مذكرات كاهن……قصه حصلت بالفعل. يقول ابونا لوقا سيداروس خرجت للافتقاد فى يوم غير قريب ، وعلى وجه التقريب منذ ١٤ سنة تقريباً ، وأخرجت مفكرة صغيرة كانت فى جيبى لأخذ بعض العناوين وأسماء الشوارع فى منطقة افتقادى التى كانت فى ذلك الحين كثيرة الشبه ببعضها فى النطق والكتابة فمثلاً شارع هليوبوليس ، شارع هيرموبوليس ، ممفيس ، تانيس ـ و ومنيس .. إلخ .. فقرأت أحد العناوين من المفكرة واحتفظت به فى ذهنى، رقم البيت والشارع ورقم الشقة وذهبت إلى الشارع ووجدت الرقم الذى أريده وصعدت سلم المنزل حتى الدور الثالث حيث رقم الشقة التى أقصدها.
ولكن هذا البيت ما دخلته قبل ذلك ، وربما أخطأت العنوان فأخرجت مفكرتى أعيد النظر فى العنوان فوجدتنى فعلاً أخطأت الشارع ولكننى كنت قد طرقت الباب فخجلت أن أنزل قبل أن يفتح الباب ، وفعلاً انفتح الباب بعد لحظة ووجدتنى أمام رجل يناهز الأربعين من عمره ، مشعث الشعر ، وبادرنى على الفور : نعم. كنتُ فى هذه الأثناء ، قد لمحت صورة معلقة على الحائط حالما فتح .
صورة دينية لنتيجة مسيحية فقلت فى نفسى : حسناً ، وإن كنت قد أخطأت العنوان ولكن لا بأس من الزيارة فهذا بيت مسيحى . – قلت للرجل : أنتم مسيحيون ؟
قال : نعم، ولكن : كيف حصلت على عنواننا ، من أعطاك إياه؟
قلت : ما دمتم مسيحيين ، فأنا أزوركم.
قال وقد بدا عليه إضطراب لا أعرف سببه: تفضل.
أحسست فى نفسى أن فى الأمر شيئاً – شيئاً غريباً لست أعرفه ، إننى لأول مرة أواجه هذه الظروف.
وما إن دخلت إلى داخل ، وأغلق الباب خلفى حتى كرر الرجل سؤاله بحيرة ولهفة بالغة.
أرجوك أخبرنى من أعطاك عنوانى.
قلت هذا وقد ملكنى الاستغراب: – ممكن أجلس؟ تفضل وظل الرجل واقفاً أمامى ، فقلت له فى هدوء شديد ،
أرجو أن تستريح أولا وأنا أقول لك.
جلس الرجل إلى جوارى ، وعلامات الاستغراب ماتزال مرتسمة على وجهه ، ثم مرت لحظة صمت بادرته بعدها قائلاً: لماذا أنت مضطرب هكذا ، ألم ترَ كاهناً من قبل ، سوف لا أقول لك كيف أتيت إلى هنا ما لم تقل لى أولاً لماذا أنت هكذا؟
قال الرجل وقد ملكه إنفعال عجيب : أمرى عجيب للغاية .. أكاد لا أصدق ما أنظره بعينى وأعيشه هذه الأيام ، أنا على ما ترى أعيش بمفردى فى هذه الشقة وأنا مغترب هنا بالإسكندرية من عشرين سنة وكنت قبل أن أحضر إلى الإسكندرية فى بلدة صغيرة من أسرة مسيحية .
كنت أيامها شاباً متديناً ولى علاقة حية بالمسيح، مواظباً على الأسرار.
أكملت دراستى ثم عُينت موظفاً بالإسكندرية .
بدأت حياتى الروحية ينتابها شىء من الفتور والتقصير فى الصلاة ثم بعض أصدقاء السوء .. ثم اللامبالاة .. ثم حياة الخطية فى كل صورها وأساليبها . ثم أحسست بالضياع وفى البداية كان ضميرى يصحو فى بعض الأوقات وأفتقد حياتى مع الله وكنيستى ، ولكنى لم أعطِ هذه الأفكار وقتاً ولا مكاناً فكانت تموت فى مهدها.
