كمال زاخر
تلقيت عبر خاصية الرسائل، فى الفضاء الالكترونى، العديد من المداخلات الجادة والقلقة، عقب نشر مقالى السابق مباشرة والذى تناول اشكالية تقاعد الأسقف (بالإستقالة أو الإقالة) بتعدد الأسباب، وكنت قد أشرت فيه إلى استكمال طرحى بتناول الجانب القانونى المدنى الذى رتب امتداد مظلة التأمينات الاجتماعية لتشمل بقية رتب الإكليروس دون الأسقف، “قرار الهيئة القومية للتأمين الاجتماعي رقم 101 لسنة 2020، بشأن سريان التأمين الاجتماعي على أصحاب الأعمال ومن فى حكمهم على القساوسة والشمامسة المكرسين”.
ويمكن طرح ومناقشة التعليقات بإيجاز فى ثلاثة محاور: المحور الأول: الإنحراف بحق التقاعد وإمكانية الإحالة إليه، ليتحول من إجراء لصالح منظومة الرعاية وإنسانية الراعى، إلى أداة ابعاد وقمع من لا يقفون على نفس الخط التدبيرى مع الأسقف.
وهو تخوف ابداه العديد من الكهنة، واللافت أن غالبيتهم من ايبارشيات الأقاليم، وهم يرون أن ضوابط التقاعد لا بد أن تكون محددة المعالم وفى صياغة منضبطة لا تحتمل التأويل، ويدق الأمر فى شق الإحالة إلى التقاعد، أو الإقالة، من الذى يملك هذا الحق، وما هى إجراءاته وضوابطه، وما هى سياجات حماية الكاهن من التعسف تجاهه فى استعمال هذا الحق.
وكان السؤال ومن الذى يضع هذه الضوابط والسياجات؟، هل يترك الأمر لأسقف الأيبارشية، أم لمجمع الأساقفة، أم للجنة تشكل من شيوخ الكهنة؟.
أرى أن الصحيح تشكيل لجنة قانونية كنسية تضم خبراء مدنيين فى القانون المدنى والقانون الكنسى، وتضم معهم اطراف ثلاثة، ممثلين لمجمع الأساقفة، وممثلين لشيوخ الكهنة، وممثلين للأراخنة، ويراعى فيها التمثيل الجغرافى للإيبارشيات، وتعقد اللجنة جلسات استماع لتلقى رؤى ومقترحات كل من له صلة بالأمر المطروح، ثم تعلن مشروع القانون الذى انتهوا إليه، ويعرض على قواعد الأطراف الثلاثة وصولاً إلى صياغة نهائية تتفق والترتيب الكنسى وتحمى حقوق الكهنة وتضمن حياة كريمة ولائقة لهم ولأسرهم.
وتفصل بين حق التقاعد وبين حق الخدمة الكهنوتية الطقسية فى اداء الصلوات الليتورجية كلما احتاج اليها، فى كنيسته أو ايبارشيته، أو كضيف فى غيرها.
وتكفل توفير نظام تأمين طبى للكهنة المتقاعدين وأسرهم، سواء بإتفاق برتوكولى مع هيئة التأمين الصحى أو مع الجهات الطبية الخاصة محل الثقة (مستشفيات وعيادات) فى مختلف الإيبارشيات، يوفر لهم كشفاً دورياً، وعند الحاجة، وكذلك اجراء العمليات الجراحية الصغيرة والمتوسطة والكبرى.
وتدرس اللجنة بالتشاور مع هيئة الأوقاف القبطية وسكرتارية المجمع ولجنة الأديرة بالمجمع، امكانية إنشاء منظومة طبية متكاملة تمول من موارد الأديرة والكنائس كل بقدر امكاناته وملائته المالية، من خلال إنشاء صندوق يخصص لهذا الأمر، ويمكن دعوة رجال الأعمال للمساهمة فيه، والجهات المانحة فى اطار مجلس كنائس مصر ومجلس كنائس الشرق الأوسط ومجلس الكنائس العالمى، بأكبر درجة من الشفافية.
ويخضع لرقابة آلية تشكل من هيئة الأوقاف القبطية ومجمع الأساقفة والديوان البطريركى.
وحتى يستقيم الأمر تكون لجنة وضع مشروع القانون مركزية تمارس عملها تحت رعاية البابا البطريرك فى الديوان البطريركى، ويصدر ما تنتهى إليه بقرار مجمعى موقع عليه من كل أعضاء المجمع أو غالبيته، وتعلن اسماء الأعضاء الممتنعين عن التوقيع. واسبابهم.
المحور الثانى: حصر التعاطى مع الأمر فى جانبه المادى، فى حده الأدنى، وإهمال البعد الإنسانى سواء للكاهن أو أسرته.
والقاء التبعة على هيئة التأمينات ودوامة مارثون تكلفة المعيشة المتسارعة وسلحفاء زيادات المعاشات.
واللافت فى أمر التأمينات على الكهنة المدنيين، أنه جاء بعد رفض من الكنيسة ممتد إلى سبعينيات القرن العشرين، فى مقابل مطالبات وضغوط من جهة الكهنة والخدام الكنسيين المتفرغين، حتى سمحت لهم الكنيسة بالتقدم بشكل شخصى بطلب التأمين عليهم وتحت مسئوليتهم، وبصفتهم أصحاب أعمال، وان الأمر يتم بشكل ودى لعشرات السنين قبل صدور القرار المشار اليه والذى قنن هذا الأمر، وفيه يتحمل الكاهن ومن فى حكمه من شمامسة مكرسين ومرتلين كامل قيمة الإشتراك التأمينى، بعكس الفئات التى يتم التأمين عليهم بوصفهم عاملين
إذ يتحملون حصتهم المقررة قانوناً وتتحمل المنشأة حصة صاحب العمل، وهو أمر يحتاج تفسير، وقد قيل فيه تبريرات مختلفة، لعل أغربها أن الحالة الأخيرة تمنح هيئة التأمينات الحق فى التفتيش على المنشأة (الكنيسة) الأمر الذى يقلقها!!.
