للكاتبة إيناس المغربي
عاش جيلُنا فيما مضى حياة المكدودين المتعبين، الآنين من تحمل مشقات الحياة وتعسراتها والسقوط في كبواتها وعثراتها نظرا لما لم يكن يعرفونه عن التكنولوجية وأساليب التقدم التي اخترقت عالمنا الحديث مجددا، ويسرت له كل سبل العلم والرفاهية، والتقدم والانفتاح على العوالم الأخرى في إي وقت يشاء وبأيسر السبل وأقل التكاليف عبر وسائل الاتصالات و الإنترنت ..!!
لكن ذاك الجيل رغم فقده لكل سبل الراحة والتنعم والرفاهية إلا إنه كان محظوظا متميزا عن الجيل اللاحق له إذ أنه تنعم بكثير من الخلال الطيبة والصفات الحميدة و قد مازجته وخالطته لطائف بشرية بقلوب نقية، نفوسهم طيبة موصولة بالله واصلة للرحم ممدودة أيديهم لكل زي حاجة، لا تنظر أعينهم إلى أبعد ما تحت أرجلهم فيكفيهم من الحياة لقمة عيش حلال ونوم هادئ وبيت أمن مطمئن..!!
احتوتهم طبيعة خلابة ساحرة، نضرة مترامية الأطراف، صنعتها يدي إله مبدع حكيم، كانت الحدائق والبساتين من حولهم بزهرها ووردها و شمسها المشرقة تحوط بهم في كل مكان، مما كان ذلك يضفي على النفس البشرية إشراقا وهدوءا وأمانا، فتستقر الروح سعيدة هانئة مطمئنة، راضية بكل عطايا وأقدار الله، وكأن الله لعلمه السابق بتلك القلوب العامرة وضمائرها الطاهرة ونفوسهم الرضية، خلق لها حياة بسيطة مباركة، متعالية عن الأخلاق المنحلة والقيم المختلة.
ورغم كل ما كانوا يقاسونه من متاعب وآلام تلك الحقبة المتأخرة عن الازدهار والتقدم وتوعك الحالة الاقتصادية وقلة النواحي المادية إلا أنهم كانوا أصحاب فضيلة وعزة نفس، ومبادئ لا تتغير ولا تتجزأ بتغير الفقر والغنى ولا بتغير الزمان و المكان !! عشتُ في تلك الحقبة من ذاك الزمن الوديع الهانئ حياة رغيدة كأني فراشة أتنقل بين رباها ،أهفو إلى العلياء أعلو فوق الزروع والأشجار، أتطاير بين المروج وأثباج الجبال، أقفز بين رياحينها
وزهرها لا يمنعني عن سعادة التنقل في أنحائها عواصف أو أمطار أو رياح ،أبث بجمال روحي المتزينة بزينة الوقار والمحتشمة بسر جمالها الأقدس لمن رآني طعم السعادة وأكسير الحياة .. !!
و عندما يشرق يومي أفتح نافذة روحي للحياة فأسمع شدو قلبي بتفاؤله كقمري يصدح بنغماته على شعاعات الصبح البهيج يترنم بترانيم الفجر كشيخ شجي الصوت يجهر صوته بتلاوة و تواشيح .. !!
ما عرفت الحزن يوما وما جفى مقلتي النعاس، كنت أظن غدي أجمل من أمسي، وأشعر ما بين غدي وأمسي براحة وأنس و انسجام .. !!
لكن عجب كلها الحياة، بدت لي في ظاهرها كجنة الفردوس وحلو المقام، لجمال العيش فيها وملائكة يسكنونها يطلق عليهم أُناس، وود كان يملأ أركانها وفي أجوائها يعم الوئام والسلام… !!
ظللنا في تلك الحقبة أعواما وأعواما ننعم بالهدوء النفسي وثبات القيم والأخلاق إلى حد كبير، لكن هيهات، إذ لا دوام لشيء ولا ثبات لحال فكلما أمتد الزمان ودارت الأيام تقدم العلم وازدادت الاكتشافات وتطورت التقنيات والمهارات و ومعرفة الأبحاث العلمية والعلوم الفلكية وغيرها في شتي المجالات، ثم اكتشفت شبكات الإنترنت وهي ما تسمى ” بالتكنولوجيا الحديثة” التي ساعدتنا على معرفة العوالم الأخرى وما هيتها، ثم ظهرت كذلك الهواتف الذكية بأجود التقنيات وأكفأها والتي أصبحت تحل محلنا وتقوم مكاننا في معظم الأحيان لتقضي كثيرا من الأمور في دقائق معدودات
كل ذلك ساعدنا على تخطي كثيرا من العقبات وتوفير الجهد والمال ، وساعدنا على تطور الحياة وتقدمها من أجل مستقبل مشرق و معيشة أفضل للإنسان .
بيد أن كما كان للتكنولوجيا فضلا وإيجابيات، كانت لها علينا الحظ الأكبر من النقم و السلبيات التي حطت من سعادتنا وسلامتنا وشعورنا بالأمان، فقد أطلعتنا على عوالم اخرى لا تُشبهنا ولا تماثلنا في شيئ مما درجنا وتربينا عليه ،فقد وجدنا سلوكيات مختلفة و عادات منحطة وأخلاق مبتذلة وأعراف متدنية ، لا تناسب ما درجنا عليه وما تعلمناه من الشرائع السماوية .
