الدكتور بهاء خليل
بعد حادثة الام التى قتلت ابنها وطبخته واكلته على واخوته نتذكر الشدة التى عانت منها مصر وهى ظاهرة «آكلي لحوم البشر» في العصر الفاطمي بسبب مجاعة تعرضت لها البلاد في عهد المستنصر، وسميت المجاعة وقتها بـ«الشدة المستنصرية» وهي مصطلح يطلق على مجاعة حدثت بمصر نتيجة غياب مياه النيل بمصر لسبع سنين متواصلة عرفت بالعجاف نهاية عصر الخليفة الفاطمي المستنصر بالله في مستهل النصف الثاني من القرن الخامس الهجري من تاريخ الدولة الفاطمية في مصر 1036-1094م.
وذكر مؤرخون أن «الشدة المستنصرية من أشد المجاعات التي حدثت بمصر منذ أيام يوسف عليه السلام، فقد أكل الناس بعضهم بعضاً، وأكلوا الدواب والكلاب، وقيل إن رغيف الخبز بيع بخمسين ديناراً وبيع الكلب بخمسة دنانير. كما روى أن الأحباش كانوا يتربصون بالنساء في الطرقات ويخطفوهن ويقتلوهن ويأكلوا لحومهن».
ونحن فعلا بدأنا باكل الاطفال ولما الحمير والبغال والاحصنة والكلاب ولم يبقى سوى القطط والفئران الاهم الطف بنا .
روى المؤرخون حوادث قاسية، قائلين: «فلقد تصحرت الأرض وهلك الحرث والنسل وخطف الخبز من على رؤوس الخبازين وأكل الناس القطط والكلاب حتى أن بغلة وزير الخليفة الذي ذهب للتحقيق في حادثة أكلوها وجاع الخليفة نفسه حتى أنه باع مقابر آبائه من رخام وتصدقت عليه ابنة أحد علماء زمانه وخرجت النساء جياعا صوب بغداد».
ومما روى المؤرخون عن مدى القحط والمجاعة التي استبدت بالناس أن الخليفة المستنصر نفسه باع كل ما يملك في القصر، حتى بيع من المتاع ثمانون ألف ثوب، وعشرون ألف درع، وعشرون ألف سيف محلي، حتى الجواهر المرصعة بالأحجار الكريمة بيعت بأبخس الأثمان، ولم يبق له إلا حصيرة يجلس عليها وبغلة يركبها وغلام واحد يخدمه.
وذكر المؤرخ ابن إلياس أن «الناس أكلت الميتة وأخذوا في أكل الأحياء وصنعت الخطاطيف والكلاليب لاصطياد المارة بالشوارع من فوق الأسطح وتراجع سكان مصر لأقل معدل في تاريخها».
وأشار تقي الدين المقريزي، في كتابه «إغاثة الأمة بكشف الغمة»، إلى أن الناس أكلوا القطط والكلاب، مضيفًا: «أكل الناس القطط والكلاب بل تزايد الحال فأكل الناس بعضهم بعضا، وكانت طوائف تجلس بأعلى بيوتها وعليهم سلب وحبال فيها كلاليب فإذا مر بهم أحد ألقوها عليه ونشلوه في أسرع وقت وشرحوا لحمه وأكلوا».
وقال «المقريزي» في كتابه «اتعاظ الحنفاء بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفاء» تأييدا لما سبق «ظهر الغلاء بمصر واشتد جوع الناس لقلة الأقوات في الأعمال وكثرة الفساد وأكل الناس الجيفة والميتات ووقفوا في الطرقات فقتلوا من ظفروا به، وبيعت البيضة من بيض الدجاج بعشرة قراريط وبلغت رواية الماء دينارا وبيع دار ثمنها تسعمائة دينار بتسعين دينارا اشترى بها دون تليس دقيق وعم مع الغلاء وباء شديد وشمل الخوف من العسكرية وفساد العبيد فانقطعت الطرقات براً وبحراً إلا بالخفارة الكبيرة مع ركوب الغرر وبيع رغيف من الخبز زنته رطل في زقاق القناديل كما تباع التحف والطرق في النداء: خراج، خراج، فبلغ أربعة عشر درهما وبيع إردب قمح بثمانين ديناراً، ثم عدم ذلك كله، وأكلت الكلاب والقطط، فبيع كلب ليؤكل بخمسة دنانير».
ولفت «المقريزي»، في كتابه «إغاثة الأمة»، إلى حدوث مجاعة مشابهة للسابقة، «أيام الحافظ لدين الله وفي عهد الفائز وفي سلطة العادل أبي بكر الأيوبي سنة ست وتسعين وخمسمائة بسبب توقف النيل عن الزيادة، فأكل الناس صغار بني آدم من الجوع فكان الأب يأكل ابنه مشويا ومطبوخا والمرأة تأكل ولدها، وكان يدخل الرجل دار جاره فيجد القدر على النار فينتظرها حتى تتهيأ فإذا هي لحم طفل».
وذكر أنه «لما أغاث الله الخلق بالنيل لم يجد أحد يحرث أو يزرع الارض».
وانتقل المقريزي في فصل خاص عن أسباب هذه المحن التي تعرضت لها البلاد فردها إلى ثلاثة أسباب: «أولها توصل الجهلاء والظالمين بالرشوة إلى تقلد أعلى مراتب الحكم في الدولة كالمناصب الدينية وولاية الخطط السلطانية من وزارة وقضاء ونيابة وغيرها واضطرارهم لتسديد ما وعدوا به السلطان من أموال إلى تعجلها من أعضاء حاشيتهم وأعوانهم فيقرروا عليهم ضرائب تدفعهم أن يمدوا أيديهم إلى أموال الرعايا الذين يضطرون إلى الاستدانة وبيع ما يملكون من أثاث وحيوان.
وتابع أن «ثانيها ارتفاع إيجار الأطيان، وغلاء نفقات الحرث والبذر والحصاد، وارتفاع ثمن المحاصيل مما نتج عنه خراب كثير من القرى وتعطيل الأراضي الزراعية ونقص فيما تخرجه الأرض من غلال لموت كثير من الفلاحين والزراع وتشردهم في البلاد وقد هلكت دوابهم، ولعجز آخرين ممن يملكون الأراضي عن زرعها لارتفاع سعر البذر ونقص اليد العالمة
ثالثها رواج الفلوس النحاسية التي أصبحت النقد الغالب، واحتفاء الدراهم والدنانير من التعامل لعدم ضربهما ولسبك ما بأيدي الناس منهما لاتخذاه حليا، وقد تفنن الأمراء والأتباع والأعوان في الترف والتأنق وتباهوا بفاخر الزي وجليل الحلي، فكان أن دهى الناس وذهب المال وقلت الأقوات وتعذر وجود المطالب».