الأحد , ديسمبر 22 2024
انطون غبريال عياد
أنطون غبريال عياد

الحب عند الفلاسفة

للباحث | أنطون غبريال عياد

الحُبّ هو عبارة عن حاجة إنسانية عظيمة تعادل في مفهومها معنى الحياة، وتتعدد أوجه الحُبّ وأنواعه تبعاً لاختلاف المراحل التي يمرّ بها الإنسان أثناء حياته، بالإضافة إلى اختلاف الظروف المحيطة التي يعيشها منذ نعومة أظفاره، فمثلاً يبدأ الإنسان حياته بحُبّه لوالديه وتعلقه بهما، ثمّ ينشأ الحُبّ الأخوي مع أصدقائه، ثمّ يأتي الحُبّ للجنس المختلف

والجدير بالذكر أنّ الإنسان أيّاً كانت ظروفه وصفاته فلا بُدّ من أن يتوق إلى إنسان آخر يحبّه ويحبّ ذاته، وعادةً ما يُسمّى هذا الإنسان بالنصف الثاني، ويمكن القول إنّ الإنسان في محاولة دائمة لأن يجعل من نفسه شخصاً محبوباً، ويبذل جهداً كبيراً ليجذب إليه الآخرين، وللتأكيد على أهميّة الحبّ في حياة الإنسان فإنّ علمَي النفس والاجتماع يُظهران أنّ المشكلات الأساسية في حياة الإنسان والاضطرابات في سلوكه ونفسيّته؛ هي نتيجة نقص الحُبّ في حياته.

فلسفة الحُبّ الحُبّ في الفلسفة هو عبارة عن كلمة غير مرتبطة بشيء حقيقي أو محسوس، ويمكن القول إنّه شيء لا يمكن إدراكه بالعقل أو شرحه بالمنطق، وإنّ الحُبّ هو ما يجعل الإنسان يظهر بشخصيته الحقيقيّة.

قد بدأت فلسفة الحُبّ عند الإغريق، حيث كانوا يرون أنّ الحُبّ هو من الدعامات الأساسية للفلسفة، وشرعوا في بناء النظريات المُتعددة التي طوّورت الحُبّ من مفهومه المادي إلى مفهومه الروحي في أعلى سِماته، مروراً بكون الحُبّ صفةً أساسيّةً وجينيّةً تظهر آثارها في سلوك الكائنات الحية

أمّا في التقاليد الغربية فقد ظهر الفيلسوف أفلاطون الذي نادى بكون الحُبّ سلسلةً من المشاعر والأحاسيس التي تسيطر عليها الرغبة الحيوانيّة، وقد عبّر أفلاطون عن الشخص الباحث عن الحُبّ بأنه نصفٌ يبحث عن نصفه الآخر، كما رأى أنّ الحُبّ ما هو إلّا وسيلة للخلاص؛ فهو الطريق نحو التحرر الفكري والعاطفي الذي يقود الإنسان إلى حُريّته .

أمّا أرسطو فقد خرج بنظرية تفيد أنّ الحُبّ هو علاقة تعبّر عن جسَدَين بروح واحدة، وقال في الحُبّ إنّه شيء لا مُنتهٍ، فالحُبّ الذي ينتهي لا يكون حُبّاً حقيقياً، كما عبّر عن الحُبّ بأنه أسطورة من الأساطير التي تعجز البشرية عن إدراك ماهيتها، ولا يعبّر عنها إلّا من صدقها في معناها، ومن وجهة نظره فإنّ الحُبّ قوة لا يمكن إدراكها أو شرحها، وهي ما تُدخل الإنسان في عالم آخر، وتُبدّل شخصيته لتظهرها على حقيقتها

