي قد يبدو ساذجا لكنه يدخل في مدارك العملية التقييمية للذات في تركيبة فنتازية، ولا يمكن إلا أن يبتسم القارئ موجها ليسري الغول “تبا لك” مع ابتسامة تنم عن إعجاب بالحبكة اللئيمة.
وتتوالى القصص بمداد يحاول فض اشتباك الرغبة والإحجام، الصراخ والكتم.