الأحد , ديسمبر 22 2024
المغرب
نجيب طلال

متْ أو انتحـر أيها المبدع !!

 نجـيب طلال

بين الحياة والموت:

مــسألة الصمت أو اللامبالاة ؛ ليست ” مـوضة” أو “بـدعة” مبتدعة في النسيج الثقافي والإبداعي في بلادنا، فهي من ضمن ثقافتنا وسلوكنا المعـتاد ؛ أمــام  مـوت طبيعي أو موت إرادي لأحد المبدعين أو الأدباء أو الفنانين، وذلك بحكم منظور العشيرة والعشائرية أو الحزبية ؛ والتي لازالت شبه سائدة ؟  وإن نلمس ونعيش التـّبدل والتغيير الطارئ في العمران والحياة الإجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية التي يعرفها البلد، مقابل هذا تمظهر وسائل التواصل الإجتماعي التي أمست تسهل وتساهم في التقارب أكثربين الأفراد والجماعات، وانتشار الأخبار والقضايا بأسرع برق . فرغم ذلك : مـتْ أو انتحـر أيها المبدع !! فلا أحد سيأزرك أو يتذكرك بين الحين والحين، من أجل لفت انتباه لمن يهمه الأمر، وللباحثين في المجال الإبداعي، وخاصة ظاهرة الموت الإرادي[ الانتحار]

كما يسميه “نيتشه” لأن المسألة مثيرة للـدهشة وأعـقد مما نتصوره ، أمام تدمير الذات ! وإن كان بعض الأخصائيين المغاربة في العلاج النفسي ، يتطرقون لقضية “الانتحار” ولكن دونما غـَوص في الإشكالية المضمرة في الفعل الانتحاري.

وهكذا ! فلماذا نتلافى مناقشة انتحار المبدعين؟ هل عجزنا عن التحليل والتفسير، أم العائق في الجانب الديني الذي يحرم الانتحار تحريما، ويعتبر من كبائر الذنوب والآثام، باعتبار أن أصل قتل النفس التحريم، لقوله تعالى:

﴿وَلَا تقتلـوا أَنفـسَكمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكـمْ رَحِيمًا [س النساء: 29] أم العائق في المشرع المغربي، من خلال النيابة العامة التي تكون مطالَبة بتحريك الفصل ال407 عند كل عملية انتحار أو محاولة انتحار للبحث، عبر الشرطة القضائية.

في تقديري، فهاته المجالات، لا تعيقنا بل تساعدنا للانغماس في كنه وأسرار انتحار المبدع والفنان، باعتبار أن انتحاره ربما يختلف عن انتحار شخص إرهابي ‘مثلا” أو شخص عادي. والشيء بالشيء يذكر، هنا نحن اليوم أمام فاجعة انتحارية ( حرقا ) من الشقيقة تونس؛ فاعلها لاعب كرة القدم التونسي “نزار عيساوي ” احتجاجا على قمعه ارتباطا باحتجاجه على رفع سعـر( الموز) من [ 5 دنانير] التي حددتها الدولة إلى [ 10دنانير]

كما أراد “الفاكهاني” أن يبيع خارج منظومة الأسعار. هنا فهذا اللاعب ليس أحمقا أو مجنونا ، حتى أنه  قبل الحادثة كتب تدوينة عجيبة وكاريكاتورية : “أنا القاضي نزار عيساوي أحكم على المتهم نزار عيساوي بالموت حرقا وذلك لأنه رجل… رفعت الجلسة… كفى لم يعد لي طاقة (تحمّل)، اليوم سوف يتم التنفيذ يا “دولة البوليس”(1) علما أن الرابطة الدولية دعت لمنع الانتحار، وذلك إلى ضرورة توحيد الجهود والعمل بشكل جماعي من أجل محاربة ظاهرة الانتحار. 

وخفضها إلى الثلث على الأقل في أفـق 2030. ولكن الإشكالية  العظمى !  فظاهرة الإنتحار في تزايد مخيف للغاية .  

