إن العيونَ التى فى طرفها حور قتلـْننا ثــمَ لمْ يحيين قتـــــــلانا» .. جرير ألفها جرير بن عطية لأمرأة وقع في حبها وقد صنفها الكثيرون على أنها أفضل خطوط المغازلة التي ألفها على الإطلاق..ولم يعد قتلاه إلى الحياة لا بالبعد ولا بالوصل، ويقصد الشاعر في هذا البيت أن محبوبته قتلته بسبب هجرها وبعدها عنه ولم تحيه بالوصال.
ويشبه الشاعر هنا عيون محبوبته بالسيف..فرغم جزاله كلماته الا انها،تفيض إبداع وتميز وتفرد من حسه الفنى ما يجعلها أكثر تعقيدا، وأعظم اثارة للنفس المتذوق العاشقه.
تكشف عاطفة الشاعر وأحاسيسه تجاه محبوبته ما يصفه دليل قاطع على معاناة الشاعر الصادقة. ..المشهد الموصوف من الدقة والجمالية والرومانسيه الحالمه بحيث يستثير مشاعر المتلقي وعواطفه، وكانت حيوية النص الشعري وثراؤه الشاعر وهو يسترسل في بديع المفردات وجمال المعنى ورقة الأسلوب وأساليب الجناس التام مثل الحَياةِ-الحَياة ومن الجناس الناقص أمثال للمَدَى-للشَذى,الصَّغيرْ-الحرير,قِصَّتى ،وَقصَّتِكْ ،مرتين ،ليلتين،استفهامْ أنامْ،الكلامْ…. وغيرها.
فسر جمال السجع يحدث جرسا موسيقياً يثير النفس وتطرب له الأذن .
يتسائل الشاعر العاشق إلذى يجنح إلى الرقة والعذوبة أنغاماً مطربة تتصاعد من تآلف ألفاظه نراه يسترسل في طرح بديع مفرداته وجمال معانيه ورقة اسلوبه، فالملكة الخيالية الخلاَّقة للشاعر العاشق تحيل المشهد إلى لوحة فنية زاخرة بالتساؤلات بألوان من الظلال الدلالية العاشقه الحالمة التي تشد المتلقي إليها شدًّا، من خلال المقابله بين الحياة ، وسحرها والموت ..الشمس ..والخلود والتراب ، التمزق الحب اللقاء
فيقف قبالتها متفكرًا متأملاً، حاسماً قائلا: لنْ أعودَ للمدَى هذا أنا وَجدتُ ضالتى لكنـَّمَا المَلائكُ التى تـُنَغـِّمُ الوجودَ واللوحَاتِ عَبرَ الحُجرةِ الصغيرةِ تَحُولُ بَينَ كفـِّىَ الصغيرِ وارتعاشِ هَامتِكْ الشاعر يمتاز بحسٍ متفرد ورؤية فريدة في حبه الدؤوب نلمس فى معانيه العميقة البعيدة عن الغموض، وصوره البلاغية ،اذ يصف حالته وتصرفاته في لحظة الشوق قائلاً وكنتِ فى بدايةِ الكلامْ عَلامةَ استفهامْ .. وقلتِ : لا أنامْ وحرَّفَ الكهَّانُ قِصَّتى .. وَقصَّتِكْ ……. لا .. ليسَ للمَلاكِ أنْ يَمدَّ راحَتيهِ للبـَشَـرْ
وَقلتُ : هلْ أرَاكِ ؟ جسدت اللّغة دوراً مهماً في توصيل رسالة الشّاعر المبدع محمد حلمى فجاءت لغةً سلسلة واضحة دليل قاطع على معاناة الشاعر الصادقة.محبوبته كالفراشة الحائمة على الحدائق والبساتين الهائمة – ح متنقله في خفّة من زهرة لزهرة،إن الشاعر هنا يطير حول الحب والحبيبة كما تطير الفراشه فى السماء
قائلا: وَكنتِ أنتِ .. قبلَ أنْ تكونَ فى الذرى فرَاشَةٌ تطيرُ نـَحوَ سُلـَّمِ الرُؤَى الرتيبِ والبَديعْ، وَمقلتاكِ كَانتا عَوَالِمَ التـَّخَلـُّقِ الوَليدِ مَدَّ لى سَحَابَةَ التشوُّقِ الغـَريبِ سِحرُكِ الوَديعْ فانتبَهْتُ لحظة الشروقِ للهَوَى مَددتُ مُقلـَتىَّ للسَمَاءِ باحثاً عن الهدَايةِ التى تنامُ فى عَينيكِ والحَوَرْ أراد الشاعر أن يشبه المحبوبة بالهدَايه- الفراشه- لحظه الشروق- طيف الشمس
في محاولة منه لرسم صورة جميلة لعينيها ،وفي لوحة تصويرية أخرى يجسد فيها الشاعر غنى مشاعره وعواطفه وأفكاره،يُلبس مشاعره ألفاظاً وجملاً قريبة المعنى، أنيقة الترتيب، راقية الدلالة تكشف عشقه وحبه.