ولى الآن أكثر من عشرين سنة ، نسيت فيها كل شىء تصور إننى لم أتناول طوال هذه المدة والغريب إننى منذ أسبوعين وبلا مقدمات تحركت أحشائى كالبركان .
إحساسات توبة ورجوع إلى الله ودموع صادقة تنفجر من عينى ،
لقد رجعت إلى وقفات الصلاة ، وبحثت عن إنجيلى حتى وجدته فى كومة كتب قديمة مكدسة عندى ، إننى أقرأه بشغف عجيب ، كلماته مثل سهام مبرية تخترق جدران قلبى ، لقد سقط العالم كله من نظرى ولست راغباً فى شىء منه.
قاطعت الرجل وأنا فى حيرة من أمره.
ولكن فى هذه الآونة الأخيرة ، ألم تحضر إجتماعاً من اجتماعات الكنيسة ، ألم تسمع عظة ، ألم تقابل خادماً؟
قال : على الإطلاق ، وهذا ما يجعلنى فى غاية الغرابة ، لقد تغير برنامج يومى تماماً ، فأنا أعود من عملى كل يوم .. وأغلق باب شقتى وأظل فى صلواتى ودموعى وإنجيلى كل الوقت حتى ساعة متأخرة من المساء .. ثم أنام لأستيقظ فى الصباح. – قلت له والأصدقاء.
قال ، إنهم فى غاية الاستغراب والحيرة من أمرى أنهم يحاولون معى كل يوم لكى أعود إلى سيرتى الأولى ويعضهم يظن إننى مريض أو قد أُصبت بإكتئاب نفسى وبعضهم منذهل من تغيير طباعى وكلامى وسيرتى ، ولكن على العموم لقد زهدت الأصدقاء والناس جميعاً
أجد الآن لذتى فى أعمال التوبة فى مخدعى.
ولكن الأمر الأكثر غرابة إننى كنت أخاف أن تكون هذه المشاعر وقتية عابرة ، أو أنها ليست من الله ، وأمس فقط وأنا أصلى وأبكى أمام الله توسلت إليه بدموع قائلاً : أعطنى يا رب علامة بها أعرف أنك قبلتنى ، ورغم كثرة خطاياى وآثامى تجاسرت أن أطلب هكذا وقلت فى الصلاة ، هذه هى العلامة أن ترسل لى كاهناً لكى أعترف أمامه ، وأشعر أن توبتى ووسيلتى قد وجدت دالة أمامك.
أخذتنى رعدة وأنا أسمع هذه الكلمات ومجدت المسيح إلهى الذى يعمل بروحه القدوس فى توبة أولاده وعندما يغيب الخدام يعمل هو فى القلوب ويرد إليه خروفه الضال ويجد درهمه المفقود ، قلت للرجل الذى ملأت الدموع عينيه:
إذن أعطاك الرب سؤال قلبك.
قال : نعم يا أبى ولكن أرجوك عرفنى كيف حضرت إلى هنا ؟
أخرجت مفكرتى الصغيرة .. وأشرت إلى العنوان المكتوب ، رقم البيت ورقم الشقة مطابقين لعنوانه مع اختلاف الشارع. – قلت له أن الله يعمل معنا عظائم حقاً .. لقد أخطأت العنوان فأتيت إليك من قِبل الرب.
صلينا معاً بحرارة وشكرنا المسيح الحنون الراعى الصالح وقدمنا سجودنا القلبى لقابل الخطاة ، ومحب البشر.
ثم قدم هذه الأخ إعترافاً ، يسجل فى السماء كخاتم لتوبة صادقة مقبولة أمام الله.
وقرأت له التحليل .. وانصرفت ممجداً الله وصارت بعد ذلك لقاءات متكررة .
وصار يحضر إلى الكنيسة بشوق وعطش وجوع إلى البر وكانت النعمة تشبعه حسب وعد الرب :”طوبى للجياع والعطاش إلى البر لأنهم يشبعون”.
لقد عوضته النعمة عن السنين التى أكلها الجراد.
وختم الرب على صدق توبته .. وأكمل أيامه مرضياً أمام الله مؤازراً بقوة روحه القدوس.
القمص لوقا سيداروس، رائحة المسيح في حياة أبرار معاصرين ، الجزء الأول