كمال زاخر
ذهب طيف من الباحثين إلى أن صاحب سفر “الرؤيا” كان يشير إلى اسقف الكنيسة ويعنيه بكلمة “ملاك كنيسة كذا” فى رسائل الجالس على العرش إلى “الكنائس السبع”، وعلى الرغم من أن هذا السفر كتب بحسب علماء الكتاب المقدس، يدعمهم تقليد الكنيسة، قبيل انقضاء القرن الأول الميلادى إلا أنه يحسب سفراً استشرافياً، يجلى صورة الكنيسة المفدية وما سنكون عليه بامتداد الزمن، وما ستواجهه من متاعب ومصاعب، وما ستحصده من انتصارات روحية سلامية لحساب الإنسان تمتد إلى ما بعد الزمن، لذلك تسميه الكنيسة فى ادبياتها “سفر الجليان”، وظنى أن ما ذكره السفر فى اصحاحاته الأولى من ملاحظات على الكنائس ايجاباً بقوله “أعرف اعمالك وتعبك وصبرك …”، وسلباً بقوله “لى عليك انك تركت محبتك الأولى …”
ويتكرر الأمر مع كل كنيسة، فى صياغة أدبية راقية، ويحمل لغة تجمع بين التحذير والرجاء، هى رسالة لكل راع ترسم له خارطة طريق لعمله، الواجبات والمسئوليات وما ينتظره من مكافآت تعوضه عن جهاده وتعبه كأكاليل مجد.
يتكرر الأمر مع كل كنيسة:ـ “مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ شَجَرَةِ الْحَيَاةِ الَّتِي فِي وَسَطِ فِرْدَوْسِ اللهِ.”ـ “مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَلاَ يُؤْذِيهِ الْمَوْتُ الثَّانِي”ـ مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ. مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَأْكُلَ مِنَ الْمَنِّ الْمُخْفَى، وَأُعْطِيهِ حَصَاةً بَيْضَاءَ، وَعَلَى الْحَصَاةِ اسْمٌ جَدِيدٌ مَكْتُوبٌ لاَ يَعْرِفُهُ أَحَدٌ غَيْرُ الَّذِي يَأْخُذُ”.ـ وَمَنْ يَغْلِبُ وَيَحْفَظُ أَعْمَالِي إِلَى النِّهَايَةِ فَسَأُعْطِيهِ سُلْطَانًا عَلَى الأُمَمِ، فَيَرْعَاهُمْ بِقَضِيبٍ مِنْ حَدِيدٍ، كَمَا تُكْسَرُ آنِيَةٌ مِنْ خَزَفٍ، كَمَا أَخَذْتُ أَنَا أَيْضًا مِنْ عِنْدِ أَبِي، وَأُعْطِيهِ كَوْكَبَ الصُّبْحِ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ”.ـ مَنْ يَغْلِبُ فَذلِكَ سَيَلْبَسُ ثِيَابًا بِيضًا، وَلَنْ أَمْحُوَ اسْمَهُ مِنْ سِفْرِ الْحَيَاةِ، وَسَأَعْتَرِفُ بِاسْمِهِ أَمَامَ أَبِي وَأَمَامَ مَلاَئِكَتِهِ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ”.ـ مَنْ يَغْلِبُ فَسَأَجْعَلُهُ عَمُودًا فِي هَيْكَلِ إِلهِي، وَلاَ يَعُودُ يَخْرُجُ إِلَى خَارِجٍ، وَأَكْتُبُ عَلَيْهِ اسْمَ إِلهِي، وَاسْمَ مَدِينَةِ إِلهِي، أُورُشَلِيمَ الْجَدِيدَةِ النَّازِلَةِ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ عِنْدِ إِلهِي، وَاسْمِي الْجَدِيدَ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ”.ـ مَنْ يَغْلِبُ فَسَأُعْطِيهِ أَنْ يَجْلِسَ مَعِي فِي عَرْشِي، كَمَا غَلَبْتُ أَنَا أَيْضًا وَجَلَسْتُ مَعَ أَبِي فِي عَرْشِهِ. مَنْ لَهُ أُذُنٌ فَلْيَسْمَعْ مَا يَقُولُهُ الرُّوحُ لِلْكَنَائِسِ”.
اللافت أن الكنيسة تخصص ليلة السبت الذى يسبق أحد القيامة، بطولها لقراءة سفر الرؤيا بل وتسميها بإسمه، ليلة ابوغلامسيس، وهى النطق الشعبى العربى للكلمة اليونانية إيبوكلابسيس وترجمتها “الرؤيا” إشارة إلى سفر الرؤيا، وتعكس عبقرية لاهوتية بالربط بين محتوى السفر من رموز اخروية، لم نكن لندركها بغير حدث الفداء، ونزول المسيح إلى الجحيم وتحريره لنفوس المقبوض عليهم فيه.
أى عبء وأى مجد يحملهما الأسقف، وهو يتمم عمل الله فى خدمته، ولعل هذا يجعلنا نتساءل عن اللا معنى للصراعات التى ينخدع بها طيف من الأساقفة، والتى تأتى خصماً من المجد وإضافة إلى العبء.
وما يتفاقم عنها من تحالفات وتوافقات شللية تعوق بالضرورة بل وتهدم عمل الرعاية وخلاص النفوس التى هى مهمة الاسقف الأولى.
