كمال زاخر
احسب أن الاقتراب من الكتاب والكاتب أمر محفوف بالمحاذير التى شكلتها الحالة القبطية المعاشة، فيما يتعلق بالكاتب، وشكلتها الحالة الفكرية حولنا والمتوارثة فيما يتعلق بموضوع الكتاب وهو يقدم قراءة معمقة لشخصية القديس بولس الرسول، والذى يقف فى بؤرة مرمى نيران من يهاجمون المسيحية.
ربما كانت هذه المحاذير نفسها هى الدافع للاقتراب من هذا الكتاب، ليس رداً على أحد من الفريقين ولا الاشتباك معهم فنيران دوائرهم ليست بحاجة إلى مزيد من الحطب، وانما محاولة لاسترداد حقنا فى التعامل الموضوعى مع كلاهما لحساب ضبط بوصلة الموضوعية، فى التعامل مع الكتاب والكاتب، وتوثيق محاور ايماننا.
يستهل الكاتب طرحه بتمهيد يلقى نظرة عامة على حياة القديس بولس الرسول؛ بحسب ما سجله كانب سفر “أعمال الرسل” والذى افسح لهذا الغرض غالبية سفره، ويرى الكاتب أن هذا يرجع لكون القديس لوقا ـ صاحب سفر الأعمال ـ “شاهد عيان وزميل خدمة وأسفار” وكان “يتتبع اخباره أولاً بأول ويسجلها فى ذاكرته ومذكراته، وكان يستقى أخباره دائماً من الذين عاينوها وخدموها، ويوقعها على أزمنة الملوك والحكام وسجلات الشخصيات المعاصرة، بمعنى أنه كان يوثق التاريخ بشهادات ثابتة فوق شهادته هو.
“والمصدر الثانى الذى اعتمده الكاتب فى هذا الكتاب هو رسائله يتتبع من خلالها حياة القديس بولس فيدرك “أنه قد أوقف هو الأخر كل مواهبه وملكاته على ارساليته التى استغرق فى خدمتها استغراقاً، وابتلع كل ما بقى له من عمر بعد أن تعرف على المسيح وآمن به”.
ويلتقط الكاتب أول خيط فى خطة وتوجه القديس بولس من قوله “لأن المسيح لم يرسلنى لأعمد بل لأبشر”، والمؤسس على قول حنانيا الذى التقى بولس عقب ظهور المسيح له فى رؤيا وأمره بلقاء بولس “«اذْهَبْ! لأَنَّ هذَا لِي إِنَاءٌ مُخْتَارٌ لِيَحْمِلَ اسْمِي أَمَامَ أُمَمٍ وَمُلُوكٍ وَبَنِي إِسْرَائِيلَ. لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي».
وحين يلتقيه يبلغه برسالة المسيح له “ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت. وقد التزم ق. بولس بهذه المهمة التى حسبها “نعمة” من المسيح؛ “الَّذِي صِرْتُ أَنَا خَادِمًا لَهُ حَسَبَ مَوْهِبَةِ نِعْمَةِ اللهِ الْمُعْطَاةِ لِي حَسَبَ فِعْلِ قُوَّتِهِ. لِي أَنَا أَصْغَرَ جَمِيعِ الْقِدِّيسِينَ، أُعْطِيَتْ هذِهِ النِّعْمَةُ، أَنْ أُبَشِّرَ بَيْنَ الأُمَمِ بِغِنَى الْمَسِيحِ الَّذِي لاَ يُسْتَقْصَى”. (أفسس 3 :7 ـ 8)، حتى إلى درجة أن يحسب عدم التزامه بالتبشير جالباً للويل، “فويل لى إن كنت لا أبشر” (1كو 1 :17).
لذا كان الترحال بلا توقف هو منهج ق. بولس “ثلاثون عاماً قضاها بولس الرسول فى الترحال، يضرب بعصاته فوق الطرق الوعرة، تحت رحمة اللصوص والسيول، ويمخر البحار بسفن الشراع التى طالما تكسرت به ليقضى لياليه فى العمق، لم يلتقط فيها انفاسه إلا فى السجون تحت المقطرة والقيود”.
كانت المتاعب والآلام والشدائد عنوان ارساليته، فى ترجمة حياتية لكلمات الرب يسوع وهو يحدث حنانيا عنه “لأَنِّي سَأُرِيهِ كَمْ يَنْبَغِي أَنْ يَتَأَلَّمَ مِنْ أَجْلِ اسْمِي».
وتحتشد رسائل القديس بولس بالحديث عن الألم، فيفرح به ويفتخر بل ويشتهيه ويحسبه شركة فى آلام المسيح، ليس من باب التلذذ بالألم فى ذاته، بل كان نزيف ضميره المجروح من جراء ما عذب به المسيحيين الذين وقعوا تحت سطوة فريسيته قبل أن يداهمه الرب فى مشواره الأخير إلى دمشق.
ويكشف الكاتب سر إعتزاز ق. بولس بآلامه، وهو الصليب، فصليب المسيح برأى الكاتب “كان يسطع فى قمة إدراكاته ووعيه “لأَنِّي لَمْ أَعْزِمْ أَنْ أَعْرِفَ شَيْئًا بَيْنَكُمْ إلاَّ يَسُوعَ الْمَسِيحَ وَإِيَّاهُ مَصْلُوبًا.” (1 كو 2:2).
حتى قلب له معنى الألم والمعاناة والإضطهادات والمؤذيات، حتى الموت نفسه صار عنده مسرة وشهوة يشتهيها”.