ومن ثمّ تُظهِر الأنا المختفية في الأعماق، حيث إنّ ما يخفيه الإنسان من مشاعر عادةً ما يظهر حين يحبّ، فيتخلى عن حُبّ السيطرة والتملك والأنانية ويطلق العنان لمشاعره، أمّا سقراط فيرى أيضاً أن الحُبّ الذي ينتهي ليس حبّاً، وهو يعطي الحُبّ رفعته ومكانته المقدسة، فيقول فيه إنه شوق النفس إلى الجمال الإلهي الذي لا ينضب ولا ينتهي، وقد فسّر الحُبّ وفلسفه فلاسفة كُثر عمدوا إلى عدة تصريحات وتفسيرات تربط الحُبّ بالحياة البشرية والطبيعة بطرق مقنعة، وذلك اعتماداً على الطبيعة البشرية، والأخلاق، والرغبة الجسديّة.

طبيعة الحُبّ عند الفلاسفة إنّ أيّ مناقشة فلسفيّة حول الحُبّ تبدأ بالحديث عن طبيعته؛ فقد رأى بعض الفلاسفة أن الحُبّ لا يمكن التعبير عنه منطقياً أو إدراكه بالعقل، أمّا النُّقاد لهذه النظرية فرأوا أن الحُبّ يمكن التعبير عنه، فهو إخراج الإنسان لمشاعره التي تتحدى العقل. لم يتمّ الاعتراف بمصطلح الحبّ أساساً في بعض اللغات

مثل:

لغة البابوا، لكن كانت له عدّة مفاهيم ومصطلحات في لغات عديدة؛ ففي اللغة الإنجليزية يُعبّر عن الحُبّ بكلمة (love)، وتم اشتقاقها من الكلمة السنسكريتية (lubh) التي تعني الرغبة، وفي اللغة اليونانية يُعبّر عن الحُبّ بعدة مصطلحات،مثل: إيروس باليونانيّة: Eros)، وفيليا (باليونانيّة: Philia) وأجابيه (باليونانيّة Agape)) يُستخدَم مصطلح إيروس عادةً للإشارة إلى الحُبّ الذي يشكّل رغبةً عارمةً بشيء ما، أو ما يعبّر عن الرغبة العاطفية، وعادةً ما يُشار إلى هذه الرغبة بأنها الرغبة الجنسية

أمّا عند أفلاطون وسقراط فيُشار بكلمة إيروس إلى الرغبة التي تسعى نحو الجمال الحقيقي؛ حيث يرى أفلاطون وسقراط أنّ الحُبّ الذي يتولد ويسعى إلى الجمال هو حُبّ باقٍ ما بقي الإنسان، ويرى ليديل أنّ إيروس نوع من الرغبة العاطفية، التي تتعلق بالرغبة الجنسية عادةً، في حين يصف نيغرين إيروس بأنّها كلمة تعبر عن حُبّ الرغبة بشيء ما، وهي كلمة تتمركز حول الذات الإنسانية، أمّا سوبل فيرى أنّ إيروس تصف الأنانية، وهي كلمة بعيدة عن الجنس

كما وصف الحبّ الإيروسكي بمعنى أن تحبّ شيئاً؛ أي أن تستجيب لرغباته، أمّا مصطلح فيليا عند اليونان فهو ما يشتمل على الولاء والتقدير للآخرين. ولم يقتصر مفهوم فيليا عند اليونان على الولاء والتقدير للأصدقاء فقط، وإنّما على الولاء للأسرة والمجتمع بل والعمل أيضاً

ويرى أرسطو أن مصطلح فيليا يعبّر عن الدافعية والتحفيز، كما يعبّر عن فيليا بأنّها تشارك الأصدقاء في أمورهم وتصرفاتهم، وبأنّهم لا يملكون الضغائن والأحقاد تجاه بعضهم البعض، كما أنّهم يعجبون بعضهم البعض، فلا تنبثق فيليا من العدوانيّين، والثرثارين والظالمين

وقد رأى ليديل أنّ فيليا تعبر عن المودة والحميميّة تجاه الأصدقاء، وأفراد العائلة، والشركاء في التجارة أيضاً،أمّا مصطلح أجابيه فيشير إلى حبّ الله للإنسان وحبّ الإنسان لله، ويمتد ليشمل حبّ البشر لبعضهم البعض، ويمكن القول إنّ لفظة أجابيه تسعى إلى الحبّ الكامل أو الحبّ المثالي، وفي التقاليد اليهوديّة والمسيحيّة تم التعبير عن أجابيه بأنه على الإنسان أن يحبّ الرب من كلّ قلبه، وبكلّ روحه، وبكلّ ما بوسعه أن يبذله من تفانٍ مُطلق.

