نجــيــب طــلال
كـشاف ضـوئي :
عبر إضاءة فائقة الاضاءة ، نجد أنفسنا أمام دراسة/ منجـز (1) يبدو متفـردا من حيث تركيبته ومعطياته عن أغلبية الأبحاث الفرجوية التي أثارها العديد من الأنتربولوجيين والإتنولوجيين ومفكرين متميزين، ومتخصصين في عوالم المسرح، وقضاياه المعرفية/ الفرجوية ، الذي استعان بهم المنجز، الذي هو في الأصل أطروحة جامعية : نوقشت سنة1992 (ص5) بحيث جزء يسير منها تم نشره في (2) وبعْـض منه في الأصل مستند على منجز سابق ( آثار التلقي) وهذا بدوره جزء منه تم نشره في (3) فبصرف النظر عن الظروف الذاتية للباحثة ” نوال بنبراهيم” التي تحكمت في اختيارها للموضوع في سياق مجريات الخصوصية التاريخية والثقافية والجغرافية والبشرية ، المفعمة في البحْـث. لأن أي كتابة كيفما كان نوعها أوقـيمتها ؛ حينما تصدر تصبح مادة استهلاكية خارج ذات المنتج ولاسيما أن “الكتاب ” في عموميته بعيد عن عالم التسلية ، قريب للجدية .
رغم بعض الاضطرابات وتشويش في التركيب والمنهجية، نظرا أن الكتاب: يعد مجالا تطبيقيا لمكونات التركيبية المفرزة في كتاب سابق تحت عنوان” آثر التلقي” لأنه دخل تجربة كشف أثر تلقي المسرح – نصا وعرضا- ليبرز انعكاس جمالية الإنتاج على آثر التلقي (ص121) وبالتالي فهذا الاختراق لفضاءات متعددة لنشر منتجوها ” ورقيا ” يسمح لنا أن نتساءل؟
فهذا المنجز الذي بين أيدينا، هل هو اختصار لمسافات التفكير، عند القارئ المفترض / المهتم ، من خلال مـا تفكر فيه أو تستهدف إليه لمحاولة قلب المفاهيم واستنتاج بعض خبايا مسألة [ التلقي] ؟ أم أن الأمر مرتبط بفكر/ رؤية تحريضية ، بغـية إشراك ( الآخر) في حفريات معرفية تمكن كل الأطراف إثبات دور التلقي كمجال خـصب ؛ في سياق فرجة طقسية وشعـبية ومسرحية ؟
لكن ” نوال بنبراهيم” أوقفت السؤالين كإضاءة مؤجلة؛ بناء على سؤال تراه محوري بالنسبة لها: متى يكون الدراسة التي قدمناها مجدية بالنسبة للباحث المهتم بمتلقي العرض ؟ طبعا لا نعني بهذا السؤال ، أن ما أوردناه سلفا يخلو من الفائدة.
وإنما نريد أن تبين أثر التلقي هذه الفرجات الشعبية على المتفرج المغربي الذي يشاهد العروض المسرحية (ص29) بداهة أي شيء له تأثيراته وأثـره الفاعل سواء / ذهنيا / سلوكيا / فكريا / عقائديا / جسديا / جماليا / وهذا لم تتناوله بالتفصيل؛ بحكم أن اشتغالها اتجه في سياق سيكولوجي/ نفسي؛ لإثبات المشاركة الانفعالية كنشاط يترك بصمات ملموسة على المستوى الفيزيولوجي: لأن رغبة المتفرج هاته ليست ناجمة عن تأثره بتلقي الفرجات الشعبية فحسب، وإنما عن بحثه عن طريق تخلصه من حالات النفسية المضطربة وتطهره من أزماته الماضية، ومثل هـذا التخلص لا يحصل إلا بمسرح يعلن إمكانات تحريرية تساعده على رؤية ذاته… وإذا ستحضرنا هذا علمنا أنه ليس في وسع المتفرج المغربي العادي أن يتقبل إلا العروض المسرحية التي توقظ الحواس، وتثابر على جعل الأنا متأثرا(ص31)
هنا تجدر الإشارة ؛ حينما أشرنا بأن المنجز يبدو متفـردا، فالقصد يندرج في صلب الاشتغال على جانب “فـرجوي ” لم ينتبه إليه أحد ولم تنجز حوله دارسات جادة ومكثفة ؛ وبالنسبة لنا يعد الموضوع مغامرة في تناولها مجالا ذو طابع روحي / ديني، له ارتباط بطقوس الزوايا والتي اعتبرته من الفرجات.
بالقول الواضح : الواقع أننا نعْـتبر هـذه الفرجة التعبيرية ظاهرة فنية وجمالية تملك خاصية دينية ؛ وفي الوقت نفسه خاصية اجتماعية .