ما لفت نظرى فى سطور تقديم الكاتب لكتابه انتباهه لهدف القديس بولس المخبئ بين سطور رسائله وكرازته، فى فقرة اراها مفتاح ليس الكتاب فقط ولا حياة القديس بولس وحسب، بل هى مفتاح عمل الكنيسة ومبتغاها، دعونا نقرأها معاً غير مجزأة:
“كان القديس بولس يُطوِّع لهب اللاهوت المتأجج فى روحه لخدمة الخلاص وإنارة طريق الحياة أمام المؤمنين، فنراه ـ فى لاهوته ـ يتألق بالروح إلى آية أو آيتين، يعود بعدها ليستغرق فى التطبيق الأخلاقى، فيتحول اللاهوت إلى فضائل، يحثُ ويُعنِّف، يُرغِّب ويحذِّر، لأن عينه كانت مسلَّطة دائماً على تهذيب النفوس التى أؤتمن على خلاصها، فكلما دخل إلى العمق اللاهوتى من أوسع أبوابه، تحسبه قادماً لا محالة إلى بحث خطير، فإذ به يعود ويجرفه الحماس نحو تصحيح الأفكار وتعديل المبادئ عند الكنائس التى كانت ترتد عن الإيمان المستقيم.
وهذا بحد ذاته يكشف عن الخط الفكرى والروحى الأكثر تملكاً على نفسية هذا القديس، فهو معلِّم أخذ فيه روح التهذيب كل مأخذ، واستحوذ عليه روح الخلاص وتحرير عقول وقلوب وأرواح الناس.
وإن لزم اللاهوت فهو لحساب النفوس المتعبة والثقيلة الأحمال، ليعيد إليها أصالتها وحريتها فى الله تحت نير المسيح الهين وحِملِه الخفيف.
“وما استوقفنى هو أنه لا معنى لأى تعليم لاهوتى لا يترجم فى حياة الكنيسة، الجماعة والشخوص، إلى منظومة اخلاقية معاشة كل يوم كل اليوم، معلنة المسيح حياً فينا، وإلا تحولت إلى صراعات وآبار مياه مشققة لا تضبط ماء.
ويستطرد الكاتب فى ضبط ايقاع كرازة ق. بولس “ولكننا حينما نجمع شوارد لاهوتياته فى رسائله معاً، فإننا نكون أمام أضخم مُعجم لاهوتى ظهر فى حياة الكنيسة كلها … إن لاهوت القديس بولس قدم إيماناً مسيحياً نقياً من الخرافات والشوائب، بعيداً عن التأملات المستغرقة فيما وراء الطبيعة، وتركز فى فتح وعى الإنسان المسيحى لمعرفة ذاته، وكشف حقيقة العالم الذى تحكمه حكمة الله المخفية منذ الدهور، وأعطى أعظم وأجل صورة عن الله التى استُعلِنت بكاملها فى المسيح، … وأرجع معرفتنا لذواتنا لمصدرها الحقيقى وهى معرفة الله حتى أعماق الله بالروح، لأننا معروفون لله، وقد اعتبر بولس الرسول هذه المعرفة أنها نعمة موهوبة “لأَنْ مَنْ مِنَ النَّاسِ يَعْرِفُ أُمُورَ الإِنْسَانِ إِلاَّ رُوحُ الإِنْسَانِ الَّذِي فِيهِ؟ هكَذَا أَيْضًا أُمُورُ اللهِ لاَ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ إِلاَّ رُوحُ اللهِ. وَنَحْنُ لَمْ نَأْخُذْ رُوحَ الْعَالَمِ (فلسفة اليونان)، بَلِ الرُّوحَ الَّذِي مِنَ اللهِ، لِنَعْرِفَ الأَشْيَاءَ الْمَوْهُوبَةَ لَنَا مِنَ اللهِ” (1كو2: 11و12).
ويشرح الكاتب العلاقة بين معرفة الإنسان لذاته وانفتاحها على معرفة الله عند ق. بولس الذى يربطهما “بالخضوع والطاعة لله للبلوغ بالإيمان والمحبة إلى واقع وجودى حى فعَّال، فيتحصن الإنسان ضد الانجراف وراء أوهام العالم وخرافات التعاليم غير المؤسسة على الحق الإلهى.
ثم يضع الكاتب يده ممسكاً بأيدينا على أهم ما قدمه لنا القديس بولس، ويرد فى الوقت نفسه على من يروجون لفرية أنه أعلن قبوله الإيمان بالمسيح ليفجر المسيحية من الداخل، ويشكل مسيحية لم يأت بها المسيح، فيقول الكاتب “إن أجلَّ خدمة صنعها القديس بولس لكنيسة المسيح، والتى تذكرها له بالدموع، أنه عتقها من الناموس. ولكن لا يزال يؤلمنا حقيقة أن لاهوت بولس الرسول لا يزال يحتاج لمن يفهمه ويشرحه !! وبولس الرسول لاهوتى على مستوى رسائل، ورسائله هى بشارة حارة تستمد حرارتها من إيمان ويقين كاتبها، يدعِّمها اللاهوت بين السطور كجواهر مرصعة”.
مازال أمامنا الكثير الذى كشفه الكاتب فى عقل وروح وضمير القديس بولس وهو ما نحيله لمقال قادم. ـــجمعة ختام الصوم الأربعينى المقدس 7 ابريل 2023