عاطف معتمد
امسكت بالقلم لكتابة مقال الصباح عن رحلتي الأخيرة إلى غرب الإسكندرية وزيارة مسجد ومقام سيدي القباري. وقبل أن أخط أول كلمة وجدت تعليقا على مقال من الأسبوع الماضي ينصحني فيه أحد القراء قائلا
“استقم واتق الله ولا تروج للشرك والبدع”.
وقد جاء تعليق القارئ الكريم تعقيبا على مقال نشرته إثر زيارة لسيدي أبي الحسن الشاذلي في صحراء مصر الشرقية.
والحقيقة أن الكتابة عن الأضرحة والمقامات والكنائس والمساجد لا تمثل دلالات دينية أو عقائدية للجغرافي، خلافا لما يظنه القراء.
لي زملاء حول العالم لا يدينون بأية ديانة، ويؤلفون مقالات عن “الجغرافيا المقدسة”.
لقد صنفت الجغرافيا الثقافية هذه المواقع باعتبارها “أماكن مقدسة” رغم ما يثيره من حفيظة المتدينين ممن يرون أن الأماكن المقدسة حصرية في تلك التي يحجون إليها أو يصلون فيها.
والأماكن المقدسة مقدسة عند معتقديها، فنهر الجانج والبنجاب وبحيرات وتلال في سيبيريا أو أدغال في أفريقيا وأنهار في البرازيل تحمل صفة القداسة عند سكانها بغض النظر عما تمثله لعقائد أخرى.
ويجد باحث الجغرافيا في مثل هذه الأماكن “المقدسة” ثروة كبيرة للكتابة والدراسة.
وذلك لأنها ممزوجة بطابع خيالي وأسطوري وديني.
ومثل هذه الخيالات والأساطير والمعتقدات تمنح بعض الأماكن أهمية ويتردد اسمها وتصبح أكثر شهرة ومعرفة واهتماما بين الناس.
وكل ما يرجوه الجغرافي أن تصبح الأماكن مشهورة ومعروفة للناس حتى تزداد علاقات التبادل الإيجابي بين الإنسان والبيئة.
الجغرافي هنا ليس متدينا بالضرورة بقدر ما هو براجماتي نفعي يستغل الموقف لترويج سلعته.
أذكر أنني زرت قبل 10 سنوات المنطقة البحرية الحدودية بين فيتنام والصين على المحيط الهادئ.
كانت هذه هي المرة الأولى والأخيرة التي أزور فيها مكانا على المحيط الهادئ، ورغم أنني أعرف قدرا نظريا لا بأس به من جغرافية المنطقة إلا أن ذكريات الزيارة ما تزال منطبعة في ذهني كأنها أمس، وذلك لسبب أسطوري لا جغرافي ولا علمي.
تتألف المنطقة من مئات الجزر الصخرية في مياه المحيط في الخليج المعروف باسم “ها لونج Hạ Long Bay”.
المعلومات العلمية عن المكان لا بأس بها وتتحدث عن طبيعة الأصل الجيولوجي في انشطار الصخور وانتثار مئات الجزر الصخرية جراء حركات تكتونية وصدعية وانفلاق وانشطار وإزاحة.
لكن أسطورة محلية جعلتني أتذكر جغرافية المكان بشكل طازج دوما.
فالأسطورة تقول إن هذه المنطقة تعرضت لغزو جحافل الجيوش الصينية منذ قديم الأزل.
وكان هناك تنين مقدس في فيتنام أراد أن يساعد الشعب المسالم أمام قوات لا قبل له بها زحفوا بأسطول جرار.
وحتى يعيق تقدم الأسطول الصيني فإنه حول نفسه إلى جبل ضخم على الساحل، ثم فجر نفسه ليفدي البلاد فتحول إلى شظايا من مئات وربما آلاف الجزر الصخرية التي حطمت سفن الغزاة.
تحرص كتب الإرشاد السياحي ومواقع الإنترنت والمرشدون السياحيون في فيتنام على ترديد تلك الأسطورة.
الحصافة في الإرشادات السياحية أنها لا تقول أسطول صيني كي لا تكرس أزمة عدائية بل تقول أسطول “شمالي” . مع أنه لا يوجد في الشمال سوى الصين.
وحين تروى هذه الأسطورة على زوار الخليج لا يقول الزائرون من السياح والطلاب والباحثين “كفى سخفا..هذه أسطورة ضد العلم”! بل يستفيدون من الحكاية في “قدح” خيال الرؤية والتفكير فتتولد الأفكار وتستفيد المعرفة الجغرافية.
ها أنا فقدت الهدف من كتابة مقال عن سيدي القباري، وبدلا من تحضير خريطة الإسكندرية إذ بي أراجع معلوماتي المتقادمة من 10 سنوات عن زيارة خليج ها لونج، وموقع فيتنام، وألبوم رحلتي إلى هناك انطلاقا من مدينة هانوي.
لا بأس…
فلينتظر سيدي القباري إلى صباح الغد إن شاء الله