تعبر عن الحياة اليومية لذلك يعتبرها المنظمون فـرجة مع باقي فرجات عيساوة ( ص14) لكن الملاحظ هنا تطرح الفرجة بصيغة ( الجمع) مما يحدث ارتباكا في متابعة المنجز؛ ومحاولة القبض على مشروعية المبتغى الذي تهدف إليه، بحكم إغفال اشتغالها الفرجوي المعلن عنه في البداية وذلك في سياق التلقي وآثره ؛ وإن سعَـت في المنطلق التركيز على [ فـرجة الأسود واللبؤات] كمجال حيوي يتقاطع فيه المدنس بالمقدس ، والحياة بالموت، والدنيوي بالغـَيبي؛ كتقاطعات مفتوحـة ، لفهم الأبعاد الاجتماعية والثقافية والسياسية لمجتمع زمن السلطان مولاي اسماعيل (ق /16) وزاوية ” الشيخ الهادي بنعيسى .
فمادام الأمر كذلك؛ فلا محيد أن يتم تجسّد تلك ( الفرجة) كفعل إنجازي لمحاولة زعزعـة بنية النص المنغلق، إثر كل قراءة سواء في “دينامية التلقي” لدى المخرج والممثل أوتـَلقي المتفرج” للعرض المسرحي. لكي يستقيم التركيب بين العرض المسرحي والفرجة المطروحة للنقاش ! والقول الثاني ،
لقد تم تغيب العقل في سياق أثر التلقي، ليسقط المنجز في سياج/ فـخ- أرسطي محض- ربما ليس اختيارها بقدرما يكون اختيار المشرف على أطروحتها ؟
مركزا على “الكاتتريس” ؛ إلا أن الجديد في بحث الأستاذة ” نوال بنبراهيم” تشير : بأن هذه الفرجات تتوفر على نوعين من التطهير. أولهما يخص الممثل… التي تصبو إلى تطهير المريد جسميا ونفسيا ليتخلص من أزماته وأحاسيسه الماضية؛ وليتمكن من معرفة ذاته وثانيهما يتعلق بالجمهور الذي يعد وجوده شرطا اساسيا لإقامة فرجات الحلقة وسيد الكتفي وعبيدات الرما وباقي الفرجات الدينية التي لا تهتم بإلغاء حواجز الجمهور النفسية (ص25/26) إذن نحن أمام الاندماج أو التقمص ؛ وهاته التقـنية تساهم في تطهير المتفرج ؛ لكن كـيْـف سيتحقق التطهير للممثل، وهو مساهم في عملية تفريغ الاثار المترسبة في أعماق الفرد [ المشارك/ المتفرج] ؟ ففي سياق الفرجة التي تبنتها الباحثة نقاشا ، نستشف أنها جعلت من [الممثل] قـرين [المريد] كـَرهان، باعتبارأن هاته الفـرجة أساسا: تنجز من قبل ممثلين محترفين تلقوا تدريبا قاسيا على يد شيخ الفرقة… وتخضع إلى قـواعد مقننة يجب أن يستوعبها الفرد قبل أن يصبح “مريدا” وهو الإسم الذي يطلق على ممثل هـذه اللعبة (ص17) فهاته اللعبة هل هي أساسا طقوسية شعائرية ترتكز على الإيقاع والجسد. للتعبير عما وراء اللعـب؟ أو مجرد لعب في سياق الاحتفاء بموسم بالشيخ ” الكامل”؟
الإضاءة المثالية :
الإشكالية التي وقـع فِـيها ويسقط فيها ، كل من يتناول ظاهـرة الفرجات الشعبية ؛ وإلا وينطلق من مسلمات انوجادها في وجدان الأمة ، هكذا. يعد مجازفة نظرية ومنهجية خطيرة جـدا تؤثر على تفكيك بنيات تلك الفرجات ؛ ومن تمة يتم الإغفال أو التغافل، بأن كل الأشياء المتداولة في فضاء (ما ) لها معنى- الاجتماعي/ / السياسي/ ثقافي/إيديولوجي/ وبالتالي فالإشكالية بالأبستمولوجية ( عندنا ) هي أننا لانعرف متى ظهرت تلك ( الفرجات)؟ وكيف انوجَـدت تلك ( الإرهاصات) ؟
ولماذا انوجدت تلك (الأشكال)؟ وماهي الأسباب والدوافع ؟ وهذا ينطبق كذلك على الأخت” نوال بنبراهيم” في عدم الغوص في حفريات التاريخ المحايث لتك ( الفرجة ) في منجزها . بحيث لم تعطينا ولو إشارة تاريخية كنوع من الإستئناس أو محاولة لتفكيك تمظهرات السوسيو – ثقافية لـفـرجة ( فرجة الأسـود واللبؤات) ولكن تبرر بتبرير منطقي: لأن ذلك يتطلب بحثا مستقلا وجهدا خاصا، لكننا نحرص على دراسة بعض المشاهد التمثيلية التي تنتمي إلى فرجات عيساوة…. اقترابها الشديد من الفرجة المسرحية ؛ حيث تضم جل عناصرها كالأداء والحركة والزمان والمكان والملابس والنص لكنها لم تتطور(ص14) فهاته اللعْـبة التي تعتبرها الباحثة من ضمن الأنساق “الفرجوية” هل هي من صلب الحدث الديني/ الصوفي/ الطقوسي أو الاجتماعي/ السياسي المرتبط بمرحلة ظهور وامتداد زاوية الشيخ” الكامل ؟
وكيف يتلقاها المتلقي؟ فمثل هاته الأسئلة ، تفرض الغوص في تاريخ عوالم “العيساوية” التي تتزامن وحكم السلطان” مولاي اسماعيل العلوي” وما بعْـده. بحيث أن تأسيس الزاوية ذات أرضية شاذلية ؛على الكتاب والسنة كما أكد الشيخ” بنعيسى” في وصيته وهي معلقة في ضريحه [ طريقتنا هذه لا تدخل في قلب قاسي ولا جسم عاصي . .ولا هي خارجة عن الكتاب والسنة بل هي حكمة علية وموهبة .
