ليس في الإسكندرية أجمل من جولة على الأقدام في شارع النبي دانيال. فعلاوة على الاسم الفريد، يعد شارعنا هذا دليلك لاستلهام آخر ما بقي من أرواح الإسكندرية.وأجمل ما تفعله أن تبدأ جولتك من الجهة القبلية، حيث يبدأ الشارع بالمسجد الذي يحمل اسم النبي دانيال وأمامه وحوله أكشاك بيع الكتب القديمة، وفي الخلفية ضوضاء السفر في ميدان محرم بك ومحطة مصر، وعلى مرمى حجر تقف الآثار المعروفة باسم المسرح الروماني.
ولعلك تفعل مثلي هنا وتسمى منطقة المسرح الروماني باسمها المحلي القديم “كوم الدكة” وذلك لأن “الدكة” هي المقابل الشعبي لمدرجات المسرح الروماني.شهدت الجهة القبلية من شارع النبي دانيال محاولات أسطورية للتنقيب عن مقبرة الإسكندر الأكبر، ولم يكن يحلو للباحثين عن هذه المقبرة التفتيش سوى في مسجد النبي دانيال، حتى ذهب بعض المغامرين الألمان قبل 100 سنة إلى أنه إذا ما أزيل هذا المسجد فسيكون العثور على كنوز مقبرة الإسكندر أمرا سهلا ميسورا.
وإذا تركت ساقيك للمشي في شارع النبي دانيال منطلقا من كوم الدكة فليس أمامك سوى الاندفاع بالغريزة الجغرافية ورائحة المتوسط إلى البحر بزرقته وخلجانه وآثاره.
وقبل أن تبلغ البحر يدهشك أنه يختفي عنك فجأة بفعل ارتفاع الطبوغرافيا لنحو 7 أمتار، لكن سرعان ما ينكشف لك أروع مشاهد الإسكندرية فترى الحوض الشرقي ومن خلفه قلعة قايتباي التي قامت محل فنار الإسكندرية.بلوغ البحر من جهة النبي دانيال أو من جهة نظيره المواز له (شارع صفية زغلول) يفضي بك إلى النصب التذكاري لتمثال سعد زغلول.
وربما لا يدرك كثير منا أن هذا التمثال المهيب الذي نحته محمود مختار قبل قرن من الزمن يحاول أن يعوض خسارة وفقد أهم معلم أثري في كل الإسكندرية والذي كانت تمثله اثنتان من أعظم المسلات الفرعونية المعروفة تجاوزا باسم “مسلة كليوباترا”.
وقد بلغت شهرة هاتين المسلتين أن الأقدمين كانوا يعتبرونهما النظير المقابل لأهرامات الجيزة. ففي المنطقة التي يقع فيها اليوم ميدان محطة الرمل وتمثال سعد زغلول كانت المسلتان تزينان ساحل المتوسط: واحدة واقفة منتصبة ممشوقة والثانية مستلقية على الأرض إلى جوار شقيقتها إثر زلزال ضرب المنقطة.
ورغم كل ما يزعمه الرحالة الغرباء وما يسوقه علماء الآثار في القرون الحديثة من “اكتشاف” وجود المسلتين على ساحل الإسكندرية، فإن أول من سجل وجود هاتين المسلتين هو الرحالة والطبيب العربي عبد اللطيف البغدادي قبل ما يزيد عن 800 سنة في كتابه الذي عرضنا له في مقال أمس.
ظلت المسلتان عل ساحل الإسكندرية قرونا متصلة وتحت تهديد الديون التي وقع فيها الخديوي إسماعيل تم إهداء المسلتين: واحدة إلى إنجلترا ليتم رفعها في لندن والثانية إلى الولايات المتحدة ليتم رفعها في نيويورك.
وإذا كان محمد علي باشا قد أهدى مسلة معبد الأقصر إلى فرنسا لترتفع في سماء باريس طمعا في التعاون والتحالف العسكري والفني فإن حفيده إسماعيل لم يبخل بالمسلتين على بقية القوى العظمى.
ولو أن هناك فارقا بين الجد والحفيد، فهو أن الأول أعطى مسلة الأقصر على سبيل التملق والتقرب والرشوة، والثاني أعطاها تحت وطأة الاستدانة والابتزاز والتهديد، ولم يشفع له ذلك فقد تم طرده من البلاد ووقع الاحتلال الإنجليزي في عهد ابنه توفيق. وتاريخ المسلتين ليس ببعيد عن التلاعب بهما.
قد كشف علماء الآثار المحدثون أن النقوش التي على المسلتين ترجعهما إلى عهد الملك تحتمس الثالث (قبل 3500 سنة مضت) ثم أضاف إليها مزيدا من النقوش رمسيس الثاني لاحقا.
ورغم أن المسلتين تتعلقان بتاريخ مصر القديم إلا أنه بعد مصرع كليوباترا وسقوط مصر في قبضة الاحتلال الروماني، أمر الإمبراطور أغسطس بنقل المسلتين من موقعهما من العاصمة المصرية القديمة “أون” (عين شمس) ليتم نصبهما في الإسكندرية وجاء موقعهما بجوار معبد شيد في عهد كليوباترا فنسبت المسلتان إليها وصارتا تعرفا باسم مسلة كليوباترا.
ليس أمامك السفر إلى لندن أو نيويورك، لكن على أي حال، ما زال في وسعك خلال تجوالك في محيط محطة الرمل والنصب التذكاري لسعد زغلول أن تستحضر قصة هاتين المسلتين العظيمتين، وليتك تفعل ذلك قادما من شارع “النبي دانيال”.
نقلا من صفحة الدكتور عاطف معتمد