أو التحول من الأبوة إلى السلطة، وما يحمله هذا التحول من تصرفات تحجب عنه عمل النعمة فتتحول إلى صدام الذات التى تتضخم، وتطلب ما لنفسها وتستغرقها مسارات اشباعها، وتستغرقة جملة “ان كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟” التى يقتطعها من سياقها وينسبها لنفسه، فيما هى تأتى ضمن تأنيب الله للكهنة فى تقصيرهم :”الابْنُ يُكْرِمُ أَبَاهُ، وَالْعَبْدُ يُكْرِمُ سَيِّدَهُ. فَإِنْ كُنْتُ أَنَا أَبًا، فَأَيْنَ كَرَامَتِي؟ وَإِنْ كُنْتُ سَيِّدًا، فَأَيْنَ هَيْبَتِي؟ قَالَ لَكُمْ رَبُّ الْجُنُودِ. أَيُّهَا الْكَهَنَةُ الْمُحْتَقِرُونَ اسْمِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ احْتَقَرْنَا اسْمَكَ؟ تُقَرِّبُونَ خُبْزًا نَجِسًا عَلَى مَذْبَحِي. وَتَقُولُونَ: بِمَ نَجَّسْنَاكَ؟ بِقَوْلِكُمْ: إِنَّ مَائِدَةَ الرَّبِّ مُحْتَقَرَةٌ. وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْمَى ذَبِيحَةً، أَفَلَيْسَ ذلِكَ شَرًّا؟ وَإِنْ قَرَّبْتُمُ الأَعْرَجَ وَالسَّقِيمَ، أَفَلَيْسَ ذلِكَ شَرًّا؟ قَرِّبْهُ لِوَالِيكَ، أَفَيَرْضَى عَلَيْكَ أَوْ يَرْفَعُ وَجْهَكَ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. وَالآنَ تَرَضَّوْا وَجْهَ اللهِ فَيَتَرَاءَفَ عَلَيْنَا. هذِهِ كَانَتْ مِنْ يَدِكُمْ. هَلْ يَرْفَعُ وَجْهَكُمْ؟ قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ.”!! (ملاخى 1 : 6 ـ 9).
استحضر فى هذه اللحظة ما سبق وسجلته فى هذه الأطروحة حين تعرضت لطقس رسامة الأسقف وكذلك طقس تجليسه، والكنيسة تعلنه : إرع رعية الله التى أقامك الروح القدس عليها ومن يديك يطلب دمها، ويمر أمامى شريط ذكريات العديد منهم وعيونهم تفطر دمعاً حينها ومازالت شرائط الفيديو التى وثقت تلك اللحظات متاحة فى خزانة الأفلام الوثائقية.
وتقفز أمامى حكايات السنكسار التى تحكى موقف الأم القروية القبطية التى اشاحت بوجهها عن إبنها الذى طرق بابها فى مستهل جولته الرعوية بعد رسامته بابا للكنيسة، فظن أنها لم تتعرف عليه وقد تغير شكله وملبسه، فصدمته، بل أعرفك يا إبن بطنى؛ وكنت اتمنى أن يأتونى بخبرك عن أن اراك فى هذه المسئولية الثقيلة، التى صرت فيها مطالباً بأن تعطى حساباً عن كل نفس فى رعيتك.
وتقول الحكاية أنه لم يكف لحظة بعدها عن افتقاد الكنائس وتعليم الرعية بدموع ومثابرة.
الأمر يستحق وقفة حازمة وأمينة منك أيها الأسقف لنفسك، تواجهها بأنك خادم ولست سيداً، وهدفك خلاص نفوس من أؤتمنت عليهم وليس السيطرة على حياتهم واخضاعهم، تذكر كيف كان سيدك يفعل ويعمل ذلك، ومازال ايضاً يعمل، وهو الخالق والسيد، لذلك فالكنيسة لا تتوقف فى ليتورجيتها عن الصلاة من أجلك، وأذكر مرة سألت أحد الآباء المختبرين عن دلالة أن يعطى للكاهن أن يضع يد بخور فيما يعطى للأسقف أن يضع ثلاث اياد عندما تقدم له الشورية، وكنت أظنها نوع من الإكرام لفارق الرتبة، فقال لى الكنيسة الحكيمة تنبه الأسقف إلى أنه يحتاج لقدر من الصلاة اضعاف ما يكلف به الكاهن الأصغر، بقدر ثقل مسئوليته المضاعفة.
فتغلف رسالتها فى طقسها ويدركها هو بحسه الروحى.
وحين يتردد أسم الأسقف فى لحن من الألحان أو صلاة من الصلوات، نجده يرسم على صدره علامة الصليب، بحسب تسليم الآباء، وكأن الكنيسة تحذره أن يحتمى خلف الصليب من ضربات اليمين التى قد تهاجمه لحظتها بأنه الأقدس والأعلى والأكبر، فيعطى المجد لله.
تكليفك الأول ايها الأسقف كما قال وفعل راعى الرعاة:”لانه هكذا قال السيد الرب.
هانذا اسال عن غنمي وافتقدها كما يفتقد الراعي قطيعه يوم يكون في وسط غنمه المشتتة هكذا افتقد غنمي واخلصها من جميع الاماكن التي تشتتت اليها في يوم الغيم والضباب، واخرجها من الشعوب واجمعها من الاراضي واتي بها الى ارضها وارعاها على جبال اسرائيل وفي الاودية وفي جميع مساكن الارض، ارعاها في مرعى جيد ويكون مراحها على جبال اسرائيل العالية هنالك تربض في مراح حسن وفي مرعى دسم يرعون على جبال اسرائيل، انا ارعى غنمي واربضها يقول السيد الربواطلب الضال، واسترد المطرود،واجبر الكسير، واعصب الجريح، وابيد السمين والقوي، وارعاها بعدل.” (حزقيال 34 : 11 ـ 16)
ومازال للطرح بقية.