لدنية على السنة و النية و مسقاة على أثر الأنبياء و الأولياء….مع دوام ظاهر صاحبها على الاستقامة, فمن عمل على هذا فهو من حزبنا ومحسوب علينا…] فهاته الوصية شافية كافية، بأن كل ما تجاوز الأذكار والأدعية والتوسلات والتحميد “الرباني ” فهو دخيل على الحزب، بمعنى أن هنالك انحرافا وقع في الطريقة الصوفية / الدينية .
( ربما) ولكن عبر الصيرورة التاريخية واتساع رقعة المريدين، فمن الطبيعي أن تكون هنالك انزلاقات أو حضور أيادي خفية تضيف ما تضيفه لمصلحتها ؛ هذا: فكما أن فكرنا منطقي فالفكر البري منطقي أيضا، إلا أن التشابه بين هذين الفكرين لا يكون تاما إلا حين ينصب فكرنا على معرفة فضاء(أو عالم) (4) وبالتالي فإذا كانت بعض “الطوائف” تمارس الحضرة بإيقاعات موسيقية مختلفة، فهناك من يمارسها على شكل ( ألعاب ) تقوم على تشخيص بعض الحيوانات – ك [الذئاب الجمال الأسود] فهذا التداخل نجده في كتاب الأخت ” نوال بنبراهيم” بحيث لم تحاول تفكيك الفرجة ( اللعب) عن الجذبة / الحضرة ، ولاسيما أن للموسيقى “العيساوية” ميزة خاصة تخاطب الروح والجسد، واعتمادها على الإيقاع ؛ بشكل رهيب. وبالتالي فالإطار الفني للطريقة العيساوية يشاع بأن أول من أدخل آلات الطرب تلميذه أبو الروائن المحجوب.
لأنه هو من خلف شيخه سيدي امحمد بنعيسى على رأس الزاوية العيساوية ، لكن بالعَـودة ل(دوحة الناشر) لابن عسكر. لاوجود لهذ الإثبات ، مما ستكون رواية أحفاد الشيخ قريبة للمنطق بأن:
أول من أدخل الغيطة للطريقة العيساوية تلميذ الشيخ الولي المشهور سيدي محمد الشباني…والطبلة اضافها تلميذه الشيخ ع الرحمان التاغي… ؛ ف ” عيساوة ” اسم يحيل عند البعض على أجواء غرائبية يختلط فيها ما بين صوفي بما هو فلكوري؛ حيث يتماوج الذكر مع النغم، ويلتحم ايقاع الجذبة بنغمات الحضرة ، فتنفتح “الطائفة “أمام أصناف من المريدين. بين راقص مأخوذ وجاذب مشدود (5) وما يتبين أن هنالك حضرة سميت
ب”الشيبانية”، نسبة إلى الشيخ “محمد الشباني” طقوسها صوفية ؛ فمن أين اخترق “الزاوية ” الانحراف؟ وكيف تهجن الصوفي بما هو فلكوري ؟ هنا يثار بأن العيساوية : فقد كان أتباعها من الجاهلين يتخذون من يوم الجمعة صبغة دينية تمتزج فيها دقات الطبول ونغمات الموسيقى، حتى يصلوا إلى حالات هستيرية، فيلتهمون الزجاج والصبار ويبقرون بكيفية وحشية الأكباش المهداة إليهم وهي حية (6) فهاته الحالات الهيستيرية لها سياقها؛ السياسي وليس الطقوسي، رغم أن السلطان مولاي سليمان اعتبرها من البدع وأصدر خطابا مفاده : وأنفقوا في سبيل الطاغوت في ذلك دارهم وأقواتا ! وتصدى له أهـل البدع من عـيساوة وجلالة وغيرهم من ذوي البدع والضلالة ، والحماقة والجهالة… وليس الصراط كثرة الرايات؛ والاجتماع للبيات. وحضور النساء والأحداث، وتغيير الأحكام الشرعية بالبدع.. (7 ) ولكن قبل هاته الخطبة : لجأ المولى سليمان لأول مرة إلى بلورة استراتيجية تهدف إلى اقتلاع الزاوية من جذورها من خلال وضعها خارج الشرع..
