في خمسينيات القرن الماضي..نشب سجال مثير بين أديب عصره عباس محمود العقاد وبين محمود شكوكو.
بدأت الحكاية عندما سأل أحد الصحفيين “العقاد” سؤالاً ماكرًا: مَن منكما أكثر شهرة: أنت أم محمود ﺷﻜﻮﻛو؟ رد “العقاد” مستغربًا أو متعجبًا: “مين شكوكو”؟! عندما وصلت القصة لـ”شكوكو” عبر الصحفي ذاته، قال له: ” قول لصاحبك العقاد: ينزل ميدان التحرير ويقف على أحد الأرصفة، وسأقف على رصيف مقابل، ونشوف الناس هتتجمع على مين”! فلم يكن من “العقاد” إلا أن يرد على الصحفي قائلاً: “قول لشكوكو: ينزل ميدان التحرير، ويقف على رصيف ويخلي “رقاصة” تقف على الصف التاني، ويشوف الناس هتتلم على مين أكثر”!! عبارة “العقاد” -برغم قسوتها- كانت تحمل رسالة بليغة عن المستوى العلمي والعمق الشخصي الشعبي العام، مفادها أن القيمة لا تُقاس بالجماهيرية أو بالشهرة..أو ما صار اسمه باللغة الحديثة: “الترند”.
ولو أن “العقاد” و”شكوكو” يعيشان في زمن السوشيال ميديا، فلا جدال في أن الأخير سوف يكون الأكثر مشاهدة ومتابعة وإعجابًا وتعليقًا وتحقيقًا للأرباح والأدنى جدوى وقيمة وتأثيرًا! “شكوكو” -الذي تحل ذكرى وفاته اليوم- هو أحد أبرز مَن قدموا فن “المونولوج” في مصر، وحقق من ورائه شهرة فائقة، أدخلته الإذاعة والمسرح والسينما وشارك في بطولة عدد كبير من الأفلام متفاوتة القيمة الفنية، ربما يبقى أشهرها وأخفها ظِلاً: “عنتر ولبلب” الذي تم إنتاجه في العام 1952، وكان فنانًا عفويًا خفيف الظل وحاضر البديهة.
أحيا “شكوكو” فن الأراجوز الذي كان قد اندثر، حتى أنه غنَّى للأراجوز أغنية: “ع الأراجوز يا سلام سلم”. تجوَّل شكوكو في الكثير من بلدان أوروبا وأمريكا اللاتينية بعرائس الأراجوز الخشبية.
كما اشتهر بالطاقية والجلابية البلدي، وأطلق عليه البعض: “شارلي شابلن العرب”، وهي الجولات التي لم يحظَ بها “العقاد” على أية حال! ورغم أنه كان أميًّا لا يجيد القراءة والكتابة، فإنَّ الرئيس الراحل أنور السادات كرَّم “شكوكو” في عيد العلم والفن، فيما كانت العلاقة بين الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وصاحب العبقريات الخالدة يكتنفها الجفاء والخصومة، وتبقى واقعة تكريمه يشوبها كثير من الغموض والجدل! كان “العقّاد” أديبًا وشاعرًا وناقدًا أدبيًّا وفيلسوفًا وسياسيًّا ومُؤرِّخًا وأهم الأعلام البارزة في الأدب العربيّ الحديث إلا إن أحدًا لم يحتفِ به كما احتفى أحد المتيمين بـ”شكوكو” عندما صمم له تماثيل من الصلصال له وكانت تلقى رواجًا واسعًا.
ورغم أن “العقّاد” جعل جُلّ حياته في أمور الدّين والسّياسة ففرّغ نفسه لها، وكانت مُصنّفاته تتنوّع بين: الفلسفة السّياسيّة، والاجتماعيّة، وفلسفة القرآن، كما تطرّق للسيّر الذّاتيّة للقادة المُسلمين الكِبار فإنه لم يحقق ما حققه “شكوكو” من ثروة مادية كبيرة من “شغل الأراجوزات” جعلته من أصحاب العقارات والسيارات الفارهة! و”شكوكو” هو صاحب المقولة الشهيرة الكاشفة: “مشينا في الهلس بنينا عمارة..ومشينا في الجد اشتهينا السيجارة”! ورغم رحيل “شكوكو” في مثل هذا اليوم من العام 1985، إلا إن شركة الطيران الرسمية تذيع على خطوطها جانبًا من مونولوجاته، ولم تفكر الشركة يومًا في أن توفر مؤلفات “العقاد” لعملائها مثلاً؛ فليس كل الناس على دين “شكوكو، ومن المؤكد أن هناك من تستهويه القراءة وتُغريه الثقافة”!!
مات “العقاد” في العام 1964، كما رحل “ِشكوكو” في العام 1985، ورغم ذلك لم يتغير شيء، ولا يزال وسوف يبقى المجد في أوطان العرب للأراجوزات.. رحم الله “العقاد” و “شكوكو”..وتولانا برحمته الواسعة.