 بين الظاهرة واللامبالاة :

ولكن ما نـحن بصدده، يتمركز على ظاهـرة انتحار الفنان/ المسرحي، بحيث ما أنجزه الفنان ” أحمد جواد” في حق ذاته بحق: مشهدٌ رهيب ترتعش له فرائص أشجع الشجعان، وتنفطر له قلوب الجبابرة العظام، ناهيك بمن كان مارّا عرَضا في الشارع العام من النسوة والأطفال. ويحدث هذا في شهر رمضان، وبالذات في المغرب، بلد كل العجائب والمفارقات والتناقضات (2) وبالتالي يعتبر” انتحاره “ظاهرة ؛ من بين الظواهر الشاذة في سجل انتحار الأدباء والفنانين عبر العالم ، وبالنسبة للعرب؛ هنالك  الكاتبة اللبنانية  †( جومانة حداد)† قدمت عَـدداھائلا من المنتحرین في كتابھا [سيجيئ الموت وستكون لھ عیناك] ولكن في غياب دراسة عميقة لأسباب انتحار المبدعين والفنانين العرب .

ولاسيما أن: الانتحار من وجهة نظر التحليل النفسي، هو المحصلة النهائية لعمليات لا شعورية ، بالغة العمق والثراء والتعقيد.

ومن المعروف …أن الحياة النفسية في نهاية الأمر محصلة الوحدة والصراع الجدلي بين غرائز الحياة وغرائز الموت ( 3) وتركيزا ؛ فالإشكالية الأعمق ، لا أحد من الأدباء أو الباحثين والدارسين، حاول أن يترصد لمبدع “انتحر” ولماذا انتحر؟ وهل منتوجه الإبداعي يوحي بومضات لفعل انتحاري مؤجل ، ولكنه يتحرك في اللاشعور؟

: بحيث أن العمل الفني مظهر من مظاهر السلوك، كما يرى الدكتور يوسف مراد، فإنه يمكن محاولة تفسيره بمفاهيم التحليل النفسي؛ كأي مظهر سلوكي آخر، ومحاولة ربط شخصية الفنان بأثره الفني، من حيث هو يعبر بطريقة رمزية عن هذه الشخصية ، وخاصة عن بعض دوافع السلوك الشعورية وغير الشعورية ( 4) وبناء على هذا، رغم أن بعض الأقلام التي تمارس شغبها الإبداعي في النسيج الثقافي تصرح بالقول : نعم، لم يكن أحمد جواد من أعلام المسرح الهاوي أو الاحترافي، ولا أعـرف شيئاً عن أعماله المسرحية.

يكفيه أنه كان يعْـشق خشبة المسرح للتواصل مع الآخرين…. فيما لم يكن أحد يلتفت إليه.

هـذا ما عَـلمتْ (5) هنا إن أردنا تحليل هذا القول وتفكيكه، وذلك ارتباطـا بالواقع الثقافي والإبداعي.

تستشف جليا بأن هنالك انفصام حاد ! بين الفاعلين في الأجناس الإبداعية  ببلادنا، بمعنى ذاك المسرحي في ركحه يهيم ؟ و ذانك الشاعر في بحوره يسبح ويرتجل ؟ وهناك روائي في شرفته  ينسج خياله بأحلامه ؟ وهنا تشكيلي في ألوانه يجذب ويتمرغ ؟  وهكذا مـتْ أو انتحـر أيها المبدع !! لأن ما بعْـد سـوى النسيان؛ حتى من الذاكرة الجمعية، التي تضغط على الذاكرة الفردية لتحقيق الاستذكار.