كما حاول فك الارتباط بين الزاوية والقبيلة من خلال تنديده ورفضه لممارساتها باعتبارها بدَعا مخالفة للسنة (8) ولهذا فـَنزول الخطبة نتيجة فشل سياسة المواجهة؛ ولاسيما عبر محطات تاريخية نستشف عدة محاولات لنسف بعض الزوايا إما المعارضة أو المحايدة عن المخزن ، وخاصة في فترة السلطان سيدي محمد بن عبد الله والسلطان مولاي اسماعيل.
أثرت هذا لمحاولة القبض على تمظهر الفرجة التي أثارها المنجز، بشكل مقتضب والتي كانت تدمج ( جمعا ) ضمن الفرجات ، بطريقة ميكانيكية ، وإذا عدنا الاستبيانات التي اشتغل عليها البحث لاستخراج التلقي سوسيولوجيا وخاصة في (ص96) جدول (رقم 20 الفرجات الشعبية ) نجد سوى ( الحلقة/ عبيدات الرما ) فأين هي فرجة [الأسود واللبؤات] من الاستنتاج؟
إضـاءة خــافــتة :
فالمنجز قام باستجواب 200 شخص،حَـول فرجة [ الأسود واللبؤات ]؟ فلم يحصل إلا على 20 مستجوبا تمكنوا من رؤية هذه الفرجات؛ وهي نسبة ضعيفة جدا وهنا: لانشك أن البشر عندما تعاملوا مع الخصائص المحسوسة التي تميز ممالك الحيوان والنبات وكأنها عناصر ( إشارات) رسالة معينة- أي دلالات- أخطأوا تعيين مراجع الرؤية والاستدلال: أي العنصر الدال لم يكن دائما العنصر الذي ظنوا (9) فحتى أحفاد “الشيخ “كما أشرت سلفا. لم يتطرقوا لفرجة ( الأسود والذئب) هل لأنها خارج منظوم الطقوس؟ فالإجابة تأتي من المنجز: إنها شكل فـَرجوي بدائي يبدو لغـزا خفيا يعتريه كثير من الغموض، لأنه يعتمد على حركات لعبية غير مفهومة ورموزا صوتية مبهما ولعل هذا ما يفسر التأويلات العـديدة التي قدمتها هذه الفرضيات (ص14) هكذا يبدو ، لكن هناك توظيف رمزي” لافت للانتباه ، يتداخل فيه الخيال الجمعي بالإرث الثقافي وبالأسطورة، ولاسيما إنّ الانسان البدائي لم يتخلّ أبدا عن الطبيعة والحيوانات عمومًا كمصدر أساسي للدواء .
مما يتبين أن موضوع الفرجة الذي طرحته الأستاذة ” بنـبراهيم “أعمق ويحتاج لدراسات معمقة ، بحيث هنالك انفصال وانفصام بين التاريخ والحوليات والاستوغـرافيا والاشتغال الفرجوي في المجال المسرحي ، وبالتالي : تعتبر الزوايا طرفا فاعلا في الصراع الاجتماعي والسياسي الذي يعرفه المجتمع، ويؤكد حضور البعد السياسي ضمن البنية المرجعية للزوايا سواء اتخذ هذا الحضور شكل مجموعات ضغط على المخزن كما تزعم “Morsy Magali” أو مشروع حركة سياسية تريد الوصول إلى السلطة كما يدعي” Michaux Bullaire” داخل كل زاوية توجد نواة للسلطة”(10) ففي هذا المضمار بالنسبة للزاوية “العيساوية” التي تبدو لنا صوفية و سليلة الشاذلية وجـزولية المنهج .
