د.ماجد عزت إسرائيل
يوم الخميس الموافق (23 فبراير2023م) تحل علينا الذكرى الرابعة عشرة لرحيل أمي الحبيبة الطيبة (1931-2009م)، ففي كل عام من شهر فبرايـــــر تحل ذكـــــراها العطرة،حيث تنيحت (توفيت) في(23 فبراير2009م)، فى ليلة بدء الصوم المقدس.
واليوم تحل الذكرى بعد ثلاثة أيام من بدء الصوم المقدس-20 فبراير 2023م، ويرجع هذا إلى طبيعة التقويم القبطي الذي تعتمد عليه كنيستنا القبطية الأرثوذكسية في تحديد الأصوام والأعياد والمناسبات والاحتفالات.
والضمير في الكتاب المقدس يعني حرفياً «معرفة المرء نفسه».
أي أن الضمير هو مجموعة من المبادئ الأخلاقية التي تسيطر أو تتحكم في أعمال الشخص وأفكاره، وهو يشمل الإحساس الداخلي بكل ما هو صحيح أو خاطئ في سلوك الشخص أو دوافعه، وهو ما يدفعه للقيام بالعمل الصّحيح، وهو إحساس أخلاقي داخلي عند الإنسان، تُبنى عليه تصرفاته، ويحدد الضمير درجة نزاهة وأمانة الإنسان، وشعوره بالسلام الداخلي نتيجة نقاء ضميره.
وأيضًا تدخل مفاهميم الإرادة والنية والواجب الأخلاقي والمسئولية ضمن مصطلح الضمير. ولآباء الكنيسة رؤية في تفسير مصطلح الضمير تجدها في هذه الآية «حَيْثُ دُودُهُمْ لاَ يَمُوتُ وَالنَّارُ لاَ تُطْفَأُ.» (مر 9: 44)، إنَّ هذا الدود هو الضمير الموبِّخ الذي يظل يُبكِّت الخطاة في عذاب الحياة المزمعة. ويصف الشاعر الروسي «بوشكين» هذا العذاب قائلاً عن الضمير: «إنه ضيفٌ غير مدعوٍّ، مُخاطِبٌ مزعج، دائنٌ عنيف»!
وقد عرف عن أمي الحبيبة الطيبة ضميرها الحي فلم تقصر في تعليم أولادها ولا في زرع القيم الأساسية في التربية التي تهدف إلى تهذيب الكثير من السلوكيات السلبية، وتصحيح الكثير من المفاهيم الخاطئة حيث كان دستورها في التربية الكتاب المقدس الذي ذكر قائلاً: «وَلْتَكُنْ هذِهِ الْكَلِمَاتُ الَّتِي أَنَا أُوصِيكَ بِهَا الْيَوْمَ عَلَى قَلْبِكَ،وَقُصَّهَا عَلَى أَوْلاَدِكَ، وَتَكَلَّمْ بِهَا حِينَ تَجْلِسُ فِي بَيْتِكَ، وَحِينَ تَمْشِي فِي الطَّرِيقِ،وَحِينَ تَنَامُ وَحِينَ تَقُومُ» (تث 6: 6-7)، فضلا عن العديد من الطرق التربوية الهادفة
نذكر منها: المناقشة أو الحوار، وأيضًا النصح والإرشاد النفسي، وكذلك تذكيرهم بالنموذج الجيد ذو القدوة الحسنة وخاصة الشخصيات التي نجحت في داخل المجتمع.
فدائما ما كنت هذه الأم الطيبة تقص عليهم نماذج من الكتاب القائل: “اُذْكُرُوا مُرْشِدِيكُمُ الَّذِينَ كَلَّمُوكُمْ بِكَلِمَةِ اللهِ. انْظُرُوا إِلَى نِهَايَةِ سِيرَتِهِمْ فَتَمَثَّلُوا بِإِيمَانِهِمْ.”(عب13: 7).
وأيضًا”كُونُوا مُتَمَثِّلِينَ بِاللهِ كَأَوْلاَدٍ أَحِبَّاءَ،”(أف5: 1). فكانت تهدف إلى تمسك أبنائها بالتعاليم المسيحية وفي نفس الوقت يتمسكوا بالقيم والعادات والتقاليد القيمة السائدة في المجتمع.
فضميرها الحي، كان الأساس في تعلم الفضائل “أَخِيرًا أَيُّهَا الإِخْوَةُ كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ، إِنْ كَانَتْ فَضِيلَةٌ وَإِنْ كَانَ مَدْحٌ، فَفِي هذِهِ افْتَكِرُوا” (رسالة بولس الرسول إلى أهل فيلبي 4: 8) .
وفي ذات السياق كانت أمي الحبيبة الطيبة توقظ ضمائر أولادها فتخبرهم بأن صوت الضمير هو صوت الله في داخل الإنسان.
لأن كل إنسان يألف صوته الداخلي الذي يتهمه في بعض الأحيان ويُضيِّق عليه، وفي أحوالٍ أخرى يجلب له السرور.
وهذا الصوت الرقيق إنما هو شعور فطري يُدعَى «الضمير». وهو بطبيعته غريزة روحية تُفرِّق بين الخير والشر بوضوح وبسرعة أكثر من الذهن.
ومَن يستمع لصوت ضميره لا يندم قط أو يخجل من سلوكه.