الحُبّ في نظر الأدباء والفلاسفة العرب للحُبّ في نظر الأدباء والفلاسفة العرب وجهات وآراء عديدة، وله مؤلفات خاصة متعددة، فقد عبّر الجاحظ عن الحُبّ في كتابه النساء

وفي كتاب رسالة القيان بأنّه ذلك الشعور العقلاني البعيد عن اللهو، وقد طالب الناس أن يقاوموه، أمّا ابن حزم الأندلسي فقد رأى في كتاب طوق الحمامة في الألفة أن الحُبّ يبدأ بالهزل وينتهي بالجدّ، وهو شيء لا تُدرَك معانيه ولا يوصَف إلّا بالمعاناة

كما يقول إنّ جميع أنواع الحُبّ القائمة على المنفعة الحسيّة تزول بسرعة، وتنتهي بانتهاء عِللها باستثناء العشق المتأصّل والمتوغل في النفس، فلا ينتهي إلّا بالموت ورأى أبو بكر الرازي أنّ الإنسان يُبتلى بالعشق، لذلك نادى بضرورة الابتعاد عنه؛ حيث وجد أنّ العشق يقع لمن هو قليل الحظ ومن يفضل الرغبات الحسية على الروحية

وقد كان رأي ابن سينا مماثلاً لرأي أبي بكر الرازي في أن الحبّ عِلّة ومرض، وقد تطرّق في كتابه القانون إلى العلامات التي تظهر على من يحبّ، مثل: تشتت الذهن واختلاطه، وفساد مخيّلته، بالإضافة إلى الهذيان والحماقة، كما قارن بين العشق وحالة الاكتئاب عند فراق المحبوب وهجرانه؛ ففي الاكتئاب تتغيّر الحالة النفسية للفرد من الفرح إلى الحزن، ومن الضحك إلى البكاء

أمّا رأي ابن عربي في الحبّ فقد عبّر عنه في كتابه الفتوحات المكية، فقال إنّ من علامات الحبّ عدم مقدرة المُحبّ على النوم، وإنّ العشق يكون لذاته، أي أنّ الغاية هي العشق وما بعده أيّة غاية، وقد ضرب أمثلةً في العشق، منها: عشق قيس بن الملوح لليلى؛ حيث كان يكرّر اسمها ويناديها، وإن لبّت النداء طلب منها الابتعاد، فهو منشغل بنداءات الحُبّ. ويضيف ابن عربي أنّ الحبّ درجاتٍ، يبدأ بالهوى الذي يعبّر عن الميل العاطفي الذي ينشأ من نظرة عابرة

أمّا الدرجة الثانية فهي الحُبّ الذي يُعبّر عنه بالميل العاطفي مثيل الهوى إلّا أنّه يقوم على الإخلاص، ويختار الإنسان فيه محبوباً واحداً لا يتجاوزه إلى غيره

وأخيراً تأتي ثالث درجات الحبّ وهي العشق الذي يعني المحبّة بإسراف، فتستولي المشاعر الجيّاشة على صاحبها وتسيطر عليه، لدرجة أنّه لا يشعر بأحد إلّا بمحبوبه الذي يُغنيه عن الكون بأكمله

شاهد أيضاً

المغرب

مهرجان الفوضى الخلاقة ؟

نجيب طـلال كــواليس الفـوضى : ما أشرنا إليه سلفا حول المهرجان الوطني للمسرح (؟)(1) اعتقد …

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.