مسارها يلفه الغموض وهناك حلقات تاريخية / سياسية فارغة أو ذات بياض، ولاسيما أنها اخترقت المجال البدوي في مغرب ذاك الوقت؛ وخاصة مناطق الغرب التي استوطنتها الزاوية “الدلائية ” التي كانت من أشد معارضي المخزن الاسماعيلي. وبالتالي: فالبدائيون هم بدو في لغتنا يضجون في تاريخنا الذي لم يبدأ بتدميرهِـم وبتـْرهم عن فطرتهم؛ إن هجراتهم هي أهم أحداث تاريخنا ، إنهم الداخل المتقابل في الذاكرة (11) وهَـذا لـَم ننتبه له ، بأن البادية هي الخزان الأساس للوجدان وللوعي الشعبي وللهوية، وكل عودة إليها هي عودة لإثبات الذات. وفهم أسباب نزول العديد من الفرجات. مقابل هذا هنالك حكايا كثيرة بين المخزن والعيساويين؛ أبرزها مسألة الطرد من لدن السلطان مولاي إسماعيل.
للشيخ “محمد بن عيسى” من مكناس فخرج منها مع مريديه إلى البادية ، وكذا صراعها الخفي مع الزاوية ” الفاسية” وتحامل بعض العلماء عليها، وقبل كل هذا الحصار الذي فرضه السلطان نظرا: أن قوة الزوايا المركزية كانت تكمن في عملها اللامركزي وفي تغلغلها داخل البوادي، فقد فرض إسماعيل على جميع الزوايا أن يكون مقرها فاس حتى يسهل عليه مراقبتها(12) وبالتالي فمولاي إسماعيل كانت له حديقة الأسود؛ تغذيتها ومعاشها من أجساد الأسرى/ السجناء ومن خلالها هنالك روايتان. بحيث الرواية الأولى فيها نوع من المطابقة وقريبة جدا لما ينوجد في الفرجة مع نوع من الاختلاف طبعا .
(1) قصة السلطان” م اسماعيل” الذي طلب من الأسير “بيرنار بوصي” اعتناق الدين الإسلامي، لكنه تمسك بديانته المسيحية ، وفضل أن يكون جسمه طعاما للأسود من أن تصبح روحه فريسة للشياطين، ؛ مما سعى السلطان لقذفـه في “حديقة الأسود” : لكن” بوصي ” ألـقى بنفسه في وسط أربعة عشر أسدا ضخما.
لم تأكل منذ ثلاثة أيام. قامت تلك الوحوش فورا ؛ حين رأت الفريسة؛ وجعلت تزأر وتستعد للانقضاض على ذلك الشاب، الذي كان يذكر الله ويتوسل إلى” سيدتنا “حامية الأسرى وإلى “سانت آن”.
لكن تلك الحيوانات لم تلبت أن جثمت مرة أخرى وكأن قوة سرية أمسكتها…وقد اقترب منه أحد الأسود سبع مرات ليفترسه، لأنه كان جائعا أكثر.
وابتعد سبع مرات دون الإقدام على ذلك، فصار أسيرنا كأنه دانيال جديد، يحمد الله وسط تلك الوحوش المفترسة، التي لم تستطع أن تلحق له أي أذي ( 13) إذن، وبنوع من المقاربة والمطابقة من المنجز نستشف :أن الفرقة تلجأ إلى تنظيمه بتقسيم المكان الشخصي داخل الدائرة إلى ثلاث مستويات. مستوى أول يظهر فيه الأسود التي لا تتحرك إلا بأمر رئيس الفرقة الذي يدعى الشيخ ويبلغ عددها عشرة.
ومستوى ثان يشكل محور الدائرة ويستأثر به الشيخ زعيم الأسود الذي يدير اللعبة ( ص15) فمن هو رئيس الفرقة ؟ ألا يكون [السلطان] المتحكم في اللعبة ، والمروض للأسود وإن كان هنالك اختلاف في العدد(10/14) ومن هو الذئب؟ أليس الأسير “بيرنار بوصي” الذي ألـقى بنفسه في وسط أربعة عشر أسدا ضخما؛ وهاته صفة ( الذئب) ومضرب المثل في الشجاعة والدهاء، ولا يتراجع عن الطريق الذي جاء منه، و قادر على المراوغة و يتحلى بخصلة التفاؤل وهو أصبر الحيوانات على الجوع، ووفي لمبادئه الزوجية، ولكن أشد الحيوانات عداوة للإنسان (14) فهـذا بعكس ما نعرفه عن الذئب ، ولعلَّ اهتمامَ العرب به ؛ نـثرًا، وشِعرًا يعـود لتأثُّرهم به.