وفي العظة على الجبل شبَّه الرب يسوع الضمير بالعين، لأن الإنسان يُقيِّم بها حالته الأخلاقية، إذ قال: «سراج الجسد هو العين. فإن كانت عينك بسيطة، فجسدك كله يكون نيِّراً.
وإن كانت عينك شريرة، فجسدك كله يكون مظلماً»(مت6: 23،22). كما أنه شبَّه الضمير بالندِّ الذي به يجب على الإنسان أن يعود إلى صوابه قبل أن يتواجد أمام دينونة الله: “كُنْ مُرَاضِيًا لِخَصْمِكَ سَرِيعًا مَا دُمْتَ مَعَهُ فِي الطَّرِيقِ، لِئَلاَّ يُسَلِّمَكَ الْخَصْمُ إِلَى الْقَاضِي،وَيُسَلِّمَكَ الْقَاضِي إِلَى الشُّرَطِيِّ، فَتُلْقَى فِي السِّجْنِ”.(مت5:25).
وعلى هذا فإن كلمة «خصم» تؤكِّد على موقف الضمير،وهو أنه يُقاوم رغباتنا ومقاصدنا الشريرة.
وهنا كانت الأم الطيبة دائما تهتم بيقظة أولادها بتفكيرهم بالأمانة في دروسهم وامتحاناتهم وتعاملهم مع معلميهم وأصدقائهم.
وحقًا كانت أمي الحبيبة الطيبة مثل النحلة التي تجمع الحب من جميع أزهار الحياة، وتُحوّله إلى عسلٍ صافٍ لتسقي به أبناءها وهي في قمة سعادتها؛لأنّها اعتادت على العطاء دون حساب، ودون أن تنتظر مقابلًا من أحد، فهي تسهر على راحتنا، دون أن تُفكر في نفسها أو تعبها.
فضميرها الحي وخوفها على أولادها جعلها تشعرهم بالأمان وتُظللهم بالرعاية والعناية في كلّ وقت.
فكانت تطلب منهم”الصَّلاَةِ وَالدُّعَاءِ مَعَ الشُّكْرِ، لِتُعْلَمْ طِلْبَاتُكُمْ لَدَى اللهِ.” (في 4: 6). وأيضًا أن يلقوا كل هموهم على الله لأن الكتاب يقول: “مُلْقِينَ كُلَّ هَمِّكُمْ عَلَيْهِ، لأَنَّهُ هُوَ يَعْتَنِي بِكُمْ.” (1 بط 5: 7).
وهنا أؤكد أن أمي الحبيبة الطيبة اِشْتَهَرْت بضميرها الحي والأمين في نقل تعاليم الكنيسة إلى أبنائها وأحفادها.
لأن الكنيسة وتعاليمها تُمكِّن المؤمن من أن يتكمَّل أخلاقياً، وتجعل ضميره أكثر حساسية وتمييزاً. فتؤكد عليهم ما ذكر بالكتاب قائلاً: «قَدِّسُوا الرَّبَّ الإِلهَ فِي قُلُوبِكُمْ، مُسْتَعِدِّينَ دَائِمًا لِمُجَاوَبَةِ كُلِّ مَنْ يَسْأَلُكُمْ عَنْ سَبَبِ الرَّجَاءِ الَّذِي فِيكُمْ، بِوَدَاعَةٍ وَخَوْفٍ، وَلَكُمْ ضَمِيرٌ صَالِحٌ، لِكَيْ يَكُونَ الَّذِينَ يَشْتِمُونَ سِيرَتَكُمُ الصَّالِحَةَ فِي الْمَسِيحِ، يُخْزَوْنَ فِي مَا يَفْتَرُونَ عَلَيْكُمْ كَفَاعِلِي شَرّ».(1 بط 3: 15-16).ولذلك قال الرب: «طُوبَى لِلأَنْقِيَاءِ الْقَلْبِ، لأَنَّهُمْ يُعَايِنُونَ اللهَ. » (مت 5: 8).
والحقيقة أن النور الإلهي يدخل في نفوسنا من خلال ضمير نقي، وكأنه بللور صافٍ، ويخترق كل ركن فيها.
فالضمير النقي هو ينبوع لكل البركات الإلهية. وكما يقول القديس يوحنا ذهبي الفم: «لا الشهرة ولا الثروة ولا السلطان ولا القدرة الجسدية ولا المائدة الشهية ولا الملابس الأنيقة ولا أيَّة ميزة بشرية، يمكنها أن تجلب سعادة حقيقية؛ بل كل هذه تتأتَّى من صحة روحية وضمير نقي».
كما يقول القديس يوحنا الدرجي: «لنتخذ من ضميرنا ناصحاً لنا بعد الله، ودستوراً في كل شيء؛ وذلك لكي نعرف من أيَّة جهة تهبُّ الريح، فنفرد شِرَاعنا ونوجِّه سفينتنا طبقاً لها».
لقد رحلت أمي الحبيبة الطيبة وبقيت ذكراها الجميلة، وكلماتها العذبة، وصوت ضميرها الحي لن ننساها في قول الصدق والحق والعدالة، ومقاومة الظَّلَمَة ومساعدة ونصرة الْمَظْلُوم ومد يد العون للمحتاج فجميعها فضائل في تعاليم السيد المسيح.
رحلت أمي الحبيبة الطيبة، ولكنها تركت لنا تعزيات وومضات من حياتها اليومية ما زالت تعيش في داخلنا،لا يمكن أن تمحى من الذاكرة… نياحاً لروحك الطاهرة… يا أمي الحبيبة الطيبة!