محمد نصار روائي فلسطيني
في مجموعته الجديدة “جون كنيدي يهذي أحياناً” الواقعة في نحو مائة وستين صفحة من القطع المتوسط، والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، يأخذنا القاص والروائي يسري الغول في دوامة من الهذيان والغرائبية التي بالكاد تلامس واقعنا المعيش، فعبر عشرين قصة حملتها المجموعة، وتحت عناوين تم انتقاءها بعناية فائقة، باعتبارها مفاتيح أو عتبات للنص لها ما بعدها داخل المحتوى، نراه يأخذنا إلى عالم من الفنتازيا والغرائبية يئن تحت وقع نصوصه التي يريد إيصالها للمتلقي والتعبير من خلالها عما يريد من أفكار، فلجأ إلى هذه الحيلة الغرائبية لكي يستنطق من خلالها الأموات، وهي فكرة قديمة لم يبتدعها يسري الغول وإن كان قد اعتمدها في مجموعة سابقة تحمل عنوان “الموتى يبعثون في غزة”، ومن قبل وظفها أبو العلاء المعري في رسالة الغفران ومن بعه دانتي في جحيمه العجيب، وكذلك الطاهر وطار في مجموعته الشهيرة
“الشهداء يعودون هذا الأسبوع”، لكن يسري الغول حاول في هذا العمل الجديد أن يكون مغايرا من حيث الشكل والمضمون، فمن حيث الشكل جاءت قصصه طويلة بعض الشيء، تعج بالحوارات التي وظفها على نحو سليم رغم عسر احتمالها في القصة القصيرة، ومن حيث المضمون كان فلسفيا، مثقل بالأسئلة التي تفتش عن إجابات لا يمكن اخضاعها لمنطق ما، وبالتالي الدخول في حالة الهذيان التي ربما تكون الأقدر على رسم ملامح الصورة أو الحالة التي تلامس واقعنا إلى حد كبير، مثال على ذلك من القصة التي تحمل عنوان المجموعة:
(س: سيد جون لماذا أنت متضايق”؟،
ج: الثرثار يحاول استفزازي لأبوح بما أكتمه عن الأحياء في بروكلين، علاقاتي الفاجرة مع فتيات الليل ومواقفي من غزو خليج الخنازير والحروب على غزة والحرب اللبنانية الأهلية وغزو العراق…).
نرى هنا حالة الهذيان الواردة في الإجابة، فبعض الأحداث الواردة فيها لم تكن قد وقعت في عهد كينيدي، بل جاءت بعد وفاته بسنين عديدة، وكأني بالكاتب يقول: في عالم الموتى لا معنى للزمان والمكان، وكذلك كلهم على نفس الشاكلة، سواء كان ذلك كيندي أو بوش أو حتى أوباما الأسود الناعم، كلهم لديهم الحجج والذرائع، لتبرير أفعالهم حتى لو خالفت المنطق والمعقول وقاربت حد الهذيان.
ربما تدخل هذه المجموعة في الأدب الغرائبي واللامعقول، حيث أن الكاتب اختار واقعا لا حياة فيه، وخلق عوالم سردية تضج بالحياة، كما لو كان واقعا نحياه في عالمنا، فهناك التزاور بين موتاه، ونقاشات حادة أحيانا فيما بينهم، ولحظات من السعادة وأخرى من الحزن، كما في ذات القصة التي تحمل نفس العنوان “قبري ضيق ولا رفاق يشاركوني الشراب، حتى من جاءوا بعدي إلى المكان الموحش، ابتعدوا عن مخالطتي، كأن بي مسا من الجن”
المجموعة قائمة على عدد من الأسماء السياسة والفكرية والثقافية في تشابه كبير بجحيم دانتي، الذي جمع فيه الشعراء والفلاسفة وأشعل بينهم الحوارات والنقاشات الصاخبة، مع فارق بسيط أن الكاتب هنا هو من حاول استنطاق بعضهم كما في جون كنيدي يهذي أحياناً وماركيز يصفق بحرارة وبعضهم تركه لكي يتحدث عن ذاته وإن كان بإيعاز منه كما في يسقط حكم سوموزا وآخرون، تحدث عنهم بمشهدية المراقب كما في “القصة كما لم يعرفها أحد”
حيث يقول: إنهم في القسم الآخر من المقهى، يطلون على بركان يتلظى وقفص كبير لصقور بمناقير معقوفة، يجلس جنكيز خان وماوتسي تونج وستالين يلعبون الورق كالعادة، يتشاجرون وهم يعبون الفودكا، يتحدثون في السياسية الدولية والنيوليبرالية الجديدة والاستعمار باستخفاف، ثم يأمرون النادل بإحضار المزيد من الشراب”.
عالم لا يمت حتى للخيال بصلة، نجح الكاتب في رسمه وتحميله ما يريد من أفكار بعدما أدخلنا معه في حالة من الهذيان وكأني به يقول: هيك طنجرة بدها هيك غطا.
جون كينيدي يهذي، عمل رائع لقاص وروائي بارع.