وانطلاقا من كل هذا فهو :مفتاح الفرجة الذي ينحصر في شخصية الذئب باعتباره ركيزة أساسية في البناء الداخلي ، ولهذا السبب يحظى بالبطولة الفعلية حيث يقود الحكاية ويوجهها من البداية إلى النهاية، والأغرب من هذا أن الأسود رغم كثرة عَـددها وحضورها المكثف في مكان الفعل؛ فهي لا تقوم إلا بالبطولة الصورية (ص21) أليس هنالك تطابق والقصة التي رواها الأسير[ مويط ] بحيث ( الذئب) لم يمت، ولم تفترسه الأسود، لكن الذي يذكي مقصديتها أن ( المريد) في الفرجة والذي يمثل ( الأسد) بدون قناع ؟ يتحرك سبع خطوات للأمـام ، ويتراجع سبع خطوات للوراء ! فهل هذا محض صدفة ؟ حينما نعيد قراءة القصة (وقد اقترب منه أحد الأسود سبع مرات ليفترسه، لأنه كان جائعا أكثر.
وابتعد سبع مرات دون الإقدام على ذلك) أليست هاته: صورة متحركة تصارع الموت وتفر من الزمن الواقعي والمحدود، لتتعلق بزمن إلاهي غير منته، ولذلك نسمع الممثلين يرددون عبارة الإرتقاء والسمو والغيبوبة والارتفاع ظنا منهم أنهم يعيشون أثناء تقديم المشهد التمثيلي زمنا أزليا . حيث يخرجون من الزمن المغلق ويلجون زمن أخـر، لانعرف عنه اي شيء(ص17) وفي هذا الصدد.
ألم يكن ( بيرنار بوصي) يذكر الله ويتوسل إلى” سيدتنا “حامية الأسرى وإلى “سانت آن”؟ وبالتالي هاتين الأخيرتين ، ومن باب المجاز ألا يكونا اللبؤات بحيث تشير ” نوال بنبراهيم”… تتحول اللبؤات لأول مرة من شخصيات غير فاعلة إلى فاعلة تصبو إلى حماية الذئب الذي يتظاهر بالموت ليتمكن من الفـرار (ص22) مقابل هذا فكان الداعم لصموده الأسرى[الممثلين يرددون عبارة الإرتقاء والسمو والغيبوبة] وجعلنا نصلي ونطلب له الإعانة الربانية.
وبما أننا حفرنا بعض الثقوب في السور( المشترك يننا وبين الأسود) لنراه.. كـنا نحـثه على التشبث بالثبات، وأن يـُفضـل الموت على التخلي عن دينه، الشيء الذي كان يعدنا به بحماس (15) هنا فالموضوع ( الفرجة ) يتضمن صيغة [ دينية ] وتحمل صراعا [ عقائديا ] بين [ الإسلام/ المسيحية ] بين [ السلطان/ الأسير] بين [ الأسود / الذئب] وهذا التقابل : تقوم به الأسود التي تساهم في ترسيخ العدالة، لأنها تملك سلطة جسدية تستطيع بفضلها أن تنتشر في الفضاء وتقهر العدو، لذلك تبادر بطرد مثير الشغب من عشيرتها ، كما أنها تملك سلطة فكرية، تمكنها من اتخاذ القرارات في حق العـدو، وتنظيم الحياة داخل الجماعة لتحافظ على التضامن والتكافل (ص18) فإن كانت المطابقة نسبية في مطابقتها ؛ فكيف هاته القصة اخترقت فضاء الزاوية الهادي بنعيسى” ؟
أليس عن طريق الرواية (2) وبعد بضعة أيام، لم يكن للأسود نفس الاحترام لثلاثة فقراء أو فقهاء في الشريعة الإسلامية، تعرضوا للوم الملك على قساوته، فأمر بإلقائهم في نفس الحديقة ومزقت أشلاؤهم على الفور (16) فهؤلاء الفقراء( الدراويش) ربما (هـُم) من مريدي ” الهادي بنعيسى”؟ أومن قبيلة المختار أو اسحايم ؟ ولرد اعتبارهم الرمزي، والدفاع عنهم ؛ وعن غيرهم. تم توليف قصة ( بوصي/ السود/ م أسماعيل) كفرجة تمرر السخط والإدانة للمخزن، واسترسال شفرات عن استبداده وتسلطه وظلمه : إذ تشعر الذات قلقا مزعجا وحزنا عميقا… ليدخل المنخرط بعد ذلك في هيجان وغضب تامين حيث يلجأ إلى تمزيق ثيابه وإصدار صراخ غريب وحركات عشوائية لنكوص الجهاز الإدراكي الذي لم يعد يشتغل بطريقة عادية(ص27) وهاته الحالة الهستيرية ، ألا تحيل لوضعية ( السجين) الذي يريد أن يتحرر، وإن كنا ندرك بأن “الزوايا “هي كونها تجمعات تحيط نفسها بطقوس خاصة ، تنتمي إلى خليط من المعتقدات وتبني قوتها على الغموض والأسطورة ، فكما أشار مترجم ، تجاه القصة التي ذكرتها من (رحلة الأسير مـويـط) بأن الجانب الملحمي ؛ ظاهر في هذه الأسطورة .