فلقد اخترقت هذه التكنولوجيا عالمنا المتواضع بفكره البسيط، والطاهر بفطرته السوية دون ان ننتبه إلى كيفية التعرف على كنهتها أو خبايا طبيعتها، وكيفية التعامل معها من الوجهة الصحيحة أو كيف نحتاط من عواقبها السيئة إذا ما داهمتنا الأفكار والعادات الغربية بمساوئها !! فهل التعامل مع تلك التكنولوجيا بأساليبها المختلفة ستأخذنا إلى التقدم و برالسلامة بالإيجابيات فقط ،أم إلى التأخر و طريق الندامة بالسلبيات ؟!!
فالواقع أن التكنولوجيا وعالم الفضاء الافتراضي أخذنا منه على الأكثر ما يوجب علينا سخط السماء وغضبها فلقد أثار فضولنا التشوق إلى معرفة ما ابعد من الإيجابيات، فقلدنا العوالم المنفتحة في طبائعها الفاسدة من قلة المروءة وانعدام الرجولة والتشبه بالنساء، وعرض العري والفجور والمجون وما يخدش الحياء ،
عرضت لنا الكثير من المنكرات والتبجح على القامات، فخُتلت بها العقول وانحرفت، وفسدت القلوب وانجرفت وفسدت كثيرا من الأخلاق . و أصبح الالتصاق بوسائل التواصل الاجتماعي والهواتف الذكية شيئ حتميا وضروريا، وسمت من سمات حاضرنا، انكببنا عليها، وصرنا في انطواء وانعزال بها عن عالمنا الصغير الداخلي وهي أسرتنا الصغيرة إلى العالم الكبير الخارجي ، مما سبب في تفرقة افراد الأسرة الواحدة بمجالستهم أمام شاشات الكومبيوتر والهواتف والأنترنت طوال الوقت وما استدامت على حالها تلكم الحياة ببراءتها وطيبتها وسكينتها كما كانت من قبل، وخبت أنوار الخير و السعادة منها .. !!
كل ذلك جعلني أخلد إلى نفسي المكلومة وأشرد بعقلي المصدوم عمن حولي لكي أرسم لوحة للحياة الأن و كيف صارت ؟!!فرأيتني أشاهدها الأن موحشة قاحلة، كأن الثعابين تخرج من جحورها، والعقارب تتسلق جدرانها، واختلفت وساءت فعال الناس، وتغيرت الضمائر، وماتت المبادئ والأخلاق، حتى أضحت كصحراء يسكنها عفاريت الأنس، أو كغابة يقطنها وحوش الناس وأمست الأَمةُ تلدُ ربتها والجاهل يعتلي منبر العلماء والأبن يجحد أمه، والأب يكون لابنه عكازا، والأخ يلفظ أخته ويتنحى عنها بعدما كان موئل رحمة و بدوره يحفظ العرض والجاه، والجار يخشى جاره ويجعل لبابه قفلا رصينا ومزلاجًا ، والشوك ينبت بذاته وتكثر أرضه دون حرث ولا فاس، والخضر يصفر ورقه ويعطب ثمره رغم الجهد والمثابرة والعناء، وكثرت الأدواء والعلل، وقل الدواء والترياق .. وماتت القيم والأعراف وقل الشكر والعرفان .. فلماذا تغير الحال واختلفت قوانين الحياة ؟!!
أهو من نفوس شوهت،أم من أخلاق قُبحت،أم كتب الأديان حُرفت ومعانيها تلاشت ومزقت ؟!! لماذا هذا التغيير والانحطاط والقبح والازدراء ؟!! ألكلامي تنكير وتحقير أم توكيد لصحته وتوطيد ؟!!
السبب في ذلك أن العباد غفلوا عن الأخرة وعاشوا لملذات وشهوات الدنيا والتطلع لكل ما يفسد عيشهم الرغيد وبدلا من أن يتخذوا من التكنولوجيا ما يساعدهم على التقدم في دينهم ودنياهم حاموا حول الحمى واستغلوها استغلالا خاطئا فكثر الفُجور والمجون والإلحاد وتقطعت الأرحام وأهمل الراعي الرعية وسقطت المبادئ والقيم العلية، نسوا الناس رب البرية، ونسوا قَسمَه بالرزق والهبات والعطية .. غفلوا عن كُنهه الحقيقة وإدراك جوهرها وأنهم ما خلقوا إلا لرسالة ربانية وهي تعمير الكون ونشر السلام والحفاظ على حقوق الإنسان.. !!
فأحوال الدنيا كالماء المالح كلما ازددت منه شربا أزدت عطشا، واعلموا ان الدنيا كلها بأحوالها مطية للأخرة، ومن فقد المطية فقد الوصول .. !! يقول أحد الواعظين لملك غرته الدنيا:هذه قصوركم وتلك قبوركم فإذا دامت لغيركم دامت لكم ، والدنيا إذا ما أحلت في القلب أوحلت .. وإذا كست أوكست .. وإذا أينعت نعت .. وإذا جلت أوجلت .. كم من قبور تُبنى وما تُبنا .. ياليتنا تُبنا قبل ان تُبنى، وكم من مريض عُدنا وما عُدنا وكم من ملك رُفعت له علامات فلما علا مات ..!!
فمن أعظم مصائب الدنيا الجهل بأن يجهل الجاهل جهله ويعيش في عماه ظانا أنه العليم وهو ابعد ما يكون عن العلم والدين والأخلاق مسببا فسادا وانحرافا وجنوحا عن المبادئ والقيم والأخلاق التي هي أساس أي دين وأي ملة وأي عقيدة ..!!وكما قال ربنا جل وعلا : ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.فعلينا ان نتحرى الحقائق ونبحث عن الفضائل ونبتعد عن كل سبل الفساد بإيقاظ ضمائرنا وتوطيد علاقتنا بأسرتنا الصغير والتحامنا بمجتمعنا الكبير من أجل الوصول إلى علاقة أرقى مع الله وأفضل مع الناس .