بالتالي فأين تلك المقالات وبعض الدراسات والترنيمات التي تمت في حق الراحل ” حوري حسين” إبان انتحاره ؟ وللتذكير فتلك الكتابات كلها جمعها وبوبها آنذاك الراحل ” المهدي ودغيري” وخاصة في جريدة ” الإتحاد الإشتراكي”؟ والأغرب من ذلك ! لم تحاول حتى اللجنة الثقافية للحزب ؟ أن تصدر على الأقل للتاريخ وللأجيال ولو منشورا حوله!! لأنه كان محسوبا عليهم كفاعل مسرحي/ سياسي/ حزبي ؟

هنا فمسألة “أحمد جواد” اليوم كواجهة أساس، تفرض علينا إعادة النظر في التركيبة المجتمعية وتجديد آليات العلائق بمنظور تآزري إنساني صرف ، وكذا النبش في مسألة انتحار المبدعين الذين تم إهمالهم وعدم ذكرهم أو تـذكرهم حتى ولو بالإشارة إليهم ((مثل)) المسرحي {براهيم غورتي} من جمعية [النهضة الثقافية ] “بالخميسات” الذي انتحر شنقا سنة 1988 بحيث : 33 سنة مضت منذ رحيلك يا صديقي ويا رفيقنا .. لازلت أتذكر وأكتوي بنار فراقك..تعـود بي الذاكرة إلى بداية الثمانيات حين توثقت علاقتنا ونحن بجمعية النهضة الثقافية بالخميسات وكنت تمدنا بمجلة الحرية والهدف وماكان بحوزتك من مجلة أنفاس ..أتذكر تلك الليلة ويحترق جوفي مثل هذه اللية 30/29 ماي 1988..)6) وكذا الفنان المسرحي والكاريكاتوري “عمر جليل” من نفس الجمعية ، بحيث رمى نفسه في البئر؟ ولا أحد تذكره حتى جمعية ( التويزة ) التي كان عضوا نشيطا فيها.

ونفس الصمت واللامبالاة في حق أحد مسرحيي الهواة { عبدالرحيم بلمليح }من جمعية الفتح المسرحي بفاس سنة  1989 والفنان الجسور “{ عبدالرحيم إسحاق}” الذي “انتحر >بشكل< آخـر في إحدى أزقة  (الدار البيضاء) ناهينا عن  المسرحي حوري الحسين ( المحمدية 1986)

والشاعر كريم حوماري ( أصيلة/1997)  والقاص سعيد فاضلي/ (الدارالبيضاء2004) والشاعر عبد القادر الحافوي ( أكادير2014) هؤلاء رحمة الله عليهم ، لقد أنجزت حولهم نصا مسرحيا(7) ولا أحد اهتم به أو حتى همس به ؛ باستثناء بعض الإخوة الشرقيين ! علما أن صيغة الإهداء كهذا [ إلى كل الفضلاء الذین یتذكرون أحبتھم وأصدقاءھم في دروب الإبداع ]] ولكن تبين أنه ليس هنالك ( فضلاء) !!

وبناء عليه ، فمـتْ أو انتحـر أيها المبدع !! رغم صرخاتك أو احتجاجك وأنت قيد حياتك ، هي أساسا بمثابة “صيحـة في وادي ونفخة في رماد ! وأوضح صورة قضية ” أحمد جواد: منذ عرفته وهو يشكو من التهميش والتضييق على الرزق الذي ما فتئت تمارسه عليه الأذرع الثقافية للسلطة، لكونه كان من دعاة الحرية ومواظبا في مسرحياته على نشر التفكير النقدي ضد الاستبداد والفساد بشجاعة وإقدام.

فكان عقابه المنتظر أن ضيّقت وزارة الثقافة عليه الخناق(8) فهذا القول يمكن أن نتفق عليه أو نختلف حوله؛ أو نرفضه جملة وتفصيلا. لكن ما هو جوهري عندنا الآن؛ في كيفية مناقشة الإنتحار وعلاقته بالمنتوج الفني والإبداعي، وهل هنالك خيوط بين الأسطر توحي بفعل انتحاري كمخزون في المتخيل؟ باعتبار أنني أرى  كما يرى غيري بأن : الانتحار ظاهرة جد معقدة؛ إذ یكمن تعقیدھا في عدم فھم مغزاها وتحليل طلاسمها؛ أو تأویل مسبباتها  ؛ لأنها معلقة بین الحیاة والموت وأسئلة الوجود، والتي تجول في أعماق الإنسان وتفاعل انوجاده عبر التاریخ البشري في سيرورته ودیمومتھ ؛ وتعقـد ھذا الحتف المفاجئ والغامض جدا، ھونتیجة تداخل الذاتي بالمیتافیزیقي؛ والموضوعي بالغیبي والغیبي بالذاتي والسحْري.