هل حقيقة هي أسطورة أم خرافة منمقة أم هي حقيقةْ حقيقـَةٌ ملموسة ومُعاشة؟؟ لكن الأغرب لماذا فرق الأسود واللبؤات تنتمي إلى قبيلة المختار وإلى اسحايم؟ وهي المتخصصة في هاته اللعبة/ الفرجة ؟ فما هو معروف تاريخيا أن الشيخ ينحدر من قبيلة أولاد أبي السباع.
والمولد قبيلة سحيم المختار بسهل الغرب، وأخواله من قبيلة الفهديين المختارين، حتى أنه تزوج من السيدة “الطاهرة ” من قبيلة المختار. وهي الأكثر اعتناقاً وتشبتا لممارسة الطريقة “العيساوية ” التي تحمل بين طياتها غرائبيتها وتمثلاتها وواقعيتها، وبالتالي: صبيحة يوم عيد المولد النبوي، تكون مخصصة في البداية لقبائل » سحيم ومختار « الذين يتجمعون ، على شكل موكب صوب الضريح، يمزقون ألبستهم، يضربون صدورهم ، وعند الوصول يتدفقون إلى داخل الضريح صارخين بالدارجة العامية المغربي » اخرج البراني « أي » أخرج أيها الغريب «ويستمرون في ترديد ، اسم الله ، وبعد أن ينال منهم التعب، يرجع» السحايم «الى مواقعهم، في حين يبقى” المختاريون” بجانب القبر(17) وهذا يبين أن أية ممارسة ليست اعتباطية ، بل لها أبعادها وأسبابها وضوابطها، مما نستشف بأن الشعائرية تتسم بقابلية التأقلم مع المستجدات التي كانت وقتئذ.
بالتالي فانتقال الفرجة من البادية إلى المدينة له مغزى أساس، بأن وحشية الحدث تمت في المدينة/ السجن، باعتباره: فضاء دلاليا معينا يتمتع بجميع مواصفات الموضوع المطلق، ليتقرر أن طريقة البدائيين في إدراك عالمهم ليست فقط متماسكة بل الطريقة المفترض اتباعها لمعالجة موضوع تظهر بنيته العنصرية على شكل مركب معقد يقـوم على الفصل( 18) وفي المنجز للباحثة ” نوال بنبراهيم” صيغة شبه تفسيرية لمقولة ” شتراوس”: تختار فرقة الاسود واللبؤات المدينة كمكان درامي تدور فيه أحداث الفرجة وهذا الاختيار ليس اعتباطيا .
وإنما أتى انطلاقا من إدراكها العميق بأن المدينة تشكل مكانا للتجمع والالتزامات والمواسم الكبرى (ص15) كل هذا التأويل مَـا علاقته بالتلقي وآثـره ؟
فالمنجز قـفـز عن “الفرجة” من حيث التلقي وآثره؛ بحيث ليس هنالك جدولا خاصا بها ما دمت ضمن توليف المنجز، وهذا يتبين أن عموم الناس لا يعرفـون هاته ( الفرجة ) علما أنها تصرح في خاتمة الكتاب: ولقد ذهبنا الى تحليل مشهد تمثيلي ينتمي الى فرجات عيساوة في الفصل الاول اذ حاولنا استنطاق تجلياته الظاهرة والباطنة لنثبت انها ظاهرة فنية جمالية لها خصائصها تعَـبر عن الحياة الاجتماعية والدينية بالتعبير الجسدي الذي يعتمد على لغة الحركة (ص 121) فهاته الفرجة هل هي ظاهرة فنية جمالية؟
إن التشكل الجدلي للمعنى ضمن التجربة الجمالية، يرتهن بتحقق تواصل في مستويي الشكل والمعنى، أي أنه يقتضي أن تكون للموضوع الجمالي في أن واحد، خاصية شكل فني (19) لنسلم أنها تحمل شكلا فنيا ، ولكن المعنى في هاته الفرجة ، تحيلنا لمعنى المعنى وبالتالي فالدلالة تشير حتما إلى سياقات ممكنة. ويمكن أن أضعها في سياق إيديولوجي أكثر مما هو طقـوسي، لأنها تخفي وترسل رمزيا وحشية الوضع الذي أحاط بالزاوية ( العيساوية) وحصارها واتهامها من لدن علماء الوقت وخاصة لحسن اليوسي وغيره. لأن هاته الفرجة/ اللعبة ، لم تأت من فراغ : وإنما تفضح التناقض الذي يعتري المجتمع، وبقدر ما تخنق حرية التعبير عن الراي والتحرك بقدرما تتعرقل مسيرة تطور هذه الفرجات التي تقدم لنا نظرة عن العقيدة والعادات والأخلاق والقوانين السياسية والأوضاع الاجتماعية (ص25) وهنا فكتاب” نوال بنبراهيم” يفصح بشكل غير مباشر على رمزية الفعل في اللعبة: إن الميم لغة ضرورية في هذه الفرجة تعبر عن تلاشي المريد في الدور وإدراكه له.