تتجلى التآلف والتناغم والتلاؤم؛ ليكسب شعره قوة ومتانة وتأثيراً في المتلقي، هذا التأثير ينتج من تكثيف الدلالات والمعاني االتى يصف بها محبوبته : ولأنَّكِ تَأْتِين كطيف شمسٍ مُنذُ أنْ تَعَطـَّشَتْ بـِحَارُ عشـْقىَ المجنونِ للشطوطِ- رائعة مِنديلـُكِ المَشْغولُ بالحَريرِ يَسْتـَحِى وخوفـُكِ البَرئُ من لقائِنـَا الصَّغيرْ لامْ …وكنتِ فى بدايةِ الكلامْ عَلامةَ استفهامْ .. وقلتِ : لا أنامْ وحرَّفَ الكهَّانُ قِصَّتى .. وَقصَّتِكْ. كما تتجلى الظواهر اللغوية في قصيدته الشاعرية الراقية من خلال العذوبة فى الطرح والرؤية و الرقةُ والانسجام والعاطفة الوجدانية المتقدة وصفاء الأسلوب،
والموسيقى العذبه متدفقة، فالشاعر مسكون بلوعة الحرف وجماليته، حين يبوح بإنسانيته من رحم عشقه الصادق والحالم ، إنه يحاور محبوبته ويناجيها، ويجعلها كأنها ماثلة أمامه الشاعر متسائلاً عمَّا قد يغيظ الكهان و الناس
فى واقع مزيف وكارثى واقع يشيئ الإنسان ويستعبد النوازع الآدمية لديه، ويفرغه تماما من كل المعاني التي تميزه عن سائر المخلوقات، يظل متسائلاً ،كما نلمس استنار الشاعر بالوصال والاكتفاء بالرمز والتلميح عن الوصف الدقيق الصريح، لأن ما رآه المحب، وما أحس به في حشا فؤاده، يفوق الكلمات.
كنا استطاع الشاعر أن يوظف الإنشاء (استفهاماً ) توظيفاً فنياً راقياً، حيث انتقل به إلى دلالات متعددة، وإيحاءات ثرية تحمل وجهه نظره و تضفي على النص حيوية متجددة، وحضوراً لا يبلغه النص بدون تلك التساؤلات : ماذا يثيرُ الناسَ لو سِرنا على ضوءِ؟ كأنـَّمَا مَعَالِمُ السمَاحَةِ التى على عينيكِ مُعْجـِزَة يا أيها الكهَّانُ ياصنـَّاعَ هذا العالمَ الملئ بالكوارثْ هلا رأى بَصيرُكُم فتاتى الجَميلة ؟
أبصَرتُهَا الصباحَ تَعـبُرُ المَحدودَ للمَدَى وتَعبرُ الجُسُورَ للشَذى ومنذ أنْ تَبَسَّمَتْ. وظف الشاعر العاشق بعضا من المحسنات البديعة التشبيه والمجاز والتوريه امثال كأنمَا الشموسُ أشرَقـَتْ..وشبه الأديب المحبوبة بالشمس والنور..فحبيبته كالشمس في سطوعها ونقاوتها وجمالها الأخاذ في قوله يزيل الظلمة فيعيد النهار وسط دياجير الموت.
كما أبدع في وصف ثغر محبوبته ،يستحضرها ويتخيل ابتسامتها،فجسد ابتسامتها في لوحة فنيه مفعمة بالحب والبراءة والجمال فهى المحبوبه القيامة والحياة فيزداد مفرداته صفاء، ورقة وعذوبة، وجمالاً وملاحة فهى النقاء والصفاء والجمال والحقيقة والسلام فهى الوجه الصافي النقيّ فالرمز يطلق لنا عنان الخيال إلى أبعد
مدى فالعلاقات العاطفية الوجدانية بين العاشقان نقية لا تشوبها شائبة قائلا: قامَ من قبورنـَا الجمالُ مرتين قالتْ لىَ : السلامْ … لا أنام – نمتُ ليلتين وقلتُ للرفاق “تلكم الحقيقةُ التى الشاعر عاشقا شغوفا. هذا أنا وَجدتُ ضالتى لكنـَّمَا المَلائكُ التى تـُنَغـِّمُ الوجودَ واللوحَات.