والسّحري بالموضوعي والموضوعي بالخرافي؟ وھذا یشیر بأن الظاھرة في حد ذاتھا خلیط من المفاھیم والمعطيات ؛ التي تجعلك تتیھ في التفسیر والتحليل والتركيب…(9) لكن الانتحار بالحرق والنار؛ هـو أشد مشهد رهيب ومرعب ، يحتاج لتعميق النقاش بحثا ودراسة وكتابة بين كل الأطراف الفاعلة في المجتمع ؛ وكفنا من ظاهرة

( اللامبالاة) إذ ليس ببعيد يتداخل الذاتي بالمیتافیزیقي؛ والموضوعي بالغیبي، بحيث ما هي قدرة الإرادة التي ساهمت في إنجاز هذا الفعل؟ وأمامنا ( الآن) نموذج التونسي” نزار عيساوي” كرياضي؛ فعله كفعل ” أحمد جواد” هذا الأخير فانتحاره له مراحله وأسبابه وخلفياته وخفاياه ، ربما بدأ المنطلق ليس من مدينة الجديدة وقضية محاولة هـدم المسرح ( البلدي ) بل من: نادي الأسرة بالنسبه لوزارة الثقافه تايشكل تهديد على اتحاد كتاب المغرب اللي كان تايمثل آنذاك حزبها مع مثقفيه.

والوزارة الوصيَّه اللي كان منتظر تشجع النادي وتحتضن المواهب وتوفر لهم شروط النجاح والاستمرار ، لقـت راسها ما عندهاش خيار من غير تنقد اتحادها الضايع بسبب سياستها الضايعَه.

من ثمة جا مع الأسف قرارها التعسفي والظالم ف حق الثقافة والمثقفين بإغلاق النادي إغلاق لا رجعة فيه. من هذ التاريخ السياسي بدأ موت أحمد جواد (10) أليست هاته معطيات تساهم في مطارحة قضية انتحار المبدعين والفنانين ؟

الإســتـــئــنـاس:

1) وفاة لاعب كرة قدم تونسي بعد إحراق نفسه: هسبريس خارج الحدود بتاريخ/ 14 / أبريل/ 2023/

2) أبعد من حرق أحمد جواد نفسَه: لأحمد المرزوقي- صحيفة العربي الجديد في 13/ أبريل/2023

3) أدباء منتحرون لمكرم شاكر إسكندر – ص15/  دار الراتب الجامعية – القاهرة -1992

4) نـــفــــســـه – ص21

5) أحمد جواد.. مشتعلاً يموت : لمحمد بنيس في صحيفة أنفاس بريس- بتاريخ 03/أبريل/2023

6) إبراهيم غورتي: تدوينة لخالد بلقصير في جداريته بتاريخ 30/ ماي 2021

7) مسرحیة حبال الرحیل: لنجیب طلال دار كتابات جديدة للنشر الإلكتروني: ط 1، ديسمبر 2017

8) أبعد من حرق أحمد جواد نفسَه: لأحمد المرزوقي .

9) برولوج مسرحیة حبال الرحیل – ص 7

10) بيان للذاكرة الانسانية:احمد جواد الطائر الاسطوري ققنس – لإدريس امغار مسناوي في صحيفة Lepoint24  بتاريخ 05/أبريل/2023

شاهد أيضاً

“غواني ما قبل الحروب وسبايا ما بعد الخراب ..!! “

بقلم الكاتب الليبي .. محمد علي أبورزيزة رغم اندلاع الثورة الفكرية مُبكِرًا في الوطن العربي …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.