ويتكون من عناصر تركيبية تفرز الغضب والحزن ، الفرح والنشوة.
وهو شيء يدل على أن الميم يجمع بين التعبير الجسدي والنفسي، لذلك يمكن أن نعده نقطة تمفصل حركات الجسد وحركات الجهاز النفسي( ص20) لكن لماذا لم تخترق الفضاء الركحي، وتهجن في سياق بعض السرديات؟
بكل بساطة، فهاته الفرجة غير معروفة عند أغلب المبدعين والباحثين؛ ولاسيما أن زمن فعلها ينحصر فقط في موسم عيد المولد النبوي، وهي أساسا متمفصلة عن الرقص الطقوسي والغناء والإنشاد الرباني، الذي تمارسه الطوائف العيساوية، وتلك العَـوائد القربانية وأكل لحومها التي هي بمثابة: طقس اتحاد وتشارك، ونوعًا من التمازج والتماهي بين الإنسان والإله، فليس القربان هنا حيوانًا يصير مقدّسًا بتقديمه قربانًا للإله ، وإنّما يصبح القربان رمزًا للإله نفسه”[20] مما تكـون “الفرجة” محصورة في لغتها الميمية ومحادثة صامتة كوسيلة تعبيرية ، فإذا رجعنا للاستمارات التي أفرغتها الباحتة” بنبراهيـم” من الكم الى النوع. نقبض على خلاصة مفادها: أن جميع الفئات المستجوبة ترى التجربة الجمالية الركحية بمنظار واقعي.
فهي تريد عروضا مسرحية تعرض علامات تستمد مرجعيتها من الواقع وتستجيب إلى آفاق كل متفرج …إن الاشكال الفنية التي تعرض المألوف وتستجيب للذوق الأخلاقي والديني والاجتماعي والنفسي ، تكون مستحبة لدى المتفرجين (ص 90)
الإستــئــــناس:
1) تلقي المسرح- المغـرب نموذجا- لنوال بنبراهيم – بدون تاريخ – مطبعة شمس برينت سلا
2) الأشكال المسرحية –- نوال بنبراهيم – مجلة المناهل ع 56 / ديسمبر 1997
3) دينامية التلقي- نوال بنبراهيم- عالم الفكر عدد1/ يوليو1996
4) الفكر البري : لكلود ليفي شتراوس- ت / نظير الجاهل (ص320) ط/ 3 -2007 مجد المؤسسة الجامعية – بيروت
5) الشيخ الهادي بنعيسى – صحيفة المعهد الفاطمي المحمدي( تحقيق) في 25/11/2019
6) الطرقية في المغرب :انحـرافات فكرية سياسية اقتصادية لمحمد أفزاز ص80 مجلة كان التاريخية- س3/ع 8- يونيو 2010
7) خطبة السلطان المولى سليمان : في الانتصار للسنة ومحاربة بدع الطوائف الضالة ص11/13مكتبة ومطبعة الساحل- الرباط
8) الزوايا والطرق الصوفية في المغرب لقاسم الحادك ص64 مجلة الدراسات والبحوث الاجتماعية- جامعة الوادي العدد الأول- سبتنبر2013
9) الفكر البري- ص 321
10) الزوايا والطرق الصوفية في المغرب- ص61/62
11) الفكر البري – ص6
12) سجن قارا لتامر صحصاح – ص 62 بدون تاريخ .
13) رحلة الأسير مـويـط – ت/ محمد حجي- محمد الأخضر – ص52- مركز الدراسات والبحوث العلوية الريصاني
14) لننظر لكتابي (الحيوان) للجاحظ و(حياة الحيوان الكبرى): لكمال الدين بن موسى الدميري المتوفي1406م
15) رحلة الأسير مـويـط – ص52
16) نـــفـــســــه – ص53
17) من وحي تاريخ التصوف بالمغرب: طقوس صوفية شعبية تأبى النسيان (التصوف العيساوي) أنموذجا: لعبد العزيز عموري مجلة الثقافة الشعبية ص 79- ع 55 / س 14- خريف 2021
18) الفكر البري- ص 320
19) جمالية التلقي لهانس روبرت ياوس ت رشيد بنحدو ص124 المجلس الأعلى للثقافة 2004
20) حياة التراجيديا في فلسفة الجنس التراجيدي وشعريته: لعبد الواحد بن ياسر ص 31-32/ ط1- 2006مطبعة الوراقة الوطنية