استدعاء الشاعر الفاظ عن القيامة السيد المسيح فى المعتقد المسيحى مرتين ليس كرمز بل كحقيقة ملموسة،بالقيامة أشرق فجر جديد على حياة البشرية / حياة العاشق المحب…. على الجانب الآخر نجد الغزل فى القصيدة يخلو من البذاءة والقَصص الغرامي الفحش, وتُلمس فيه الشاعر نفسه في ثنائية الحب مع المحبوبة عاشقًا لا يرى غيرهايصَوِّبُ اللغة تجاه للمَلاكِ بمفردات تكشف استحاله الحب، بين العاشقان فى تميز وتفرد ودقه في الوصف وكأن الشاعر من عاش تلك اللحظة برؤيته الإبداعية الدقيقه قائلا: تقولها السواسنُ الصغيرة عودوا إلى منابعِ المياه”
وسرتُ منذ أن ألقيتِ لى وريقةً صغيرةً إلى الذرى أشقُّ أفرعَ الحَياةِ بَاحثا ًعن الحَياة وقلتُ : يَاه هل المَلائكُ التى تنامُ فى عَينيكِ تـَسْتَحمُّ بالندا الطرىِّ مازال يتسائل الشاعر العاشق برقه وعذوبة وعمق طرحه البديع الذي يكشف لنا جمال المعنى ورقة الأسلوب وعمقه متسائلاً رغم معاناته وتحدياته فنراه يقول : وهل أغانى السِّحْرِ؟ ترتـَوى مِن الخلودْ ؟ أشفقتُ أنْ أظلَّ هكذا إلى الأبدْ وثاقىَ التمزُّقُ الذى يشدُّنى إلى ارتعَاشَةِ الجَسَدِ ولعنتى المَوَاتُ … ينخُرُ العظامَ والترَابُ يَدْخلُ الرئة ويَطلـَعُ الدَّرَجْ يَدقُّ بابى الخـَئونُ فى لـُحَيظةِ اللقاءِ : عُدْ : قِفِى فتلكَ لحظةُ اللقاءِ.
الشاعر هنا يقرأ العيون وما بداخلها. ويستمر شاعرنا العذب في جداله مع العيون وكأنه يقول سأبقى معها حتى أرى النتيجة ثم يكشف لنا تلك المقابله لتأتي ( عكس ) ذلك الكلام.
وكأنه صراع درامي، يعمّق المعنى، ويزيده ثراء، تُجسد فيه صوت لوعةَ الفراق و الحنين، واستحالة حبه إذ نراه يقول : : لا .. ليسَ للمَلاكِ أنْ يَمدَّ راحَتيهِ للبـَشَـرْ وَقلتُ : هلْ أرَاكِ ؟ لعبت اللّغة دوراً مهماً في توصيل رسالة الشّاعر المبدع محمد حلمى فجاءت لغةً سلسلة واضحة لا تحتاج معجماً، ولا تُشكّل غموضاً، أو إجهادا على ذهن القارئ، مفعمة بالعاطفة الجيّاشة والعشق والحيرةالتي تؤثر في وجدان المُتلقّي
كما استفاد الشاعر محمد حلمى من الاقتباس باستدعاء ابيات من الشاعر جرير في غزله فنجح بين أسلوب الجاهليين وأسلوب المتيمين العذريين, فى وصف المحبوبه فى أجواء ملائكية حالمة عاشقه, ثم ينتقل من تلك الأوصاف إلى داخل نفسه ليحدثنا عن لوعته واستحالة حبه , نزعات الفؤاد وخلجاته.
إنَّ العيونَ التى فى طـرفِهَا حَوَرٌ.._حقاً تلك العيون ذات الأبيض النقي يحيط بالأسود النقي وقد استدارت حدقتها لقد قتلنا ولم يعد موتانا إلى الحياة .
إن جريراً يقدّم صورة بديعة وهو يصف العيون تصرع الإنسان العاقل رغم ضعفها.. كما نجح الأديب الدكتور محمد حلمى فى إختيار المفردات والتراكيب وترتيبها بطريقة إبداعية، بحيث تثير معانيها لدى المتلقي خيالاً جمالياً تعبيرياً تحلق فى عالم الخيال و العشق، والشوق ولحظات الحب، اللقاء، والفراق، ،و المعاناة من استحاله حبه أمام زيف العالم المادى ، مفردات تم انتقاؤها بعناية واقتدار
وتتميز مفردات الأديب الراقى محمد حلمى بالبساطة والوضوح والأناقة والدهشة والاستنارة، والبعد عن التعقيد، والتوحش اللفظي؛ مع الحفاظ على الرونق، ورقي التعبير، ويأمل المتلقي في أن يستمر الأديب محمد حلمى في تطوير تجاربه الشعرية لتكون قدمه راسخة في إبداعه الشعري المتميز المتفرد…فنلمس فى قصيدة” العيون التى ” الفاظ تنساب عذبة رقراقة من ترابط الفكرة وتسلسلها، وعذوبة الألفاظ ورقتها، وقوة إيحائها
ومن جمال الخيال وروعته،فالشاعر يروي بمعانيه ظمأ الروح للوصال واللقاء، واستمرار العلاقة مع محبوبته الجميله….” قصيدة العيون التى “شديدة الإشعاع والبوح تحمل دلالات متعددة، وإيحاءات ثرية رسمها مبدعها الأديب الفنان محمد حلمى بإتقان وبراعة لتفتح أمام القارئ أبوابَ أمل وحب ووصال لا ينتهي، وأتمنى للشاعر عطاء ثري وإبداع متجدد أن شاء الله.
رؤيه نقدية بقلم د/. وجيه جرجس لقصيدة بعنوان ” العيون التى” للشاعر الدكتور/ محمد حلمى