وقد شهدت الكنيسة محاولات متكررة من بعض الكهنة لإنشاء نقابة لهم، تتبنى قضاياهم وتدافع عن حقوقهم، وقوبلت برفض قاطع ولم تكتمل المحاولات لكنها كانت تشير إلى واقع قلق يعيشه الكهنة ومن فى حكمهم.
وابتداءً علينا أن ننتبه إلى أن الكهنوت واحد عند الأسقف والإيغومانس والقس، والتراتبية بينهم تراتبية تدبيرية ادارية، وليست سلطوية، يحكمها منظومة حقوق وواجبات فى اطار الخدمة ولا تمتد إلى الحياة الشخصية لدرجاتها، طالما أنها لا تخالف أو تناقض ضوابط الخدمة عندهم.
ووفقاً للقاعدة المستقرة فى الإدارة وفى القانون، فإن كل حق يقابله واجب، وعليه فإن من واجب الأسقف رعاية الكهنة المتقاعدين كما ان الأمر قبل تقاعدهم، باعتباره ابوهم الروحى وهم ابنائه، فى مجتمع اكليروسى سوى.
فالكاهن المدنى رب أسرة وهو مسئول عن توفير احتياجاتها المادية والنفسية، ومعرض هو وأسرته لأن تهاجمه الأمراض، وكثيراً ما يصاب بما يعيقه عن العمل ليس فقط بأمراض الشيخوخة، بل بأمراض مباغتة، نتيجة ما يثقل كاهله من ضغوط والتزامات، تقعده وتحول بينه وبين الحياة الآمنة الطبيعية، وقد يموت فجأة فى شبابه، ولا يترك خلفه ما يمكن لأسرته به أن تستكمل حياتها بشكل يحفظ لها استقرارها وكرامتها، وتجد أرملته نفسها فى وضع مأساوى.
المستفز هنا أن الأسقف حتى فى الايبارشيات الصغيرة يمكنه أن يسافر إلى الغرب لمراجعة الأطباء العالميين حتى فى الوعكات الصحية البسيطة، وفى كثير من الحالات لمجرد الاطمئنان على سلامته فى فحوصات دورية، وهو أمر يتكرر أكثر من مرة فى العام الواحد!!.
المحور الثالث: جمود ادارة الشئون المالية فى الكنيسة واطلاق يد الأسقف فيها، والإصرار المتتالى على ابعاد المدنيين عنها. وكأن هناك صراع بين جناحى الكنيسة بالمخالفة لما بيَّنه القديس بولس الرسول فى شأن التكامل الكنسى باعتيارها جسد واحد لكل عضو فيه دوره الذى لا يمكن الاستغناء عنه حتى الأعضاء التى نحسبها بلا قيمة!!،
وقد فصل هذا الأمر فى رسالته الأولى إلى كنيسة كورنثوس (فصل 12 وما بعده) “وَأَمَّا الآنَ فَقَدْ وَضَعَ اللهُ الأَعْضَاءَ، كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهَا فِي الْجَسَدِ، كَمَا أَرَادَ. وَلكِنْ لَوْ كَانَ جَمِيعُهَا عُضْوًا وَاحِدًا، أَيْنَ الْجَسَدُ؟ فَالآنَ أَعْضَاءٌ كَثِيرَةٌ، وَلكِنْ جَسَدٌ وَاحِدٌ. لاَ تَقْدِرُ الْعَيْنُ أَن تَقُولَ لِلْيَدِ:«لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكِ!». أَوِ الرَّأْسُ أَيْضًا لِلرِّجْلَيْنِ:«لاَ حَاجَةَ لِي إِلَيْكُمَا!». بَلْ بِالأَوْلَى أَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي تَظْهَرُ أَضْعَفَ هِيَ ضَرُورِيَّةٌ. وَأَعْضَاءُ الْجَسَدِ الَّتِي نَحْسِبُ أَنَّهَا بِلاَ كَرَامَةٍ نُعْطِيهَا كَرَامَةً أَفْضَلَ. وَالأَعْضَاءُ الْقَبِيحَةُ فِينَا لَهَا جَمَالٌ أَفْضَلُ.”!!.
وهو أمر حاولت أن اقترب منه بامتداد هذه السلسلة من الأطروحات، بحرص شديد، ولكن هناك الكثير الذى لا تحتمله السطور ولا الكنيسة، ويستوجب الدعوة للقاء مغلق تتواجه فيه الكنيسة مع واقعها المؤلم والمتفاقم والذى يحملنا إلى الخوف على الكنيسة نفسها، وهى مرشحة لتكرار ما حدث فى كنيسة شمال افريقيا.
لا قدر الله.
ويبقى السؤال حتى متى نصر على ابعاد جناح الأراخنة المدنيين من المشاركة الفاعلة فى ادارة شئون الكنيسة المادية والإدارية، والاكتفاء ـ أحياناً ـ بالدور الاستشارى وعلى مضض، والكنيسة لا يمكن أن تنجح فى رسالتها وهذا الجناح معطل؟.
ايها الأسقف لا تغرد وحدك … حتى لا يتوه من قدميك الطريق.